كشف أسرار ظاهرة “مصانع الشك” ودورها في التلاعب بالإعلام
الحرب على العلم: كيف يُعاد تشكيل الحقائق العلمية لخدمة المصالح؟
شبكة بيئة ابوظبي، د. طارق قابيل (*)، القاهرة، جمهورية مصر العربية، 14 نوفمبر 2024
هل تثق بكل ما تقرأه أو تسمعه؟ هل تعتقد أن العلم حقيقة ثابتة لا يمكن الطعن فيها؟ قد تفاجئك الإجابة، فالعالم مليء بالمعلومات المضللة والأكاذيب التي تُبنى عليها إمبراطوريات تجارية، وأن أكثر من نصف المعلومات التي نستهلكها يوميًا غير دقيقة أو مضللة في عصرٍ تتسارع فيه تدفقات المعلومات، وأصبحت الحقيقة سلعة قابلة للتفاوض. ويتم تشويه الحقائق العلمية لتحقيق مكاسب شخصية، حيث تتحول الشكوك إلى حقيقة بسبب تكرارها المتواصل.
هذا هو عالم “مصنع الشك”، حيث يتم التلاعب بالمعلومات لإخفاء الحقيقة وخدمة مصالح ضيقة. وتقف ظاهرة “مصنع الشك” كإحدى أبرز الأدوات المستخدمة لتشويه الحقائق وإثارة البلبلة حول قضايا علمية مصيرية. ما بين صناعة التبغ وقضية تغيّر المناخ، تجلت أساليب التلاعب بالحقائق العلمية على مر العقود، مؤثرة على قرارات الأفراد وصياغة السياسات العامة. هذا يعني أننا نعيش في عالم مليء بالأكاذيب والنصف حقائق، فكيف يمكننا حماية أنفسنا من هذا الفيضان من المعلومات المزيفة وأسلحة الدمار الشامل الإعلامية، وكيف تخدعنا الشركات؟
هل أنت مستعد لكشف هذا العالم المظلم؟ المقال التالي يسلط الضوء على آليات “مصنع الشك” وكيف يمكن للصحافة العلمية المسؤولة التصدي لهذه الظاهرة الخطيرة.
ظاهرة مصنع الشك”
“مصنع الشك” مفهوم يشير إلى الأساليب التي يستخدمها الأفراد أو المؤسسات للتلاعب بالمعلومات والحقائق بهدف تحقيق أجندات شخصية أو تجارية أو سياسية. وعادةً ما يكون هذا المصطلح مرتبطًا بالصناعات التي تسعى إلى نشر الشك حول حقائق علمية مثبتة، مثل صناعة التبغ، النفط، والصناعات الكيميائية. ويمكن أن يكون الصحفي الفاسد جزءًا من هذا النظام عن طريق استغلال منصته لنشر معلومات مضللة أو منحازة. ويحفل التاريخ بالعديد من الأمثلة لهذه الظاهرة التي تؤثر بشكل فعال على إيصال المعلومات ونتائج الأبحاث العلمية الصحيحة لجماهير المستهلكين. ويلعب التواصل العلمي دورًا حاسمًا في التصدي لظاهرة “مصنع الشك” من خلال التثقيف، التبسيط، وبناء الثقة مع الجمهور. لتحقيق ذلك، يجب دمج جهود العلماء مع الإعلاميين، المجتمع المدني، والتقنيات الحديثة لضمان وصول المعلومات العلمية الصحيحة إلى أوسع شريحة ممكنة من الجمهور.
أصل الرواية
يرجع تعبير مصنع الشك” إلي رواية “The Doubt Factory” ، وهي عمل أدبي للكاتب باولو باكيلوبّي (Paolo Bacigalupi)، نُشرت في عام 2014. وتتناول الرواية موضوع التلاعب بالمعلومات، وتُسلط الضوء على كيف تستخدم الشركات الكبرى استراتيجيات تهدف إلى نشر الشكوك حول القضايا العامة لحماية مصالحها الاقتصادية.
