عملة العصر: رحلة الكربون في الأسواق العالمية

هل الكربون هو النفط الجديد؟ .. أسواق الكربون وتأثيرها على المناخ والاقتصاد العالمي

شبكة بيئة ابوظبي، د. طارق قابيل (*)، القاهرة، جمهورية مصر العربية، 6 سبتمبر 2024

هل يمكن أن تصبح الانبعاثات الكربونية، التي تهدد كوكبنا، سلعة تباع وتشتري في الأسواق مثل النفط والذهب؟ هذا السؤال لم يعد مجرد تخيل علمي، بل بات محور نقاشات حامية على الساحة العالمية، خاصة مع تصاعد أزمة تغير المناخ، ومؤخرا أصبح حقيقة واقعة مع ظهور أسواق الكربون.

إن فكرة تحويل الانبعاثات الكربونية إلى أرصدة قابلة للتداول، وإن كانت مثيرة للجدل، إلا أنها أصبحت جزءًا لا يتجزأ من الجهود الدولية للحد من الاحتباس الحراري. وفي هذا المقال، سنتعمق في عالم أسواق الكربون، ونستعرض مزاياها وتحدياتها، ونناقش القضايا الشائكة التي أثيرت حولها في مؤتمرات المناخ الأخيرة، وكيف تساهم في بناء مستقبل أكثر استدامة.

أسواق الكربون
تعتبر أسواق الكربون أداة أساسية في الجهود العالمية لمكافحة تغير المناخ. وعلى الرغم من أن الهدف المشترك لكليهما هو خفض انبعاثات غازات الدفيئة، إلا أن هناك اختلافات جوهرية بين سوق الكربون الطوعي وسوق الكربون الإلزامي في آليات عملها وأهدافها.

سوق الكربون الطوعي
الطبيعة: يعتمد السوق الطوعي على مبادرات فردية من الشركات والمؤسسات والأفراد. يشترون أرصدة الكربون لتعويض انبعاثاتهم، دون وجود إلزام قانوني بذلك.
الأهداف:
o البصمة الكربونية: يهدف إلى تقليل البصمة الكربونية للشركات والأفراد بشكل طوعي.
o السمعة: يسعى العديد من الشركات إلى تحسين صورتها وسمعتها كشركات مسؤولة بيئيًا.
o المسؤولية الاجتماعية: يدفع بعض الأفراد إلى شراء أرصدة الكربون بدافع المسؤولية الاجتماعية.
المشاريع: متنوعة، تشمل مشاريع الطاقة المتجددة، كفاءة الطاقة، الغابات.

سوق الكربون الإلزامي
الطبيعة: يخضع هذا السوق لتنظيم حكومي صارم. تضع الحكومات سقفًا للانبعاثات وتوزع أرصدة الكربون على الشركات. يمكن للشركات التي تقلل انبعاثاتها أكثر من الحد المسموح لها ببيع أرصدة الكربون الزائدة للشركات التي تتجاوز حدها.
الأهداف:
o خفض الانبعاثات: الهدف الرئيسي هو خفض إجمالي الانبعاثات في الاقتصاد بشكل ملزم.
o تحقيق أهداف المناخ: يساهم في تحقيق الأهداف المناخية التي حددتها الدول في الاتفاقيات الدولية مثل اتفاقية باريس.
المشاريع: محددة من قبل الحكومة، غالبًا ما تركز على القطاعات الصناعية الكبيرة.

تأثيرات أسواق الكربون
• السوق الطوعي: يساهم في زيادة الوعي بأهمية مكافحة تغير المناخ، ويحفز الشركات على تبني ممارسات مستدامة. كما يوفر تمويلًا إضافيًا لمشاريع خفض الانبعاثات.
• السوق الإلزامي: يضمن تحقيق أهداف خفض الانبعاثات على مستوى الدولة، ويؤدي إلى تقليل التكاليف الإجمالية لخفض الانبعاثات من خلال آلية السوق.

التكامل بين السوقين: يمكن للسوقين أن يعملا بشكل متكامل. فالشركات التي تشارك في السوق الإلزامي قد تشتري أرصدة كربون إضافية من السوق الطوعي لتحقيق أهداف أكثر طموحًا.
كلا السوقين يلعب دورًا هامًا في مكافحة تغير المناخ، ولكل منهما مزاياه وتحديات. من خلال العمل معًا، يمكن أن تساهم أسواق الكربون في بناء مستقبل أكثر استدامة.

