محافظ المصارف للتمويل الأصغر الإلزامية: ماذا تعني، وكيف يمكن أن تكون عادلة وفعالة؟

شبكة بيئة ابوظبي، بروفيسور بدر الدين عبد الرحيم إبراهيم كبير مستشاري برنامج الخليج العربي للتنمية، أجفند، 06 يونيو 2023

درج السودان ومنذ سنوات وبصورة غير مسبوقة في التمويل الأصغر على النطاق العالمي على إلزام المصارف التجارية بتخصيص نسبة 12% من إجمالي محافظها التمويلية للتمويل الأصغر، إما عبر فروعها أو عبر التمويل بالجملة لمؤسسات التمويل الأصغر من موارد هذه البنوك، أو عبر الدخول في المحافظ المتخصصة المشتركة للقطاعات ذات الأولوية في التمويل الأصغر والتي يشارك في رأسمالها البنك المركزي. وفي سبيل تسهيل هذا الأمر للمصارف أسس البنك المركزي وكالة ضمان للتمويل الأصغر بالجملة (وكالة تيسير) لتسهيل تحرك هذه الموارد على نسبة الـ 12% من البنوك للمؤسسات، وبعد زيادة عدد مؤسسات التمويل الأصغر لقرابة الخمسين مؤسسة تحتاج الوكالة لزيادة رأسمالها لتغطية الطلب المتزايد على الضمان بالجملة في الوقت الحالي والعمل على إصدار تشريع لتسجيل مؤسسات ضمان خاصة بالجملة في المستقبل القريب لتغطية الطلب.

لتكون تجربة يحتذى بها في التعامل بين المصارف ومؤسسات التمويل الأصغر في التمويل بالجملة، بدأ البنك المركزي في تطبيق التمويل بالجملة من مصادره ومن القروض التي تحصل عليها من البنك الإسلامي للتنمية والصناديق العربية لمؤسسات التمويل الأصغر عبر ماسمي بالعقد النموذجي للمضاربة المقيدة مع تقاسم الأرباح بالتساوي كتجربة أولى إرتفعت من 50% إلى 60% للبنك المركزي في حالة ارتفاع تكلفة القروض المتحصل عليها من الخارج. بعدها بدأت المصارف تمول المؤسسات بضمان الوكالة لمبلغ التمويل بالجملة بتكلفة تدفعها المؤسسة المستفيدة، مع اشتراط التأمين لعمليات الزبائن التي يشملها التمويل بالجملة من قبل شركات التأمين بتكاليف يدفعها العملاء. علما بأن المصارف تمول المؤسسات بتقسيم الأرباح المحققة بنسبة 70-80% لصالحها، بعد خصم تكلفة تشغيل التمويل بالجملة بنسبة نحو 2-3% من مبلغ التمويل.

ونظرا لأسباب من أهمها عدم إيلاء التمويل الأصغر اهتماما من قبل البنوك التي جبلت على التمويلات الكبيرة وضعف ثقافتها في التمويل الأصغر وضعف انتشارها ريفيا وضعف العائد من التمويل الأصغر مقارنة بما يمكن تحقيقة من عمليات التمويلات الأخرى الكبيرة. وعلى الرغم من ارتفاع نسب البنوك من التمويل الأصغر من إجمالي محافظها التمويلية في السنوات الأخيرة إلى نحو 6% أو يزيد قليلا بعد أن كانت لا تزيد عن 3%، غلا أن هذه النسب المحققة لازالت قاصرة وتعادل فقط نحو 50% أو تزيد قليلا مقارنة بالنسبة المقرره.

لا نشك أن فرض هذه النسبة ساعد كثيرا في توسيع عمليات القطاع ونوًع القطاعات الممولة. ولكن كثر الحديث من جانب المصارف والمختصين والممارسين بأن هذه النسبة عالية، كما شكت البنوك الكبيرة والتي تستحوذ على نسب عالية من سوق التمويل المصرفي وبالتالي علو محافظها الإجمالية على أن هذه النسبة تعني مبالغ كبيرة من إجمالي هذه المحافظ الكبيرة، و قد لا تجد لها تلك البنوك قطاعات معقولة ومربحة وبدون تعثر لاستيعابها. وطالبت بتخفيضها لهذا السبب. بنك السودان المركزي يدرك أن النسبة المقررة صعبة المنال ولكن يعتبرها نسبة عادلة والوصول إليها هو هدف إستراتيجي لذلك لم يستجب لطلب هذه البنوك. في المقابل يقوم تارة بتشجيع البنوك على الوصول إليها ببعض الحوافز مثل الدخول طرفا في المحافظ المتخصصة كما هو الحال في القطاع الزراعي لتشجيع البنوك للمساهمة الرأسمالية فيها وحساب تلك المساهمة كجزء من نسبة الـ 12% الإلزامية. وتارة أخرى يقوم البنك المركزي بتهديدها بفرض جزاءات.