وتتمحور القصة حول شخصية أليريك كوين، وهي فتاة مراهقة تكتشف أن والدها، الذي يعمل في صناعة العلاقات العامة، متورط في التلاعب بالمعلومات لصالح شركات كبيرة. وتكشف الرواية كيف تُستخدم الأدوات الإعلامية لتضليل الجمهور، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الصحية والبيئية. تواجه أليريك صراعًا أخلاقيًا عميقًا عندما تدرك أن دور والدها يشمل نشر الشكوك حول الحقائق العلمية لإضعاف المطالبات القانونية أو النقد العام ضد الشركات الكبرى. وتبرز الرواية كيف يمكن أن تُستخدم استراتيجيات “مصانع الشك” لإقناع الناس بالتشكيك في العلوم أو الحقائق الثابتة. وتستعرض الرواية الصراعات الأخلاقية التي يواجهها الأفراد العاملون في هذه الصناعة. كما تُظهر القصة قدرة الشباب على تحدي الأنظمة الراسخة عندما يدركون الحقائق.
أهمية الرواية
تُعتبر الرواية دعوة للتفكير النقدي والتساؤل حول مصادر المعلومات التي نتلقاها، كما أنها تُبرز كيف يمكن للمصالح الاقتصادية أن تؤثر على الخطاب العام. وتُستخدم هذه الرواية أحيانًا كأداة تعليمية لتوضيح أهمية الوعي الإعلامي والمسؤولية الأخلاقية في العمل. وتسلط الرواية الضوء على ديناميكية حقيقية تحدث على مستوى العالم، حيث تُستخدم استراتيجيات متعمدة من قبل الشركات الكبرى وبعض الجهات لتحقيق أهداف اقتصادية أو سياسية على حساب الحقيقة. ويُمكن رؤية هذا الاتصال بين الرواية والواقع من خلال عدة أمثلة معاصرة استخدمت في نشر الشك حول قضايا الصحة والبيئة.
في العالم الحقيقي، تستخدم بعض الصناعات، مثل التبغ أو السكر أو النفط، استراتيجيات للتشكيك في الأبحاث العلمية التي تكشف عن مخاطر منتجاتها. على سبيل المثال: صناعة التبغ، وصناعة السكر والبيانات العلمية المتعلقة بالاحتباس الحراري، وغيرها من الأمثلة التي سنطرحها في هذا المقال.
وكما في الرواية، يبرز دور والد الشخصية الرئيسية في التلاعب بالمعلومات القانونية، تُستخدم في الواقع هذه الاستراتيجيات لتعطيل دعاوى ضد الشركات الكبرى، من خلال التشكيك في الدراسات العلمية أو الترويج لبدائل زائفة. وتتطرق الرواية إلى كيفية تلاعب الشركات بالمعلومات عبر وسائل الإعلام. هذا يحدث بالفعل عندما تمول شركات معينة أخبارًا مضللة أو حملات إعلانية، مما يخلق غموضًا حول الحقائق. مثال على ذلك هو الحملات التي تربط الكائنات المعدلة وراثيًا بأضرار غير مثبتة علميًا.
في القصة، يمثل الشباب مصدرًا للتغيير؛ وهو ما ينعكس في الواقع عبر الحركات الشبابية مثل حركة (Fridays for Future) بقيادة غريتا ثونبرغ، والتي تسعى لتحدي الأنظمة القائمة ومواجهة هذه الديناميكيات المضللة.
وتدعو الرواية إلى التفكير النقدي وزيادة الوعي العام حول مصادر المعلومات، مع التأكيد على أهمية مساءلة المؤسسات والشركات الكبرى. ويمكن استخدامها كإطار لفهم استراتيجيات التضليل وآليات التصدي لها، مثل تعزيز الشفافية ومكافحة المعلومات المغلوطة.
أمثلة محددة عبر التاريخ:
صناعة التبغ:
أنفقت شركات مثل “فيليب موريس” ملايين الدولارات على إعلانات تنكر أن التدخين يسبب أمراضًا. واستخدمت مراكز أبحاث وهمية لإصدار تقارير تدحض ارتباط التدخين بالسرطان. ولهذا استمر استهلاك التبغ على نطاق واسع حتى السبعينيات والثمانينيات قبل أن تُكشف هذه المؤامرات.
