رحلة الغوص الأخيرة

لولوة المنصوري:
– توثيق ملحمي لمكابدات البحارة بحثاً عن اللؤلؤ
– رحلة الآلام: الغوص، البحر، الهير، المحار، اللؤلؤ، الزمن، والنساء المنتظرات
– الغواص في رحم البحار، منعزل ومتصل بأمه (الحياة) بحبل السيب، حبل الوجود
– وحده الغواص من يدرك سر التنفس وطقس احتباسه في الرئة
– مهما تنوعت نبرة النهمة وإيقاع الحماسة، يظل الحزن سيد البحارة والمراكب والغناء

في المنام:
يأتون تحديداً في هذا الموسم من كل عام، جماعات، كأسطول من المحاربين القدماء، يغوصون باستماتة دون توقف، وكأنها الرحلة الأخيرة لهم.
كلما غاص بحّار في منامي.. روى ما رأى: (رأيتُ نساءً يشبهن نساءنا يتبرّكن بالبحر ويأتين بالتمائم والنحاس، ورأيتُ النحاس يُنقل على سفن «ماجان»، وتمخر السفن إلى معبد «إيكور» في مدينة نفَّر).
.. (رأيتُ قراصنة البرتغال، فلقتُ محارة، وسجنتهم مكان اللؤلؤة، رأيتُ جيوشهم وقد تكسّروا إلى قطع من فخّار).
..(رأيتُ امرأة كأني أعرفها من زمان، غارقة تماماً في الماء. ثم فاض البحر، وصعد وجهها كفقاعة من اللؤلؤ).

في اليقظة:
تمخر البحرين في آخر سفينة للغياب، ثمة رحلة أخيرة للغوص، واللؤلؤ ينتظر في قاع أغسطس من عام 1964. شركة النفط «بابكو» تُكلِّف لتصوير هذه الرحلة الفوتوغرافي البحريني الشهير عبدالله الخان*.
في دفتر اللؤلؤ التوثيقيّ سيصف عبدالله الخان تلك الرحلة الشاقة وصفاً مؤثراً جداً:
«رأيتهم عندما يغوصون مثل جنّ في البحر، مثل كائنات بحرية لا آدمية…
رأيتُ الحياة والموت في وجوههم. رأيتهم مسخّرين.
عندما يبدأ الغيص في نزول البحر يُصبح آلة منزوعة الحسّ. رأيتهم مُخدّرين لا يهتمون بأنفسهم ولا يتكلمون. حركتهم مرهونة بحركة نبر الحبل في يد الغيص أعلى السفينة.. وهو الشخص الوحيد الذي تبدو عليه معالم الرأفة والإنسانية». دفتر اللؤلؤ، حسين المحروس، ص: 9.8.

ما بين اليقظة والمنام:
ما هو زمن اللُّجّة يا تُرى؟ زمن النزول في الأعماق؟ زمن عزلة الغواص بين خطوة الاحتشاد على الساحل، والرحيل إلى اللؤلؤة والدرب المائيّ نحو النجاة؟
ما زمن العزلة في ظرفها الإجباريّ الجمعيّ على سطح السفينة؟ رحلة اختراق بوابة الزمن في المطلق البحريّ، رحلة المصادفات والمجهول والاندفاع المغامر الساحر نحو قوة خفيّة في حقل العظام والمرجان والجنيّات الذين ينبثقون فجأة من فضاء طليق.. بِحَار موصولة ببِحَار لا تنتهي.
أقيس المسافة بين اليقظة والمنام وأرى فاصلة العزلة العُظمى في مياه السديم الأزرق، عُزلة منشطرة وفق نسق فرديّ وأُحاديّ:
بعيداً عن اليابسة هناك يباس مائي كبير ينتظر الغيص، عزلة (جماعية) بدرجة هَمٍّ تراجيدي موحد على سطح السفينة، هموم مجتمعة تشقّ عرض البحر وتتحدى مجاهيل الماء.
وعُزلة أخرى (فردية) في المُنتَأى القاعيّ، يختلي فيها الغواص للحظات في مياه الهيرات، خلوة صراعية يُقطع فيها النّفَس قسراً، يَغيب الزمن رغم حضور الحدث العنيف، حضور قويّ للعيون، عين الغواص وعين اللؤلؤة، (إن اللؤلؤ عيون) كما يقول عبدالله الخان. والقلب إشارة الرّوح، الجزء الدّال على المحار.