هناك مقترحات عدة لضمان تطبيق فكرة نسبة التمويل الأصغر لإجمالي المحافظ المصرفية من بينها تخفيضها أو إضافة حافز بتخفيض نسبة الاحتياطي الإلزامي للبنوك في حالة استيفائها للنسبة المقررة. بل ذهب بعضهم باقتراح إلغائها والاستعاضة عنها بزيادة عدد العملاء الممولين سنويا بنسب يحددها البنك المركزي كهدف سنوي لكل بنك بصرف النظر عن حجم التمويل من إجمالي المحفظة. في الحقيقة لم يستجب البنك المركزي لهذه الأصوات لأسباب مقنعة من أهمها المحافظة على النسبة كهدف إستراتيجي يمكن الوصول إليه خلال سنوات مستقبلية ، بحيث تظل هذه النسبة معلقة في رقبة البنوك حتى الإلتزام بها. فضلا عن أن حافز الإحتياطي الإلزامي يدخل في خانة أخرى حيث أن هذا الإحتياطي معمول به في سياسات البنوك المركزية بهدف تحقيق الاستقرار الاقتصادي المرتبط بالحفاظ على نسب التضخم في الحدود الآمنه، ولا علاقة له بالتمويل الأصغر لذلك لم يستجب له البنك المركزي. كما أن تخفيض النسبة في ظل ارتفاع سقف التمويل الأصغر من سنة لأخرى(على الرغم من زيادة حجم المحفظة الإجمالية) قد يؤدي لتخفيض عدد الممولين وذلك بوصول البنوك للنسبة المقررة بأقل عدد من العملاء مقارنة بالعدد الذي يمكن أن يتحقق في حالة الحفاظ عليها كما هي. كما أن اقتراح زيادة عدد العملاء بدلا عن النسبة غير عملي وقد يؤدي للتهرب من قبل البنوك في التمويل لهذا القطاع وقد لا يشجع بعض المصارف التي تمول عددا قليلا من العملاء في الوصول لعدد أكبر عبر شرط زيادة العملاء. المحصلة النهائية ضعف أو إستقرار عدد العملاء الأمر الذي يدحض فكرة تخصيص نسبة محسوبة بحجم التمويل لقطاع التمويل الأصغر من إجمالي المحافظ المصرفية لزيادة التمويل للقطاع في حالة زيادة حجم المحفظة الإجمالية وبالتالي زيادة عدد العملاء سنويا في قطاع يعتبره البنك المركزي من القطاعات ذات الأولوية فضلا عن أهمية أن يكون للبنوك عبر التمويل الأصغر دور متعاظم في تحقيق الشمول المالي لكل طبقات المجتمع.

فرض نسبة لصالح التمويل الأصغر من إجمالي تمويلات المصارف أمر جيد وغير مسبوق في سياسات التمويل الأصغر في العالم بلا شك. ولكن ينبغي التفكير في جعلها عادلة وميسرة لحد كبير، خاصة للبنوك التي تحظى بنسب كبيرة من سوق إجمالي التمويل. هنالك عدة طرق يمكن بموجبها الوصول لهذه الأهداف المتعلقة بالعدالة والتسهيل للمصارف للوصول للنسبة الإستراتيجية المقرره. مثلا إذا كان متوسط نسبة إجمالي التمويل السوقية للبنوك جميعها محسوبة بقسمة نسبة كل بنك في السوق على عدد البنوك 20% مثلا. يمكن فرض نسبة التمويل الأصغر لإجمالي محافظ البنوك التي تحقق هذا المتوسط أو دونه كما هي (نسبة 12%). بقية البنوك التي تحقق أعلى من المتوسط يمكن تخفيض نسبها بحيث لا تقل النسبة (مؤقتا) عن 9%، بمعني أن أعلي نسبة لمحفظة البنك للتمويل الأصغر من إجمالي المحفظة 9% وتقل هذه النسبة للبنوك التي تصل نسبها لأقل من أعلى نسبة حققها البنك الأكبر لتكون بقية النسب المفروضة للتمويل الأصغر من إجمالي محافظ بقية البنوك (والتي لا يدخل ضمنها البنوك التي حققت متوسط النسبة أو دونها ) في مدى أقل من 9% الى 11% مثلا، اعتمادا على علو نسبتها من المتوسط المحسوب أعلاه. هذه هي الفكرة الأساسية، ولكن يمكن أيضا اختيار أي نظام أوزان آخر يفي بنفس الغرض. هذا المقترح المؤقت ربما يساعد البنوك الكبيرة في زيادة نسبتها خلال سنوات وبعدها يمكن للبنك المركزي الرجوع الى نسبة 12% لكل البنوك. هذا المقترح الذي يحدد النسبة بين نسبة 9% التي يأخذها البنك الأكبر ونسبة الـ 12% للبنوك التي تقع في مدي المتوسط لسوق التمويل الإجمالي وما دونه ليس كبيرا. ويمكن، وبالوصول لنسبة 9% لأعلي بنك في سوق التمويل الإجمالي، سهولة تحقيق النسبة الكاملة في المستقبل القريب. لهذا فإن هذا الإقتراح سيظل حافزا محدود المدة الزمنية (في حدود 3 سنوات) وآلية لتشجيع البنوك الكبيرة ذات الموارد التمويلية العالية في الوصول بعد ثلاثة أعوام من هذا الحافز لنسبة 12%. وبذلك نكون قد حققنا النسبة الإستراتيجية في مدى سنوات بهذا الحافز. نرفع هذه الفكره للجهات المختصة ببنك السودان المركزي للنظر فيها أو تعديلها علي نفس النسق.

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

لماذا تخلفت صناعة التمويل الأصغر الاسلامي مقارنة بالتقليدي في المنطقة العربية؟

شبكة بيئة ابوظبي، بروفيسور بدر الدين عبد الرحيم إبراهيم، كبير مستشاري برنامج الخليج العربي للتنمية، …