مادة “دي دي تي” (DDT) والمبيدات:
عندما نشرت “راشيل كارسون” كتابها الربيع الصامت في الستينيات حول تأثير مادة “دي دي تي” (DDT) على البيئة، شنت شركات الكيماويات حملة تشويه ضدها، مدعيةً أن كتابها غير علمي. وكانت النتيجة أنه استمر استخدام مادة “دي دي تي” (DDT) لفترة طويلة رغم تصاعد الأدلة التي تشير إلى أضرارها ومخاطرها الجسيمة.
صناعة السكر:
في الستينيات، مولت “جمعية السكر” أبحاثًا ظهرت في مجلات علمية مرموقة، تُلقي اللوم على الدهون المشبعة باعتبارها السبب الرئيسي لأمراض القلب، بينما قللت من خطورة السكر. وتم الكشف لاحقًا أن هذه الدراسات كانت مدعومة ماليًا من شركات السكر، وهدفها تشتيت الانتباه عن أضرار السكر الحقيقية. ولكن في المقابل فقد، اعتمدت التوصيات الغذائية على تقليل الدهون بدلًا من السكر لعقود، مما ساهم في انتشار السمنة وأمراض القلب.
المواد الغذائية السريعة والمشروبات الغازية:
تروج شركات المشروبات الغازية للرياضة والنشاط البدني بدلًا من تقليل استهلاك السكر. وتنفق مبالغ ضخمة لتمويل أبحاث تظهر أن السمنة ليست ناتجة عن استهلاك منتجاتها، مما أدي إلى عرقلة الجهود للحد من استهلاك السكر عالميًا. ومولت شركات مثل “كوكاكولا” أبحاثًا تدعم فكرة أن السمنة ناتجة عن قلة الحركة وليس بسبب استهلاك المشروبات السكرية. وأطلقت حملات تسويقية ضخمة تشجع على ممارسة الرياضة، لكنها تتجاهل ضرر المشروبات السكرية في زيادة الوزن. ولهذا، فلقد استمرت هذه المشروبات في تحقيق أرباح ضخمة.
صناعة الأطعمة المجهزة:
تسوق الشركات المنتجات التي تحتوي على مستويات عالية من السكر أو الملح باعتبارها “منخفضة الدهون” أو “خالية من الغلوتين” لجذب المستهلكين الباحثين عن خيارات صحية. ومولت الشركات دراسات تنفي علاقة المكونات المصنعة بالسمنة أو الأمراض المزمنة. وارتفعت معدلات استهلاك الأطعمة المصنعة رغم أضرارها الصحية طويلة المدى.
صناعة الكحول:
مولت شركات الكحول دراسات تروج لفكرة أن شرب الكحول باعتدال (خصوصًا النبيذ الأحمر) مفيد للقلب، في حين تجاهلت الدراسات التي تربطه بأمراض مثل السرطان والإدمان. وقامت الشركات بتضخيم الفوائد الصحية للكحول بشكل غير متوازن مقارنة بالمخاطر. ورسّخت شركات الكحول فكرة خاطئة لدى الجمهور بأن استهلاك الكحول المعتدل مفيد، مما ساهم في زيادة الاستهلاك.
شركة “مونسانتو ” و”الغليفوسات”:
مولت شركة “مونسانتو” دراسات تظهر أن مبيد الأعشاب الغليفوسات (المكون الأساسي في منتج “راوند أب”) ليس مسببًا للسرطان، في حين أن منظمة الصحة العالمية صنفته كمادة “مسببة محتملة للسرطان”. ولهذا فقد استمر استخدام المادة في الزراعة رغم المخاطر الصحية المحتملة.
صناعة الأدوية والمسكنات:
مولت شركات مثل “بيرديو فارما” حملات إعلامية للترويج لاستخدام مسكنات الأفيون (opioids)، مثل “OxyContin”، وقللت بشكل ممنهج من مخاطر الإدمان. وضغطت الشركات على الأطباء لوصف الأدوية باعتبارها “آمنة وفعالة”، مما أدي في النهاية إلى أزمة في الولايات المتحدة، مع وفاة آلاف الأشخاص بسبب الإدمان والجرعات الزائدة.
