الفطريات المشعة في تشيرنوبل

من كارثة نووية إلى أمل علمي واعد في استكشاف الفضاء

شبكة بيئة ابوظبي، د. طارق قابيل، القاهرة، جمهورية مصر العربية، 06 مارس 2025
في السادس والعشرين من أبريل عام 1986، شهد العالم أحد أسوأ الحوادث النووية في التاريخ، حين انفجر المفاعل رقم 4 في محطة تشيرنوبل للطاقة النووية في أوكرانيا، متسببًا في إطلاق كميات كارثية من المواد المشعة في الغلاف الجوي. وقد أُجليت مدينة بريبيات المجاورة بالكامل، وفرضت منطقة إقصاء بقطر 30 كيلومترًا حول المفاعل، ما جعلها واحدة من أكثر المواقع تلوثًا بالإشعاع على وجه الأرض.
لكن وسط هذا الدمار، ظهرت ظاهرة بيولوجية مدهشة جذبت انتباه العلماء لعقود لاحقة: نوع من الفطريات السوداء، مثل Cladosporium sphaerospermum، وجد ينمو بكثافة على جدران المفاعل المنصهر نفسه، متحديًا بيئة مشعة قاتلة. وأثارت هذه الفطريات الفضول العلمي، ليس فقط لقدرتها على البقاء في بيئة مُميتة، بل لأنها، بشكل مذهل، تتغذى على الإشعاع نفسه.

آلية التكيف
كشفت الدراسات الميكروبيولوجية أن هذه الفطريات تمتلك آلية بيولوجية فريدة تعتمد على صبغة الميلانين، وهي نفس الصبغة التي توجد في جلد الإنسان. لكن بدلًا من أن يقتصر دور الميلانين على الحماية السلبية كما في البشر، يعمل الميلانين الفطري على امتصاص الإشعاع المؤين (Ionizing Radiation) وتحويله إلى طاقة كيميائية تدعم النمو والتكاثر. هذه العملية، التي أطلق عليها العلماء اسم التخليق الإشعاعي (Radiosynthesis)، تُعد مكافئًا إشعاعيًا لعملية التمثيل الضوئي (Photosynthesis) التي تستخدمها النباتات، لكن بدلًا من ضوء الشمس، تستغل الفطريات الفوتونات عالية الطاقة المنبعثة من الإشعاع.
تتلخص الآلية الحيوية في الخطوات التالية:
1. امتصاص الإشعاع: الميلانين يلتقط فوتونات الإشعاع المؤين.
2. إثارة إلكترونات الميلانين: تنتقل الإلكترونات المثارة عبر بنية الميلانين الجزيئية، ما يخلق تيارًا إلكترونيًا داخليًا.
3. إنتاج الطاقة: يتم استغلال هذا التيار الإلكتروني في سلسلة من التفاعلات الكيميائية تنتج جزيئات الطاقة (ATP) الضرورية للحياة الخلوية.

مختبر حيوي لدراسة الحياة تحت الضغط الإشعاعي
ما يميز تشيرنوبل اليوم ليس فقط تاريخها المأساوي، بل تحولها إلى مختبر طبيعي فريد لدراسة أثر الإشعاع على الحياة. وتعد الفطريات المشعة المكتشفة هناك نموذجًا مثاليًا لدراسة كيف يمكن للحياة أن تتكيف مع ظروف كنا نعتقد أنها غير صالحة للحياة تمامًا. وعلى مدار العقود الثلاثة الماضية، كشفت الدراسات الجزيئية والجينية عن أسرار قدرة هذه الفطريات على استغلال بيئة مشعة مميتة وتحويلها إلى موطن نمو فطري مزدهر.

من الأرض إلى الفضاء: التطبيقات الأرضية والفضائية للفطريات المشعة
أولًا: المعالجة الحيوية للمناطق الملوثة إشعاعيًا

الفطريات المشعة تقدم أداة معالجة حيوية (Bioremediation) مبتكرة لتنظيف المواقع النووية الملوثة. إذ يمكن لهذه الفطريات امتصاص الإشعاع من التربة والهياكل الخرسانية، مما يقلل مستويات التلوث الإشعاعي بآلية منخفضة التكلفة ومستدامة بيئيًا.

