استشراف المستقبل 97 التعامل مع الحتميات الرقمية

شبكة بيئة ابوظبي، د. حسام عمر حاضري، مستشار التطوير الاستراتيجي واستشراف المستقبل 01 سبتمبر 2021
تميّزَ الإنسانُ على مرّ العصور بقدرتهِ على استيعاب المتغيراتِ المختلفةِ، والتكيفِ معها، وتطويعها، والاستفادةِ منها في تطوير وتحسينِ نمطِ حياتهِ، بدءاً بالتعامل مع البيئةِ الطبيعية التي نجحَ في سبرِ أغوارها، والاستفادةِ من المعلوماتِ، ومعالجتها لاتخاذِ قرارٍ بشأنِ الأسلوب الأمثل للتفاعل والتعامل معها، ومروراً بالاكتشافاتِ والاختراعاتِ التي كان لها بالغُ الأثر في التقدم في جميع مجالاتِ الحياة، ووصولاً إلى الذكاءِ الاصطناعي الذي بدأ ومازال يغزو كلَّ جزئيةٍ متعلقةٍ بهِ وببيئتهِ، وأصبحَ لا بدّ من ترويضهِ وتحصين المجتمعات قبل أن يُداهمها بشلالات بياناتهِ الهائلة؛ لأنّ المجتمعاتِ ستكونُ أفضلَ حالاً إذا علّمت أبناءها كيف يبتكرون تقنيةً مفيدة، وأن لا يسمحوا لها بالتمردِ والتحوّل إلى قوىً غاشمةٍ.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ القوى الدافعة التي صاغت نزعاتنا التقنية على مدى العقودِ الثلاثةِ المنصرمة، ستزدادُ قوة وتأثيراً، وتواصلُ تشكيلَ حياتنا واتجاهاتنا التنمويةِ عبرَ العقودِ الثلاثةِ القادمةِ حيثُ إنّ عملياتِ النسخ والاقتباس وإعادة إنتاج الأفكار والمحتوى مستمرةٌ لامحالة، ومفهومُ الملكية الشخصية آخذٌ في التراجع ومتوجهٌ نحو التلاشي، والواقعُ الافتراضي سيتحوّلُ تدريجياً إلى واقعٍ حقيقي.
ورغمَ أنّ المدّ الآلي والذكاءَ الاصطناعي وما يشهدانهُ من تطورٍ ينتجُ عنهُ خلقَ مجالاتِ عملٍ جديدةٍ، والدفعِ بالمجالاتِ القائمةِ إلى غياهبِ النسيان قد يتعارضُ مع بعض القوانين والمبادئ الإنسانيةِ السائدة، إلا أنّ السباقَ المحتدمَ لصنع المستقبل سيدفعُ بالمجتمعاتِ البشرية قاطبةً إلى محاولةِ احتضان واستيعاب كلّ المتغيراتِ، والقوى التقنية المحركةِ باعتبارها أضحت أمراً حتمياً لا مفرّ منه، ومحاولات مجابهةِ الحتميات غالباً ما تؤدي إلى مردودٍ عكسي؛ فنتائجُ الحظر تبقى مؤقتة، وتغدو ضارةً على المدى البعيد، ولذا ليس أمامنا سوى الاستيعاب اليقظ، وكشف النقاب عن جذور الطفرةِ التقنية لتحقيق استيعابٍ شامل وحقيقي، فالاستكشافُ هو ما يُؤهلنا إلى التعاطي بفاعليةٍ مع محركاتها الخفية، لكي نستثمرها لصالحنا، ونحققَ أفضلَ النتائج. فمثلاً نحن نستطيعُ أن ننظّمَ ونقنّنَ خدماتِ التوصيل الشبيهة ب (طلبات) لأننا ندركُ أن تحالفنا معها أفضل من رفضنا لها، ولأنّ انتشارها محتومٌ، وإن لم نتبناها ونتكيف معها فسيفوز بها غيرنا.
إنّ تقنياتِ المستقبل تتشكلُ من عددٍ غير معلوم من التحديثات والتحسينات، فمهما طالَ عهدنا بتطبيقٍ ما سنظلُ من المبتدئين في ظلّ التحديثاتِ التي لا تتوقف، والابتكاراتِ التقنية التي ستتحكمُ في حياتنا مستقبلاً لم تُخترع بعد، الأمر الذي سيجعلنا نتعاملُ معها بانبهارٍ وكأننا نتعرّفُ عليها لأولِ مرة – ونحن في الواقع كذلك – ومع تناقصِ دورةِ حياة التقنياتِ المتاحة؛ فلن نجدَ ما يكفي من الوقت لإتقانِ أيّ شيءٍ كما ينبغي، وبالتالي أياً كان عمرنا أو خبرتنا سنجدُ أنفسنا مُستجدين كما لو أننا ندخلُ الحياةَ العملية لأولِ مرة.
إنّ المجتمعاتِ حين تخضعُ للتقنيةِ وما يترتبُ عليها من تغيراتٍ سريعةٍ تحولُ دونَ رؤيتها للتغيراتِ التدريجيةِ التي تشكّلُ مستقبلها بحيث لا يبقى أمامها سوى احتواءِ القوى التي تصنعُ مستقبلها الآن وهي تحاولُ استيعابَ التغيراتِ اللحظية، فالمشكلات الآن هي نتاجُ نجاحاتِ الأمس، والحلولُ التي تُبتكر لمواجهة مشكلاتِ اليوم ستصنعُ بالضرورة مشكلاتِ الغد.

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

ومضات معرفية (7) الثروة الفكرية الموجهة

شبكة بيئة ابوظبي، بقلم د. حسام حاضري مستشار التطوير الاستراتيجي، 25 يوليو 2023 تتميزُ العقولُ …