صناعة البلاستيك:
أطلقت الشركات حملات تركز على إعادة التدوير كحل وحيد لمشكلة النفايات البلاستيكية، بينما تستمر في إنتاج كميات هائلة من البلاستيك الذي يصعب تدويره. ونقلت الشركات المسؤولية من الشركات إلى الأفراد، ولهذا فقد تأخرت الجهود الحقيقية لتقليل استخدام البلاستيك.
صناعة الوقود الأحفوري وتغير المناخ:
مولت شركات مثل “إكسون موبيل” و”شيفرون” حملات لإظهار أن الأدلة على الاحتباس الحراري ليست قاطعة. ولهذا، تأخر التقدم في السياسات المناخية الدولية لعقود.
ومولت شركة “إكسون موبيل” أبحاثًا تدعي أن الاحتباس الحراري ظاهرة طبيعية وليست ناتجة عن النشاط البشري، وأنفقت ملايين الدولارات على حملات إعلامية لتشويه سمعة العلماء الذين يحذرون من التغير المناخي. ولهذا فقد تأخر التحول إلى مصادر الطاقة النظيفة، واستمرت الشركات في تحقيق أرباح ضخمة.
آليات صنع الشك:
1. اختيار مصادر غير موثوقة أو متحيزة:
قد يعتمد الصحفي على مصادر تموّلها الجهات التي لها مصلحة في تشويه الحقيقة.
2. تشويه الدراسات العلمية:
تقديم دراسات ضعيفة أو مجتزأة كأدلة تعارض الإجماع العلمي.
3. الترويج لنظريات المؤامرة:
زرع فكرة أن العلماء أو الحكومات تعمل ضد مصلحة العامة.
4. استخدام لغة عاطفية أو مثيرة:
جذب الانتباه من خلال سرد قصص مبالغ فيها، مما يجعلها أكثر تأثيرًا على الجمهور.
5. تلميع سمعة الشركات السامة:
الصحفي قد يكتب مقالات إيجابية تسوّق للشركات التي تتورط في ممارسات ضارة بالصحة أو البيئة.
الأهداف:
• إثراء شركات المحاماة: تستفيد بعض شركات المحاماة من النزاعات القانونية الناتجة عن الشكوك التي أُثيرت حول منتجات أو ممارسات معينة.
• تقويض الثقة في العلم: الهدف هو جعل الجمهور يشك في الدراسات العلمية، مما يسمح للشركات بمواصلة أعمالها دون مساءلة.
• التأثير على السياسات العامة: بإضعاف الحجج العلمية، يتم الضغط على الحكومات لعدم اتخاذ إجراءات تنظيمية.
كيفية عمل أساليب “مصنع الشك” بالتفصيل:
1. تمويل أبحاث علمية زائفة:
يتم تمويل دراسات ذات جودة منخفضة أو متحيزة تدعم وجهة نظر محددة. غالبًا ما تُجرى هذه الدراسات من قبل علماء أو مراكز أبحاث تربطها علاقات مالية أو مصلحية مع الشركات المتهمة.
مثال: في الستينيات والسبعينيات، مولت شركات التبغ أبحاثًا زعمت أن التدخين ليس مرتبطًا مباشرة بسرطان الرئة، مما أدى إلى تأخير التشريعات التنظيمية لعقود.
2. توظيف “خبراء” للتشكيك في العلم:
يتم الدفع لخبراء ظاهريين (أطباء، علماء) لتقديم شهادات أو نشر مقالات تتحدى الإجماع العلمي.
مثال: في قضايا الاحتباس الحراري، استعانت شركات النفط بخبراء اقتصاديين وعلماء للتشكيك في العلاقة بين الانبعاثات الكربونية وتغير المناخ.
3. التلاعب بوسائل الإعلام:
استخدام استراتيجيات الإعلام الحديثة للترويج لوجهات نظر منحازة، مثل التركيز على الخلافات الصغيرة بين العلماء وتضخيمها.
مثال: صناعة الكيماويات روّجت لفكرة أن مادة “بيسفينول أ” (BPA) في البلاستيك ليست ضارة بالصحة، رغم الأدلة التي تشير إلى العكس.
4. إثارة الجدل بدلًا من تقديم حقائق:
الهدف هو تقديم الموضوع وكأنه مسألة جدلية بدلاً من حقيقة مثبتة. يتم ذلك بإطار يجعل القضية “قابلة للنقاش”.