ثانيًا: درع حيوي في الفضاء الخارجي
خارج الغلاف المغناطيسي للأرض، يُعد الإشعاع الكوني أحد أكبر الأخطار التي تهدد صحة رواد الفضاء. وقد دفع ذلك باحثين من جامعتي ستانفورد ونورث كارولينا في عام 2020 إلى إرسال عينات من الفطريات المشعة إلى محطة الفضاء الدولية (ISS) لدراسة أدائها في الفضاء.

النتائج الأولية كانت مبشرة: طبقة من الفطريات بسماكة 2 سنتيمتر نجحت في تقليل الإشعاع الفضائي بنسبة 2% خلال 30 يومًا فقط. ورغم أن هذه النسبة تبدو متواضعة، إلا أنها تمثل انطلاقة رائدة في البحث عن مواد حيوية عازلة للإشعاع يمكنها التكاثر ذاتيًا وترميم نفسها عند الضرورة. المستقبل قد يشهد تطوير بدلات فضائية تحتوي على ألياف ميلانين حيوي، أو حتى تصميم موائل فضائية ذات جدران حية مكونة من فطريات مشعة ذاتية الإصلاح.

تحديات تقنية وعلمية في طريق التبني العملي
رغم الإمكانات الواعدة، إلا أن هناك عوائق تقنية وبحثية ينبغي تخطيها قبل تبني هذه الفطريات بشكل واسع:
1. كفاءة الامتصاص المنخفضة: نسبة امتصاص 2% ليست كافية عمليًا لحماية بشر في بيئة فضائية لمدة طويلة. تحتاج الفطريات إلى هندسة وراثية لتعزيز إنتاج الميلانين ورفع كفاءة التخليق الإشعاعي.
2. الاستقرار في الفضاء: بيئة الفضاء تفرض تحديات مثل انعدام الجاذبية، وتفاوت درجات الحرارة، وندرة المغذيات. جميعها تحديات تهدد استقرار الفطريات وقدرتها على النمو.
3. التفاعل مع الإنسان: لا يزال من غير الواضح مدى أمان الفطريات المشعة عند استخدامها حول البشر، خاصة على المدى الطويل. لذلك يُدرس حاليًا استخراج الميلانين الفطري واستخدامه في مواد اصطناعية بديلة بدلًا من التعرض المباشر للكائن الحي.

الميلانين الفطري: جزيء متعدد التطبيقات
بعيدًا عن التطبيقات الفضائية، يُنظر إلى الميلانين الفطري كأداة بيولوجية ذات إمكانات متعددة:
• الطب الإشعاعي: تطوير كريمات واقية أو أدوية مضادة للإشعاع مستمدة من الميلانين الفطري.
• تكنولوجيا المواد: تطوير دهانات مضادة للإشعاع تحتوي على ميلانين بيولوجي.
• البيئة: استخدام الميلانين في معالجة النفايات النووية عبر طلاء الحاويات المشعة بطبقات ميلانينية حيوية.

من تشيرنوبل إلى المريخ
إن قصة الفطريات المشعة في تشيرنوبل ليست مجرد اكتشاف بيولوجي، بل دليل حاسم على أن الحياة، حتى في أحلك الظروف، قادرة على إعادة اختراع نفسها والبحث عن مصادر جديدة للطاقة. هذا النوع من الإبداع التطوري قد يصبح حجر الأساس في تطوير تقنيات الحماية الإشعاعية الحيوية، سواءً على الأرض أو في الفضاء.
في النهاية، فإن ما بدأ ككارثة نووية في تشيرنوبل، قد يتحول إلى أمل علمي واعد، يمكّن الإنسان من تنظيف الكوكب الذي أفسده، ويفتح له الطريق لاستعمار كواكب جديدة، مسلحًا بحلفاء بيولوجيين صغار، فطريات سوداء تتغذى على الإشعاع. وكما قال الدكتور كاستوري فينكاتيسواران، عالم الأحياء الدقيقة في وكالة ناسا:
“الحلول الكبرى لمشكلات البشرية قد تأتي من أكثر الأماكن قسوةً وتطرفًا. كل ما علينا فعله هو أن نبحث بعناية.”

Loading

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

رحلة في عالم التحريف العلمي (15)

المعلومات المضللة والشائعات خطر يهدد عالمنا المعاصر العالم على مفترق طرق: التعاون أم الانهيار؟ شبكة …