بصمات في أروقة الكهوف طبعتها المياه الجوفية عبر الزمن

شبكة بيئة ابوظبي، بقلم د. هادي عيسى، باحث في مجال علوم الأرض في جامعة الإمارات العربية المتحدة، 17 مايو 2024

تخيَّل نفسك في كهف مظلم، ترفع ناظريك إلى السقف، فتُبهرك تلك التشكيلات التي تشبه الثريّات المتدلية؛ تَمشى على أرضية الكهف، وتُلاحظ ما يشبه الأعمدة الضخمة، وكأنها دعائم تُسند سقف الكهف، تُضفي على المكان شعوراً بالرهبة والإعجاب، وكأنَّك تقف في قصرٍ عظيمٍ بناه الزمن. في أعماق الأرض، حيث الظلام دامس والصمت مطبق، تنحت المياه الجوفية لوحات فنية ساحرة، تُعرف بإسم”Speleothems” ، وهي ترسيبات معدنية تتدلى من سقوف الكهوف أو ترتفع من أرضيَّتها، وتأخذ أشكالاً غريبة ومتنوعة، وكأنها تحف فنية صنعتها يد فنان تنافس أعماله روائع ليوناردو دافنشي ومايكل أنجلو.

تبدأ الرحلة بقطرات من مياه الأمطار تحمل معها ثاني أوكسيد الكربون من الهواء، لتتسرب هذه القطرات من خلال شقوق الصخور المتراكمة في سطح الأرض. عندما تتفاعل مياه الأمطار مع ثاني أكسيد الكربون، يتشكَّل حمض الكربونيك، وهو حمض ضعيف ولكنه قوي بما يكفي لتذويب الصخور الكلسية التي تُشكِّل ما يقارب ربع تركيب القشرة الأرضيَّة. مع مرور الوقت، تكتمل عملية ذوبان الصخور الكلسيَّة بفعل حمض الكربونيك، مكوِّنةً فراغاتٍ تُعرف ب”الكهوف”.
بعد تكوين الكهوف، تستمر المياه الجوفيَّة في التدفُّق داخلها، مُحمَّلةً بالمعادن الذائبة، مثل كربونات الكالسيوم والمغنيسيوم. عندما تصل هذه المياه الى داخل الكهوف، تبدأ شيئا فشيئا بالتبخر بفعل الهواء الجاف، تاركةً وراءها رواسب معدنية (Speleothems) على الأسطح وفي أروقة الكهوف. تُعرف الرواسب المعدنية التي تنمو من السقف الى الأسفل ب”الهوابط” (Stalactites) في حين يُطلق على تلك التي تنمو من الأرض الى الأعلى إسم “الصواعد” (Stalagmites).

الهوابط المتدلية من السقف في “حديقة كهف الريح الوطنية”، جنوب داكوتا، الولايات المتحدة الأمريكيَّة. المصدر: National Park Service (nps.gov)

الهوابط والصواعد المألَّفة من رواسب كربونات الكالسيوم؟ المصدر: (Getty Images/Hans Strand)

إبان العصر الجليدي الصغير الذي خيَّم على ربوع أوروبا في القرون الوسطى، عانى أهلها أشد أنواع المعاناة من قسوة شتاء قارص لم يعتادوا عليه، وحرِّ صيفٍ غير لافح، وكأنَّ فصول السنة قد اختلطت وتاهت معالمها. وضربت الكوارث الطبيعية أعنف ضروبها، فعمَّ الجدب وتفشَّت الأوبئة، وأرخت المجاعة ستائرها السوداء على القرى والمدن، وفي غياب فهم عميق لعلوم المناخ آنذاك، راح الناس يلوذون بالتفسيرات الخرافية، فحمَّلوا وزر هذا البرد الطاغي على قوى شريرة أو سحر فوق الطبيعة. والآن، وبفضل سحر العلم الحديث، تمكَّن علماء الجيوفيزياء من جامعة هايدلبيرغ ومعهد كارلسروه للتكنولوجيا – في دراسة تم نشرها في ديسمبر العام 2023 في مجلة (Earth and Planetary Science Letters) ¬¬– من الكشف عن أسرار الحلقات المفقودة في تلك الحقبة التي غطت فيها طبقات الثلج أقاليم عديدة في الأرض، مبرزين كنزاً ثميناً من المعلومات المناخية، لا يقتصر على منطقتهم في ألمانيا فحسب، بل يمتد ليشمل العالم بأسره في رحلة عبر الزمن لقرون خلت، وقد يبدو مدهشاً أنهم استقوا معظم ما احتاجوا من معلومات في بحثهم من الصواعد المعدنية العصويَّة المنتشرة في أروقة الكهوف.