مثال: في قضية الأسبستوس، تم تضخيم الجدل حول مدى خطورته على الصحة، رغم وجود أدلة دامغة على ارتباطه بسرطان الرئة.
5. الضغط القانوني والإعلامي:
تُستخدم القضايا القانونية لتهديد المعارضين أو لإبراز وجهة نظر الشركات.
مثال: عندما بدأت شركات تصنيع الوقود الأحفوري تتعرض لانتقادات بسبب تأثيرها على البيئة، استثمرت في حملات علاقات عامة ونشاطات قانونية لعرقلة السياسات المناخية.
فعالية أساليب “مصانع الشك”
• الجمهور غير المتخصص: كثير من الناس لا يستطيعون تقييم الدراسات العلمية بأنفسهم.
• التعقيد العلمي: الموضوعات العلمية غالبًا معقدة وتحتاج لجهد لفهمها، مما يجعل الجمهور عرضة للتلاعب.
• تواطؤ الإعلام: ينظر الجمهور إلى وسائل الإعلام كجهة حيادية دون وعي بالعوامل المؤثرة عليها. بينما تميل وسائل الإعلام إلى نقل القضايا الجدلية لجذب الجمهور، مما يضخم أصوات التشكيك.
• القدرة على التشويش: تقديم معلومات متناقضة تجعل الجمهور في حالة حيرة، ما يؤدي إلى التردد في اتخاذ إجراءات.
• الضغط على الجهات التنظيمية: استخدام المال والنفوذ للتأثير على السياسات ومنع التشريعات.
دراسة حالة: الصحفي الفرنسي ستيفان فوكار
في ظل تصاعد التحديات العالمية المتعلقة بالزراعة، الصحة العامة، والبيئة، يبرز دور الإعلام في تشكيل الرأي العام وتوجيه السياسات. ومع ذلك، فإن توظيف الإعلام لتحقيق أجندات خفية ليس بالأمر الجديد. في هذا السياق، تعكس قضية الصحفي الفرنسي ستيفان فوكار كما وردت في مقال لـ André Heitz في Genetic Literacy Project مثالًا حيًا على كيفية استغلال الصحافة لزرع الشك والتلاعب بالحقائق.
الادعاءات ضد ستيفان فوكار
يعمل فوكار كصحفي بيئي في صحيفة لوموند الفرنسية، ووفقًا للمقال، يستغل منصبه الصحفي لتعزيز أجندة مناهضة للصناعات الزراعية الكيميائية، مثل المبيدات والمحاصيل المعدلة وراثيًا. بدلاً من تقديم تقارير موضوعية، يوصف بأنه ينشر اتهامات دون أدلة كافية، ويهاجم شركات وأفرادًا في هذا القطاع عبر لوموند ومنصات أخرى.
استراتيجيات فوكار في “مصنع الشك”
بحسب المقال، يمكن تلخيص استراتيجيات فوكار في عدة نقاط:
1. خلق “عدو شرير”
استهداف شركات مثل v-Fluence وهي شركة استشارية صغيرة متخصصة في تحليل الإعلام. يُصورها فوكار على أنها جزء من “دعاية عالمية” للصناعات الكيميائية، رغم أن نشاطها يقتصر على تقديم خدمات إعلامية شفافة.
2. التلاعب بالسرديات الصحفية
يعتمد فوكار على سرد قصص مثيرة للجدل لجذب الانتباه، مثل الزعم بوجود مؤامرات أمريكية لإفشال السياسات البيئية الأوروبية.
3. الإشارة إلى تواطؤ حكومي مزعوم
يزعم أن شركات مثل v-Fluence لعبت دورًا رئيسيًا في التأثير على سياسات الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالزراعة المستدامة، رغم غياب أدلة قوية.
4. استخدام التكهنات والاتهامات غير المبررة
ربط الشركات مثل v-Fluence بتصرفات مشبوهة دون تقديم أدلة قاطعة، مما يسهم في بناء صورة سلبية عنها.
