إعادة صياغة أسس التربية المجتمعية لمواجهة تحديات المستقبل
شبكة بيئة أبوظبي، إعداد الطالب الباحث: عبد الكريم وشاطي
إشراف: أد. عبد العزيز فعرس، و أد. محمد قفصي، جامعة محمد الخامس، المملكة المغربية 10 يناير 2025
تبلورت أفكار هذا المقال من خلال مجموعة من الإشكالات المتعلقة بالمسؤولية المجتمعية، التي أثارها المهندس عماد سعد خلال محاضرته القيّمة في رحاب كلية علوم التربية التابعة لجامعة محمد الخامس بالرباط، يوم 2 نوفمبر 2024. وقد جاءت هذه المحاضرة ضمن الجلسات العلمية التي ينظمها كرسي الألكسو للتربية على التنمية المستدامة والموروث الثقافي، بالتنسيق مع ماستر تدريس العلوم الاجتماعية والتنمية في الكلية نفسها، حيث تناولت بالدراسة والتحليل موضوع “نمط العيش وتأثيره على التغير المناخي: أية مسؤولية مجتمعية لحماية البيئة؟”.
لقد طرحت هذه المحاضرة لدي، كطالب باحث، العديد من التساؤلات حول مفهوم المسؤولية المجتمعية، خاصةً في ضوء إشارة المحاضر إلى مقولة جان جاك روسو: “يجب تربية الآباء قبل تربية الأبناء”، التي توضح أن التربية تبدأ من الآباء قبل شروعهم في قيادة الأسرة كلبنة أساسية ضمن المجتمع. إذ ينبغي من هذا المنظور أن يكون الآباء قدوة لأبنائهم في تحمل المسؤولية تجاه المجتمع والمجال . ومن هنا تنشأ أهمية تنشئة الأجيال على إدراك أثر سلوكياتهم على المجتمع والبيئة، مما يعزز تحقيق أهداف التنمية المستدامة. وعليه تصبح التربية على المسؤولية المجتمعية، وخاصة في القضايا المرتبطة بنمط العيش المعتدل، جزءًا أساسيًا من تربية الأبناء، حيث يُغرس فيهم قيم تحفزهم على حماية الموارد الطبيعية والتكيف مع نمط الحياة بشكل متوازن يحقق الاعتدال ويبتعد عن الإفراط والتفريط.
حيث تستمد التربية على المسؤولية المجتمعية أهميتها في عالم سريع التغير؛ إذ يصبح تعليم الأجيال الجديدة على تحمل المسؤولية أمرا حيويا لمواجهة التحديات الراهنة . خصوصا مع تزايد الضغوط البيئية والاجتماعية، تبرز الحاجة إلى مراجعة أساليب التربية السلوكية التقليدية في المجتمع المغربي لضمان نشوء جيل واعٍ بواجباته ومسؤولياته. فالتربية على المسؤولية ليست مجرد توجيهات، بل هي أساس لتكوين أجيال تدرك أثر أفعالها وتتحمل نتائجها. ومع ذلك نجد في المجتمع المغربي ممارسات تربوية أسرية راسخة تؤدي إلى نتائج عكسية، حيث تعزز مفاهيم سلبية تتعارض مع متطلبات التنشئة الاجتماعية السليمة والمستدامة.
ومن الأمثلة على ذلك أنه عند سقوط الطفل، أو اصطدامه بجدار، أو طاولة، أو باب…، عند جل الأسر المغربية نجد أن بعض الأمهات يقمن بضرب هذا الجماد لإرضاء الطفل وتجنب صراخه، مما يغرس لديه شعورًا بأن هذا الجماد هو “المسؤول والمخطئ”. وهكذا ينشأ الطفل مقتنعا بأنه ليس هو المخطئ، بل الجدار أو الطاولة أو الباب هو المسؤول. تدريجيا، يتربى الطفل على الميل لإلقاء أخطائه على الآخرين، حتى لو كانوا جمادات، فما بالك إن تعلق الأمر بكائنات حية أخرى! هذا يُعزز لديه اعتقادا بأن الخطأ يقع على الآخرين أو الظروف. ومع مرور الوقت، ينشأ الطفل مقتنعا بهذه الافكار -ذات الحمولة القيمية السلبية – فيلوم الآخرين على أخطائه.
