معايير الاستدامة (ESG) في القطاعين العام والخاص وإجراءات التطبيق والقيمة المضافة
عماد سعد:
– تطبيق معايير الاستدامة في القطاعين العام والخاص لم يعد خياراً، بل قَدَرٌ لا خيار فيه.
– لم تعد الشركات والهيئات الحكومية مجرد كيانات تعمل بمعزل عن المجتمع والبيئة
شبكة بيئة ابوظبي، عماد سعد، خبير الاستدامة والمسؤولية المجتمعية، 14 مارس 2025
ما الذي يجعل مؤسسةً ناجحةً بحق؟ أهي الأرقام التي تحققها في دفاتر المحاسبة، أم الأثر الذي تتركه في العالم؟ هل يمكن أن يقاس النجاح فقط بحجم الأرباح، أم أن هناك معيارًا آخر، أعمق وأهم، يكمن في قدرتها على التوازن بين الربح والمسؤولية، بين النمو والحفاظ على الحياة؟
لم تعد الشركات والهيئات الحكومية مجرد كيانات تعمل بمعزل عن المجتمع والبيئة، بل أصبحت جزءًا من نسيج متكامل، تتأثر به وتؤثر فيه. ومع ازدياد التحديات البيئية والاجتماعية، أصبح من الضروري أن تتبنى المؤسسات معايير تضمن استدامتها، ليس فقط لأجل تحقيق مكاسب اقتصادية آنية، بل من أجل بناء مستقبل أكثر استقرارًا وإنصافًا.
وهنا تأتي معايير الاستدامة البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG)، ليس كمجرد اتجاه جديد، بل كحاجة ملحة، ومسؤولية لا يمكن تجاهلها.
تشكل معايير الاستدامة (Environmental, Social, and Governance) (ESG) إطاراً استراتيجياً لتحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي وحماية البيئة والعدالة الاجتماعية. تُطبق هذه المعايير في القطاعين العام والخاص لضمان استدامة العمليات وتعزيز المسؤولية المجتمعية، خاصة في ظل التحديات العالمية مثل تغير المناخ وندرة الموارد وعدم المساواة. تهدف هذه الدراسة إلى توضيح أهمية هذه المعايير وإجراءات تطبيقها، مع تحليل العائد المادي والمعنوي على المؤسسات. حيث أصبحت الاستدامة عنصرًا أساسيًا في تطوير الأعمال والمؤسسات الحكومية، حيث تسهم عملية التنمية المستدامة، في تحسين الأداء المؤسسي، وتعزيز التنافسية. إن تطبيق معايير الاستدامة في القطاعين العام والخاص لم يعد خيارًا، بل أصبح ضرورة لضمان الاستدامة الاقتصادية، الاجتماعية، والبيئية.
أهمية تطبيق المعايير بالقطاع العام والخاص
تكمن أهمية تطبيق معايير الاستدامة في القطاع العام في عدة نقاط أولاً تحسين جودة الخدمات العامة لأن دمج الاستدامة في مشاريع البنية التحتية (مثل شبكات النقل العام الكهربائية) يقلل التلوث ويرفع مستوى المعيشة. مثال: مشروع “مترو الرياض” في السعودية يدمج تقنيات ترشيد الطاقة وتقليل الانبعاثات. ثانياً عزيز الشرعية السياسية والثقة المجتمعية من خلال تبني سياسات خضراء يجنب الاحتجاجات المرتبطة بالتدهور البيئي (مثل أزمة المياه في العراق). ثالثاً الامتثال للمعايير الدولية لأن تحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs) واتفاقية باريس للمناخ يفتح أبواب التمويل الدولي.
أما في القطاع الخاص فتكمن أهمية تطبيق معايير الاستدامة في عدة نقاط أيضاً أولها زيادة القدرة التنافسية فالشركات الملتزمة بالاستدامة تجذب المستثمرين والعملاء (خاصة جيل الألفية). مثال: شركة “مصدر” الإماراتية أصبحت نموذجاً عالمياً في الطاقة النظيفة. ثانياً تقليل التكاليف التشغيلية لأن ترشيد استهلاك الطاقة والمياه يخفض الفواتير (مثل استخدام الطاقة الشمسية في مصانع “أرامكو”). ثالثاً إدارة المخاطر من حيث تجنب غرامات انتهاك القوانين البيئية أو مقاطعة العملاء بسبب ممارسات غير مسؤولة.