العلاقة بين القصة والواقع العالمي
ما يُثار في هذه القضية يعكس ظاهرة أكبر تُعرف بـ “صناعة الشك”، حيث يتم استغلال الإعلام لتقويض الثقة في العلم وخدمة مصالح ضيقة. ومن أبرز الأمثلة على ذلك:
• التشكيك في تغير المناخ: تموّل بعض الصناعات حملات إعلامية للتقليل من أهمية الاحتباس الحراري.
• الهجمات على الزراعة التقنية: يتم تضخيم مخاطر المحاصيل المعدلة وراثيًا والمبيدات الزراعية لإثارة الجدل، مع إهمال فوائدها.
دور الصحافة المسؤولة في التصدي لظاهرة “مصنع الشك”
تلعب الصحافة المسؤولة دورًا أساسيًا في مواجهة ظاهرة “مصنع الشك”، حيث يتم التلاعب بالمعلومات لتقويض الثقة في العلوم والسياسات العامة، خاصة في مجالات الصحة، البيئة، والزراعة. فيما يلي أبرز السبل التي يمكن أن تسهم فيها الصحافة المسؤولة في هذا الصدد:
1. الالتزام بالمعايير المهنية والأخلاقية:
ينبغي للصحفيين الالتزام بالمصداقية والتحقق من المعلومات قبل نشرها. التعامل المهني مع المصادر وعدم الانجرار وراء أجندات مشبوهة هو مفتاح التصدي للتضليل الإعلامي.
2. تعزيز ثقافة الصحافة الاستقصائية القائمة على الأدلة:
يمكن للصحافة الاستقصائية أن تكشف الأجندات الخفية لمن يروجون للشكوك حول القضايا العلمية. التحقيقات المستندة إلى أدلة تساعد الجمهور على التمييز بين الحقائق والافتراضات المشوهة.
3. توضيح المفاهيم العلمية بلغة مبسطة:
تلعب الصحافة دورًا مهمًا في تبسيط القضايا العلمية المعقدة للجمهور، مما يساعد على فهمها بشكل أفضل ويقلل من فرصة تأثير حملات التشكيك.
4. تعزيز التفكير النقدي لدى الجمهور:
على الصحافة أن تشجع جمهورها على التحقق من المصادر، وفهم الأجندات المحتملة وراء المعلومات، والتساؤل النقدي بدلاً من القبول السريع لما يتم عرضه.
5. فضح حملات التضليل والتلاعب:
من خلال كشف الأساليب التي تُستخدم للتلاعب بالمعلومات، مثل خلق أعداء زائفين أو المبالغة في تأثيرات معينة، يمكن للصحافة أن تسهم في تقويض مصداقية مصادر الشك.
6. العمل بالتعاون مع مؤسسات البحث العلمي:
التعاون بين الإعلام والمؤسسات العلمية يساهم في تقديم تقارير دقيقة عن الأبحاث والاكتشافات، مما يقلل من خطر التفسيرات المغلوطة أو التلاعب بها.
أمثلة ودروس مستفادة
في الولايات المتحدة، كانت هناك حملات شك مدروسة قادتها شركات التبغ للتشكيك في أضرار التدخين. تصدت لها الصحافة المسؤولة لاحقًا بفضح الوثائق الداخلية للشركات، ما ساعد في كشف الحقيقة. وفي قضايا مثل تغيّر المناخ، تتعاون المؤسسات الصحفية المرموقة مع علماء بيئة لتقديم تقارير موثوقة وتفنيد الادعاءات المغلوطة.
تحتاج الصحافة المسؤولة إلى موارد ومهارات تمكنها من مواجهة حملات “مصانع الشك”. وتؤكد هذه المعلومات الحاجة إلى صحافة قائمة على الحقائق والمساءلة. وعلى الإعلاميين الالتزام بالمعايير المهنية لتجنب التلاعب بالرأي العام وإضعاف الثقة في العلم والسياسات العامة.
بالإضافة، فإن تعزيز التفكير النقدي لدى الجمهور يعد أداة قوية لمواجهة حملات التضليل. ومن خلال الالتزام بالمعايير الأخلاقية، والعمل على توعية الجمهور، يمكن للإعلام أن يكون خط الدفاع الأول ضد التضليل والإضرار بالصالح العام.