حيث يظهر ذلك جلياً في سلوكنا اليومي، فمثلما نلاحظ في عبارة يقولها المتعلم (ة) المتأخر عن المدرسة: “أغلقوا باب المدرسة”، بدل قوله: “تأخرتُ في الوصول إلى المدرسة في الوقت المحدد”، علاوة على ذلك يميل المتعلم (ة) إلى نسب الدرجات الجيدة للاختبارات إلى نفسه بقوله: “حصلت على درجة جيدة في الاختبار “، بينما يلوم الأستاذ على الدرجات المتدنية قائلاً: “أعطاني الأستاذ درجة متدنية في الاختبار “.
كما نرى هذا السلوك أيضاً لدى الكبار، مثل عند قول بعضهم: “ذهبت عني الحافلة/القطار/الطائرة” بدلاً من الاعتراف بتقصيرهم في الوصول في الوقت المحدد. ورغم مرورنا على هذه السلوكيات مرور الكرام، إلا أنها مؤشرات تعكس التأثير السلبي للتربية الخاطئة في تشكيل شخصياتنا. لكن في المقابل عند مقارنة أساليب التربية في المجتمع المغربي ببعض المجتمعات الغربية، نجد اختلافا واضحا؛ إذ تركز المجتمعات الغربية على تعليم الفرد تحمل تبعات أفعاله وسلوكه منذ سن مبكرة، مما يعزز ثقته بنفسه وحس المسؤولية لديه. وعلى سبيل المثال لا الحصر كثيرا ما نصادف أجانب في السفر يقولون، “لقد تأخرت عن موعد القطار- الطائرة…. “، مما يظهر عند تحليل الخطاب من خلال تعبيرهم تحملهم للمسؤولية، في حين يشيع لدينا إلقاء اللوم على الآخرين كآلية للتملص من المسؤولية. بصرف النظر على حث الأطفال في المجتمعات الغربية على المبادرة، بينما نجد أن القوة الاقتراحية في مجتمعنا غالبا ما تكون قائمة على التنظير البعيد عن التطبيق يا للأسف الشديد.
ورغم أن للمجتمعات الغربية سلبيات عديدة، إلا أن أساليب التربية التي تنتهجها في جوانب كثيرة تعد إيجابية وتؤثر بشكل ملموس على تطور الأفراد وقدرتهم على اتخاذ القرارات وتحمل المسؤولية الشخصية، مما يسهم في بناء مجتمع قائم على الثقة بالنفس والمحاسبة الذاتية. وهنا تحضرني قصة تدعم قيم المسؤولية والمبادرة، مثل قصة الحاكم الصيني الذي وضع حجرًا في الطريق لاختبار حس المسؤولية لدى الناس. فلم يقم سوى شخص واحد بإزاحة الحجر من الطريق، ليكتشف تحت الحجر صندوقا يحتوي على جائزة مالية ضخمة، مُكافأة له على قيامه بالفعل بدلاً من التذمر وانتظار الآخرين للقيام به، رغم قدرته على الفعل. . فقصص مثل هذه تمثل قيما يحتاجها المجتمع لإعداد أفراد قادرين على مواجهة التحديات. ومع ذلك نجد في بعض الموروثات الشعبية المحلية عندنا أمثالا تشجع على الأنانية والفردانية المقيتة، مثل مقولة متداولة في أوساط المجتمع المغربي ” تتجاوزني أنا وتأتي أينما شاءت “، مما يتعارض مع قيم المسؤولية المجتمعية والدينية والهوية، التي تجعلنا نركب سفينة واحدة، نجاتها تعني نجاتنا جميعًا، وثقبها يؤدي إلى غرقنا جميعًا.
ختاما، نجد أن التربية السائدة في المجتمع المغربي، رغم غناها الثقافي، تتطلب مراجعة لإزالة الشوائب بهدف تعزيز حس المسؤولية لدى الأجيال الناشئة. ويتطلب ذلك من الآباء والمربين وعيًا بأهمية الاعتراف بالأخطاء وتحمل مسؤولية نتائجها، مما ينعكس إيجابًا على بناء مجتمع قوي ومتماسك. من هنا تبرز أهمية إدراج التربية على تعديل السلوك في وقت مبكر من الطفولة في المناهج التعليمية، وإطلاق حملات توعوية عبر المجتمع المدني تشجع الأفراد على تحمل مسؤولياتهم المجتمعية والبيئية. من خلال هذه الخطوات، نقترب من بناء مستقبل مستدام يضمن تنشئة أجيال واعية وملتزمة بقيم المسؤولية.
وللإشارة أن هذا المقال يتناول ظاهرة التربية على المسؤولية في سياق المجتمع المغربي تحديدًا، دون تعميمها على العالم العربي ككل. وعلى الرغم من احتمال وجود ظواهر مشابهة في مجتمعات أخرى، يبقى للقراء تقييم مدى تشابه تجاربهم مع ما تم عرضه.