شبكة بيئة ابوظبي، بقلم د. حسام حاضري مستشار التطوير الاستراتيجي واستشراف المستقبل، 26 يناير 2025
إذا تصفحنا المؤلفاتِ المتاحة، سواء العلمية، أو الأدبية، أو السياسية، أو التاريخية لعهود خلت، لوجدناها حُبلى بالتجارب والممارسات والأحداث والأزمات، وطرق التعاطي معها خلال فترةٍ ما من الماضي. ورغم أنّ هذه المعطيات تصلحُ لأن تكونَ قاعدةَ بياناتٍ يمكنُ البناء عليها للمستقبل؛ فهي اليوم وخاصةً في ظلِّ عالمٍ يتسمُ بالتعقيد وتشابك المصالح، تُعتبرُ الأساس لصناعة الوعي باعتباره أحد أعمدة تشكل المجتمعات، والأداة التي تُصاغُ بعنايةٍ لتحديد ما نُفكرُ فيه، وكيف نرى العالمَ من حولنا، لتصنعَ وعينا الجماعي والفردي. وهنا تظهرُ التساؤلاتُ المشروعة، هل نحنُ مدركون لحجم التأثير الذي يُمارسُ علينا؟ وهل يمكنُ أن نمتلكَ زمامَ الوعي بدلاً من أن نكونَ أدواتٍ فيه؟
بدايةً لا بدّ من الإشارة إلى أنّ درجةَ الوعي تختلفُ بين المجتمعات البشرية، وترتبطُ ارتباطاً وثيقاً بالأحداث والمعطيات وربما الكوارث التي مرت على كل منها. فمن الظلم أن تُقارنَ مثلاً مجتمعاتٌ مازالت تعيشُ حياةً بدائيةً في الأدغال، مع مجتمعاتٍ تتنافسُ فيما بينها لتحقيق قصب السبق في الوصول إلى الفضاء. ولكن، في منظومة العولمة لا بدّ لأي مجتمع امتلاك الحدِّ المقبول من الوعي، حتى لا يتحولَ إلى متفرجٍ للمنافساتِ الدولية، ومترقبٍ لدرجةِ انعكاسها وتأثيرها عليه، بل يكونَ لاعباً فاعلاً في مجريات الأحداث.
وإذا اتفقنا على أن تشكيلَ الوعي هو صناعةٌ بحد ذاته؛ فإنّ أخلاقياتِ بنائها تلعبُ دورًا جوهريًا في تحديد طبيعتها، ودرجةِ تأثيرها على الأفراد والمجتمعات، إذ يمكنُ أن تكونَ أداةً فعّالةً لتعزيز القيم الإيجابية، وترسيخ الوعي بقضايا مهمة مثل: العدالة الاجتماعية، والاستدامة البيئية، وحقوق الإنسان إذا مورست بشكل مسؤول؛ فتصبحَ قوةً دافعةً لإحداث التغييرات الإيجابية التي تدعمُ تطورَ المجتمعات وتقدمها. أما إذا انحرفت هذه الصناعة عن أهدافها النبيلة لتُستخدمَ كوسيلةٍ للتضليل، أو التلاعب بالرأي العام، أو فرض أجنداتٍ تخدمُ مصالحَ ضيقةً على حساب المصلحة العامة. فحينئذٍ تغوصُ في السلبية، وتتحولُ إلى تهديدٍ لحريةِ التفكير، وتقويضٍ لاستقلالية الأفراد في اتخاذ قراراتهم.
ولمقاومةِ التلاعب بالوعي في عصر تزايد التدفق المعلوماتي والتأثير الإعلامي؛ لا بدَّ من التركيز على التفكير النقدي التحليلي الذي يُتيحُ للأفراد القدرةَ على تحليل المعلومات، والتمييز بين الحقائق والشائعات، وفهم السياقات التي تُطرحُ فيها الأفكار؛ فيتحصنوا من التأثر بالدعاية والأخبار المضللة. إضافةً إلى اللجوء إلى أدوات التحقق من المعلومة. ورغمَ أنّ التكنولوجيا الحديثة إحدى مكتسبات العصر الحالي، بيدَ أنها سلاحٌ ذو حدين؛ فكما أنها تُسهمُ في نشر الوعي، يمكنُ أن تكونَ أداةً للتلاعب بالعقول والمشاعر. إنّ تنمية الوعي الذاتي المستقل لا تتمُّ إلا عبرَ القراءةِ المتنوعة، والانفتاح على وجهات النظر المختلفة، والذي يؤدي في نهايةِ المطاف إلى خلق مجتمعاتٍ واعيةٍ قادرةٍ على تجاوز التحديات باحترافيةٍ وتمكن.
ويُعتبرُ الوعيُ الركيزةَ الأساسية لتحقيق التنمية المستدامة لما لهُ من دورٍ محوري في تعزيز الفهم العميق للقضايا البيئية، والاجتماعية، والاقتصادية التي تُواجهُ المجتمعات. فيغدو محفزاً لدعم السياسات التي تُعززُ العدالةَ الاجتماعية، وتقليل الفجوات الاقتصادية، مما يُسهمُ في بناء مجتمعاتٍ أكثر شمولية وتناغماً.
وأخيراً أقول: إنّ صناعةَ الوعي مسؤوليةٌ مجتمعيةٌ، يشتركُ في خطِّ أركانها جميعُ أفراد المجتمع عبر العمل الجاد لتشكيل المجتمع المعرفي. فهل نحنُ مستعدون لخوض غمار صناعة وعي أجيال المستقبل؟ أم سنكتفي بدور المتفرجين؟