أمثلة لمشاريع ناجحة تم تمويلها من خلال أسواق الكربون
تعتبر أسواق الكربون أداة فعالة لتمويل مشاريع بيئية مبتكرة حول العالم، خاصة في الدول النامية. هذه المشاريع تساهم بشكل كبير في تقليل انبعاثات غازات الدفيئة وتحقيق أهداف التنمية المستدامة. إليك بعض الأمثلة:

مشاريع الطاقة المتجددة في الدول النامية
مزارع الرياح في الهند: تم استخدام أرصدة الكربون لتمويل إنشاء مزارع رياح في المناطق الريفية بالهند، مما وفر طاقة نظيفة ومستدامة للمجتمعات المحلية.
لوحات الطاقة الشمسية في أفريقيا: ساهمت أسواق الكربون في نشر الطاقة الشمسية في القرى النائية في أفريقيا، مما حسّن نوعية الحياة وقلل الاعتماد على الوقود الأحفوري.
محطات الطاقة الحيوية في أمريكا اللاتينية: تم تمويل مشاريع لتحويل المخلفات الزراعية إلى طاقة حيوية في العديد من دول أمريكا اللاتينية، مما قلل من الانبعاثات وتحسن إدارة النفايات.

مشاريع إعادة التشجير
• حزام الأشجار العظيم في الصين: تم استخدام أرصدة الكربون لتمويل زراعة ملايين الأشجار في الصين، مما ساهم في مكافحة التصحر وتحسين جودة الهواء.
• مشاريع إعادة تشجير الغابات المطيرة في البرازيل: تم تمويل العديد من المشاريع لإعادة تشجير الغابات المطيرة في البرازيل، مما يساعد على حماية التنوع البيولوجي وامتصاص كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون.

مشاريع أخرى
مشاريع كفاءة الطاقة في المباني: تمويل مشاريع لتحسين كفاءة الطاقة في المباني، مثل عزل المباني وتحديث أنظمة التدفئة والتبريد.
مشاريع إدارة النفايات: تمويل مشاريع لإدارة النفايات بشكل مستدام، مثل تحويل النفايات إلى سماد أو طاقة.
مشاريع حماية المحيطات: تمويل مشاريع لحماية الشعاب المرجانية والمناطق الساحلية.

أهمية هذه المشاريع
التخفيف من آثار تغير المناخ: تساهم هذه المشاريع بشكل مباشر في تقليل انبعاثات غازات الدفيئة وحماية البيئة.
التنمية المستدامة: تدعم هذه المشاريع التنمية المستدامة في الدول النامية من خلال توفير الطاقة النظيفة وتحسين سبل العيش.
• الحفاظ على التنوع البيولوجي: تساهم العديد من هذه المشاريع في حماية التنوع البيولوجي والحفاظ على النظم البيئية.
خلق فرص عمل: تساهم هذه المشاريع في خلق فرص عمل جديدة في المجتمعات المحلية.

آراء خبراء الاقتصاد والمناخ حول مستقبل أسواق الكربون
تعتبر أسواق الكربون أداة أساسية في الجهود العالمية لمكافحة تغير المناخ، ولكنها تواجه تحديات وتثير جدالات. يختلف آراء الخبراء حول مستقبل هذه الأسواق، ولكن يمكن تلخيص أهم الاتجاهات والآراء على النحو التالي:

الآراء المتفائلة
أداة فعالة لخفض الانبعاثات: يرى الكثير من الخبراء أن أسواق الكربون هي أداة فعالة لخفض الانبعاثات، حيث تحفز الشركات على الاستثمار في التقنيات النظيفة وتطوير عمليات إنتاج أكثر كفاءة.
محرك للابتكار: تؤدي أسواق الكربون إلى ظهور تقنيات جديدة وابتكارات في مجال الطاقة النظيفة، مما يعزز التحول نحو اقتصاد منخفض الكربون.
آلية عادلة: تعتبر أسواق الكربون آلية عادلة لتوزيع أعباء خفض الانبعاثات، حيث تسمح للشركات التي تستطيع خفض انبعاثاتها بسهولة ببيع أرصدة الكربون للشركات الأخرى.
نمو مستقبلي: يتوقع العديد من الخبراء نموًا كبيرًا في أسواق الكربون في السنوات المقبلة، مع توسع نطاقها وارتفاع أسعار أرصدة الكربون.