لطالما اعتمد علماء المناخ في أبحاثهم على سجلات حلقات الأشجار لدراسة التقلُّبات المناخية قصيرة المدى التي حدثت على مدى مئات السنين الماضية. لكن حتى هذه السجلات، كانت تحتاج إلى تحليل مقترن بقياسات مستقلَّة من دراسات أخرى، ومقارنتها بالوثائق التاريخية، وذلك لتعزيز مصداقيتها. وعلى النقيض من ذلك، تُقدِّم الصواعد رؤى جديدة نحو التقلبات المناخية، ومن هذا المنطلق، تمكَّن الباحثون الألمان من دراسة التركيب النظيري للأكسجين الموجود في صواعد من جنوب ألمانيا، كانت قد تشكلَّت بفعل مياه عسرة. فمن خلال استقصاء تاريخ هطول الأمطار المسجل في كُلِّ طبقة مجهرية من الصواعد، برزت مؤشرات تقلّبات مناخية قصيرة المدى حدثت قبل قرون مضت.

وبناءً على هذه الاكتشافات الجديدة، بات لدينا الآن فهم أكثر عمقاً لمُجريات العصر الجليدي الصغير. وفقًا لتصريح الدكتور توبياس كلوغه – الباحث المشارك في الدراسة من معهد كارلسروه للتكنولوجيا – فإنَّ “البيانات تشير إلى فصول شتاء باردة وجافة، أدت إلى تأخير ذوبان الجليد والثلوج السنوي، ممَّا تسبب في فيضانات كارثية قصيرة المدى ذات عواقب وخيمة”. وقد حدث كل هذا على خلفية العصر الجليدي الصغير الذي نشأ عن مجموعة معقَّدة من العوامل، بما في ذلك انخفاض نشاط البقع الشمسية، وزيادة النشاط البركاني، والتغيُّرات في هندسة مدار الأرض. ومع ذلك، لا يقتصر أثر هذا البحث على إلقاء الضوء على حقبة مناخية من تاريخ الأرض فحسب، بل يساعد العلماء أيضاً على فهم مستقبل الكوكب بشكل أفضل.

يؤكِّد فريق العلماء الذي تصدَّى لهذا البحث على أنَّ الفيضانات المدمِّرة وموجات الحر والجفاف تُعدُّ من أكثر المؤشرات الملموسة على تغيُّر المناخ لدى عامة الناس، ويضيفون أنَّ توقُّع شدّة هذه الظواهر المناخية المتطرِّفة على المستوى الإقليمي أو المحلي يمثِّل تحدياً كبيراً يتطلَّب تطوير نماذج مناخية دقيقة على نطاق صغير واختبارها في ضوء سجلّات المناخ الماضي، ولكن غالباً ما تكون هذه السجلّات غير مكتملة، أو تغطّي جوانب جزئية فقط من طيف المجريات البيئية، مثل التحيُّز الموسمي الذي يوجد عند تحليل سجلّات حلقات الأشجار. وعلى الرغم من ذلك، فإن دمج بيانات حلقات الأشجار مع بيانات الترسيبات الكهفية يوفِّر سِجلّاً شاملاً لتاريخ مياه الأرض، حيث تتيح هذه البيانات إمكانية الاستنتاج بطرق ملائمة بشكل فريد لتحديد التقلُّبات المناخية قصيرة المدى على المستوى الإقليمي.