ويبدأ الصراع/ العقدة مع بدء انقطاع النّفس، وحده الغواص من يدرك سرّ التنفس وطقس احتباسه في الرئة، ذلك الممر الهوائي المستتر في الجسد، لا يمكن للماء أن يتهادن طويلاً مع شراع الرئة المفتوحة، لابد من إغلاق الممر وعزل الرئة، وهنا تكون رئة الغواص هي الأخرى في حالة عزل جبريّ مؤلم عن أهم مُكوّن وجوديّ جوهري.. الهواء.
كل تلك العُزلات تحدث لأجل التقاط كائن منعزل آخر (المحار)، مجرّة منعزلة عميقة في هباء البحر، عزلة منشطرة أيضاً، (جماعية) في حقل مرجاني، و(فردية) ملتصقة بالرمال. كائن في جوفه كينونة أخرى منعزلة، جسم مُهيّج صلب كحبة رمل أو حيوان طفيليّ، لمعان وحيد يستدير بين الصدفة والعباءة، ملتصقاً بالجدار الداخلي لرحم المحارة، رونق خفيّ في كامل بهاء العُزلة.
إنها (اللؤلؤة).. أأقول شيئاً من قبيل المجاز التقريبي؟ لعلها بقايا كواكب متحجرة منذ أزمنة الانفجار، تستدير في البحار بهناءة داخل مجرّة محارية، والدوران رمز أزليّ/ تشكُّليّ/ تنسُّكيّ ذاهب في اللانهايات.
وبالانتقال في هذه السلسلة إلى (عزلة اللؤلؤة).. تلمع الروح داخل الروح، بمسار أفعواني موازٍ لروح المحار.. روح الغواص.. روح السفينة، روح البحر العميق، روح الكواكب… ولن أغلق القوس هنا.
ألم أقل إنها سلالة من الفواصل اللانهائية في العُزلات؟
إنها حياة مهددة على السطح وذُعرٌ آخر في الأعماق.. كلٌ في وحدته، في عزلته النفسية الخاصة عبر رحلة الآلام: الغواص، البحر، الهير، المحار، اللؤلؤة، الزمن.. والنساء المنتظرات على الساحل. وحدة في جوف وحدة عظمى. حتى ذلك النّهام، يشدو بين الحلم واليقظة في جوف عزلة عميقة داخل حنجرته، يغوص في أعماق صوته، تأمل موسيقي يهيِّجه الفقد والخوف من المجهول مهما تنوعت نبرة النّهمة وإيقاع الحماسة، يظل الحزن سيّد البحارة والمراكب والغناء.

لا يمكن أن يكون طقس الغوص مغامرة وفق حسّ ترفيّ لتعقّب خطى الجنيّات في الأعماق، فكيف للمغامرة أن تقترن بجسد مرهون للبحر ومكبّد بالرزق، مكبّل بالنواخذة، مسحوب إلى سطح الماء بالحبل؟ الحبل الذي هو بدوره معادل للحبل السريّ في حياة الأجنة وعالم الأرحام، الجنين المنعزل والمتصل بالحياة عن طريق حبل سريّ موصول بالأم. فإذا انقطع الحبل سقط الجنين في الأعماق، وعاد إلى رحم الأزل الأول.
كذلك الغواص في رحم البِحار، منعزل ومتصل بأمه (الحياة) بحبل السِّيب، حبل الوجود. سفر شاق على الأغلب، لا يعود المرء منه سالماً. «يقولون إن أقسى المحن عليهم هي محنة ضغط الماء. لقد فاتني القول إن من بين ثمانية عشر غيصاً، أحد عشر منهم كانوا مصابين بالصمم». عبدالله الخان. دفتر اللؤلؤ، ص: 22.
وخشيتُ أن أغلق المنام دون أن أرى ركعة غواص أصم واحد.. في محرابه المائي الصامت، يغوص الأصمّ نحو عزلة مضاعفة، لقد سدّ البحر العميق أذنيه، فلا يسمع إلا ذاكرة ضغط الماء وصدى الشراع العتيق بين عجاج العاصفة، وهدير العبور في الأمواج ونداءات الغيص وطشّة الدّم النازف من أذنيه.
ولكن ماذا عن عزلة الغواص الأعمى وفيض حدوسِه؟ نعود إلى اليقظة عبر (دفتر اللؤلؤ)، سأعثر على «ألبير لوندر» وهو يحاور أحد الغيصة الصغار، ثم أكتفي بالإجابة عبر اقتباس جاد لهذا الحوار الختاميّ:
«هل يفتحون أعينهم أثناء الغوص في الماء؟
-أجل، يفتحون أعينهم ويبصرون جيداً.
– ألا تحرقهم؟
– قليلاً.
– ماذا يفعل العميان؟
– يمررون أيديهم على القاع، ولا يخطئون، ولا يجلبون إطلاقاً مرجاناً بدلاً من المحار.
– هل يغوصون كثيراً؟
– ليس كثيراً، إنهم يغوصون غالباً أثناء فقدهم البصر، بعد ذلك لا يحملهم النوخذة على ظهور السفن». دفتر اللؤلؤ ص: 201.

* عبد الله الخان: من أشهر مصوري البحرين الفوتوغرافيين، ولد في المحرّق في 18 أغسطس 1937، وثّق البحرين بالتاريخ البصري، صور الرحلة الأخيرة للغوص على اللؤلؤ في البحرين عام 1964. جمَع تلك الصور الباحث والروائي الفوتوغرافي البحريني حسين المحروس في كتابه الموسوم «دفتر اللؤلؤ».
المصدر: جريدة الاتحاد: لولوة المنصوري، 15 يوليو 2021

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

تفاعل جماهيري كبير مع فعاليات مهرجان المالح والصيد البحري

الجهات المشاركة تُثمن جهود المنظمين وحرصهم على تطوير المهرجان والتي تعكس إرث ثقافي يحكي عادات …