الآراء المتشائمة
الغموض والتعقيد: يشير بعض الخبراء إلى أن أسواق الكربون معقدة وصعبة الفهم، مما يجعل من الصعب على الشركات الصغيرة والمتوسطة المشاركة فيها.
خطر الغسيل الأخضر: يحذر البعض من أن الشركات قد تستخدم أسواق الكربون للترويج لمنتجاتها على أنها صديقة للبيئة دون أن تكون كذلك، مما يؤدي إلى “الغسيل الأخضر”.
عدم كفاية: يرى البعض أن أسواق الكربون وحدها ليست كافية لتحقيق أهداف اتفاقية باريس للمناخ، وتحتاج إلى أن تكون جزءًا من مجموعة أوسع من السياسات المناخية.
التحديات التنظيمية: تواجه أسواق الكربون تحديات تنظيمية كبيرة، مثل تحديد معايير واضحة لأرصدة الكربون ومنع الاحتيال.

التحديات المستقبلية
الازدواجية في الحسابات: هناك خطر من أن يتم احتساب نفس التخفيض في الانبعاثات أكثر من مرة، مما يضعف فعالية السوق.
جودة الأرصدة: من الصعب التحقق من جودة جميع أرصدة الكربون المتداولة في السوق، مما قد يؤدي إلى فقدان الثقة في النظام.
التركيز على التعويض وليس التخفيض: هناك خطر من أن يركز السوق على تعويض الانبعاثات بدلاً من تقليلها بشكل فعلي.
العدالة المناخية: يجب ضمان أن يستفيد المجتمعات الأكثر ضعفًا من عائدات سوق الكربون.

التوصيات
لتجاوز هذه التحديات، يوصي الخبراء بما يلي:
تعزيز الشفافية والمساءلة: من خلال تطوير معايير واضحة وقابلة للقياس لضمان جودة أرصدة الكربون.
بناء الثقة: من خلال إظهار فوائد سوق الكربون للمجتمعات المحلية والاقتصاد.
الاستثمار في التكنولوجيا: من خلال الاستفادة من أحدث التطورات التكنولوجية لتحسين كفاءة السوق.
التعاون الدولي: من خلال تعزيز التعاون الدولي لتنسيق السياسات وتطوير معايير مشتركة.

مما سبق، يظهر أن أسواق الكربون تمثل أداة قوية لمكافحة تغير المناخ، ولكنها تحتاج إلى إصلاحات جوهرية لضمان فعاليتها. وأثبت سوق الكربون الطوعي فعاليته في تمويل مشاريع بيئية مبتكرة في جميع أنحاء العالم. هذه المشاريع تساهم بشكل كبير في مكافحة تغير المناخ وتحقيق أهداف التنمية المستدامة. ومع استمرار نمو هذا السوق، يمكننا توقع المزيد من المشاريع المبتكرة التي تساهم في بناء مستقبل أكثر استدامة لكوكبنا. ومن خلال معالجة التحديات المتعلقة بالشفافية والمساءلة، يمكن لأسواق الكربون أن تساهم بشكل كبير في تحقيق أهداف اتفاقية باريس للمناخ وبناء مستقبل أكثر استدامة.

* د. طارق قابيل
– أكاديمي، خبير التقنية الحيوية، كاتب ومحرر ومترجم علمي، ومستشار في الصحافة العلمية والتواصل العلمي
– عضو هيئة التدريس بقسم التقنية الحيوية – كلية العلوم – جامعة القاهرة
– مقرر لجنة الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية والدراسات الاستراتيجية ومؤشرات العلوم والتكنولوجي، وزميل أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
– عضو المجموعة الاستشارية العربية للعلوم والتكنولوجيا، التابعة للمكتب الإقليمي للأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث للدول العربية.
http://scholar.cu.edu.eg/tkapiel
tkapiel@sci.cu.edu.eg

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

أهداف خفض الانبعاثات حسب البلد في عام 2024

بقلم: سيلين أوغوز، المقال/التحرير: ريان بيلفونتين، كريس ديكرت، الرسومات/التصميم: زاك أبو العزم 15 يوليو 2024 …