تتدفَّق المياه ببطء، مشكلةً الصواعد والهوابط وسائر التراكمات في الكهوف، قطرة تلو الأخرى، وعندما يجفُّ الماء في الكهف، يتوقَّف نموُّها. المصدر:  NASA Earth Observatory

ولا يُعدُّ هذا البحث الأسبق من نوعه الذي يقوم بربط علم الكهوف (Speleology) بعلم المناخ القديم (Paleoclimatology)، ففي عام 2019، أشارت دراسة نُشرت في مجلة (Anthropocene Review) إلى أن تغيُّر المناخ يهدِّد النُظُم البيئية النادرة الموجودة في أنظمة الكهوف المغلقة، والتي تُعتبر مواقع بحثية قيِّمة بالنسبة للعلماء. بالإضافة الى ذلك، لا تُعتبر هذه، بطبيعة الحال، أخباراً سارّة للكائنات الحيّة التي تعيش في الكهوف، إذ يبدو أن عوالمها لم تعد بمنأى عن التأثيرات المناخية الخارجية، فالمناخ الجوفي، مثل المناخ على السطح، يمكن أن يتأثَّر بطرق عديدة، ومنها الاحتباس الحراري العالمي الذي يُسبِّبه النشاط الصناعي البشري. بالإضافة الى ذلك، تشير نتائج البحث إلى أن أشكال الحياة الجوفيَّة قد تواجه تحديات أعنف من تلك التي تواجهها الكائنات السطحية في عملية التكيُّف. “بسبب تطوُّرها في بيئة مستقرّة، يُتوقع أن تُظهر الكائنات الحيَّة الجوفية تحمُّلًا ضعيفًا للاضطرابات المناخية، وقد لا تتعامل نظرياً مع مثل هذه التغييرات إلا عن طريق تحويل نطاق توزيعها أو التكيُّف مع الظروف البيئية الجديدة”، ويضيف الباحثون: “وبالتالي قد تكون هذه الكائنات أكثر عرضةً للانقراض المحلي.”

هناك على الأقل مثال واحد على معاناة كائنات الكهوف بسبب تغيُّر المناخ: عناكب (Troglohyphantes)، وهي جنس من العناكب الصغيرة جداً والمعروفة باسم “النسَّاجين الورقيين” (Linyphiidae). عرض فريق من العلماء نتائج دراستهم البحثية التي تم نشرها في مجلة (Ecography)، التي أبرزت ظروف درجات الحرارة في كهوف غرب جبال الألب، وقارن الباحثون هذه البيانات بانتشار عناكب (Troglohyphantes)، حيث أظهرت النتائج أن توزُّع هذه العناكب يرتبط طردياً بتغيُّرات درجات الحرارة منذ العصر البليستوسيني (Pleistocene) وصولاً إلى تغيُّرات المناخ الحديثة نسبياً. وبناءً على تحليل هذه البيانات، إلى جانب المعلومات المتعلِّقة بالاستقرار الحراري داخل الكهوف، خَلُص الباحثون إلى أن الأنواع الفرعية للعناكب تواجه تراجعاً نوعياً من حيث ملاءمة مسكنها الطبيعي. وبالمقارنة مع الأنواع الأخرى التي تعيش في موائل محصورة مثل الجُزُر والجبال، من المتوقَّع أن تكون أنواع الكهوف على الأقل بنفس القدر، إن لم تكن أكثر عرضة لتغيٌّر المناخ.

تعتبر ترسيبات الكهوف المعدنية بمثابة رسالة من الماضي تُخبرنا عن تاريخ الأرض وتاريخ المياه الجوفية، فهي تُساعدنا على فهم التغيُّرات المناخية التي حدثت على مر الزمن، كما تُساعدنا في عملية تأريخ عمر الكهوف. ليست ال((Speleothems مجرد تشكيلات معدنية جميلة، بل هي شواهد حيًّة على قوَّة الطبيعة وبديع معالمها.

المصادر:
1. Assessment of climate extremes at the regional scale during the last millennium using an annually resolved stalagmite record – ScienceDirect
2. Paleoclimatology: Speleothems (nasa.gov)
3. Weather underground: What caves can reveal about climate change, both past and future | Salon.com

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

انطلاق فعاليات الاجتماع الخامس للجنة بقاء الأنواع التابعة للاتحاد الدولي لحماية الطبيعة اليوم بأبوظبي

تكريم هيئة البيئة – أبوظبي لدورها الريادي في إعادة توطين المها الأفريقي (أبو حراب) لأول …