ظاهرة “مصانع الشك” هي أكثر من مجرد تهديد، إنه تحدٍ يدعونا إلى التفكير بشكل أعمق حول طبيعة الحقيقة والمعرفة، ولكنه في المقابل تمثل الظاهرة أيضًا فرصة للتفكير بشكل أعمق حول طبيعة الحقيقة والمعرفة. علينا أن نتعلم كيف نميز بين الحقيقة والرأي، وأن نحترم العلم، فالحقيقة هي سلاحنا الأقوى، والعلم هو دليلنا.
وتتطلب محاربة “مصانع الشك” جهودًا تكاملية بين الصحافة، والمؤسسات العلمية، والجمهور الواعي. تعزيز التفكير النقدي، التحقق من المصادر، والكشف عن الأجندات الخفية هي مفاتيح رئيسية لاستعادة الثقة في الحقائق العلمية. إن ظاهرة “مصانع الشك” تهدد ليس فقط قدرتنا على اتخاذ قرارات مستنيرة، بل تهدد أيضًا مستقبلنا الجماعي. علينا أن نكون يقظين وحذرين، وأن نتحقق من مصادر المعلومات التي نعتمد عليها. وبينما تواصل هذه المصانع عملها في الظل، يبقى التحدي الأكبر أمام الجميع هو بناء مجتمعٍ يعرف كيف يميز بين الحقيقة والتلاعب، ويقف في وجه التضليل لتحقيق مستقبلٍ أكثر شفافية وعدالة.
في النهاية، يجب أن نعلّم أطفالنا كيفية التفكير النقدي، وكيفية تمييز الحقيقة عن الزيف. فالحقيقة هي سلاحنا الأقوى في مواجهة هذا التحدي. ورغم كل التحديات التي تواجهنا، لازال هناك أمل. فالإنسان بطبيعته فضولي ومتعطش للمعرفة. وبفضل التكنولوجيا الحديثة، أصبح لدينا أدوات قوية للتحقق من المعلومات ومشاركتها. علينا أن نستغل هذه الأدوات لبناء مجتمع أكثر وعياً، وأكثر قدرة على التفكير النقدي. ولا يمكننا السماح بانتشار الأكاذيب والشائعات دون أن نقاوم. علينا أن ندعم الصحافة الاستقصائية، وأن نشجع العلماء على التواصل مع الجمهور بشكل مباشر، وأن نشارك المعلومات الصحيحة مع من حولنا. لنبني مجتمعًا مبنيًا على المعرفة والتفكير النقدي، مجتمعًا لا مكان فيه للأكاذيب والشائعات. فكل فرد منا لديه دور يلعبه في مكافحة ظاهرة “مصانع الشك”.
المصادر:
1. Agnatology: The Cultural Production of Ignorance.
2. Agnotology: Ignorance and Absence, or Towards a Sociology of Things that Aren’t There.
3. Agnotology: understanding our ignorance.
4. Climate skepticism and the manufacture of doubt: can dissent in science be epistemically detrimental.
5. Scientists: don’t feed the doubt machine.
6. The Doubt Factory.
7. The man who studies the spread of ignorance.
8. Viewpoint: ‘Doubt factory’—How a French journalist manufactures facts to manipulate the media, enrich toxic tort law firms and undermine science.
9. What Can We Do About Science Denial, Doubt, and Resistance
د. طارق قابيل
– أكاديمي، خبير التقنية الحيوية، كاتب ومحرر ومترجم علمي، ومستشار في الصحافة العلمية والتواصل العلمي
– عضو هيئة التدريس بقسم التقنية الحيوية – كلية العلوم – جامعة القاهرة
– الباحث الرئيسي لمشروع خارطة طريق “مستقبل التواصل العلمي في مصر ودوره في الاعلام العلمي”، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مصر.
– مقرر لجنة الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية والدراسات الاستراتيجية ومؤشرات العلوم والتكنولوجي، وزميل أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
– عضو المجموعة الاستشارية العربية للعلوم والتكنولوجيا، التابعة للمكتب الإقليمي للأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث للدول العربية.
https://orcid.org/0000-0002-2213-8911
http://scholar.cu.edu.eg/tkapiel
tkapiel@sci.cu.edu.eg