(ESG) حيث يلتقي الوعي بالقرار
ليست الاستدامة مجرد شعارات تزين التقارير السنوية، بل هي قرارات يومية، وعمليات تشغيلية، وخطط طويلة الأمد. معايير ESG، التي تجمع بين البيئة (E)، المجتمع (S)، والحوكمة (G)، لم تعد ترفًا، بل باتت حجر الأساس لكل مؤسسة تسعى إلى التطور دون تدمير، وإلى النمو دون إقصاء.
البعد البيئي (Environmental – E)
الطبيعة لم تعد تحتمل المزيد من الأعباء، والموارد لم تعد متجددة بالسرعة التي نستهلكها بها. من هنا، تتحمل المؤسسات مسؤولية تقليل بصمتها الكربونية، تحسين كفاءة الطاقة، إدارة الموارد الطبيعية بحكمة، والتوجه نحو الحلول الخضراء.
مثال عملي: شركة “سيمنز” التزمت بتقليل انبعاثات الكربون بنسبة 50% بحلول عام 2030 عبر استخدام مصادر طاقة نظيفة وتحسين إدارة النفايات الصناعية.
البعد الاجتماعي (Social – S)
الأعمال ليست مجرد أرقام، بل هي أناسٌ يعملون، وأفرادٌ يتأثرون، ومجتمعاتٌ تتغير بفعلها. تضمّن المؤسسات التي تطبق ESG سياسات عادلة تجاه موظفيها، وتحرص على تحقيق المساواة بين الجنسين، احترام حقوق العمال، وضمان رفاهية المجتمع.
مثال عملي: شركة “مايكروسوفت” استثمرت في برامج دعم تنمية مهارات الشباب، مما ساعد في خلق آلاف الوظائف الجديدة وتعزيز التنمية الاقتصادية.
البعد الحوكمي (Governance – G)
في غياب الحوكمة الرشيدة، تنهار أعظم المؤسسات. إدارة شفافة، قرارات قائمة على النزاهة، مكافحة الفساد، وضمان حقوق المساهمين، كلها عوامل تجعل المؤسسة قادرة على كسب ثقة المستثمرين والمجتمع.
مثال عملي: في دولة الإمارات، تم وضع قوانين صارمة للشفافية والمساءلة في القطاع الحكومي، مما عزز ثقة المستثمرين وساعد في تحسين بيئة الأعمال.
القيمة المضافة والعائد على القطاع العام
1. عائد اقتصادي: توفير مليارات الدولارات عبر تجنب كوارث بيئية (مثل تكاليف معالجة التلوث في نهر النيل)، وجذب استثمارات أجنبية مباشرة (FDI) بفضل البيئة التنظيمية الجاذبة.
2. عائد اجتماعي: تحسين الصحة العامة (مثل خفض أمراض الجهاز التنفسي بسبب تقليل الانبعاثات)، وتقليل الفقر عبر توفير فرص عمل في قطاعات خضراء (مشاريع إدارة النفايات).
3. عائد سياسي: تعزيز السمعة الدولية (استضافة الإمارات لمؤتمر المناخ COP28).
القيمة المضافة والعائد على القطاع الخاص
1. عائد مالي: زيادة الإيرادات بنسبة 20% وفقاً لدراسات معهد ماكينزي، بسبب ولاء العملاء للماركات المستدامة، وخفض تكاليف التأمين بسبب تقليل المخاطر التشغيلية.
2. عائد استراتيجي: الوصول إلى أسواق جديدة (مثل التصدير إلى الاتحاد الأوروبي الذي يشترط معايير صارمة)، وتعزيز الولاء الوظيفي (85% من الموظفين يفضلون العمل في شركات مُلتزمة بالاستدامة وفقاً لـ LinkedIn).
3. عائد سمعة: بناء صورة علامة تجارية مسؤولة (مثل حملة “أرامكو” لزراعة المليارات من الأشجار في السعودية).
أخيراً وليس آخراً فالاستدامة ليست خيارًا مؤجلًا، بل هي ضرورة تفرضها تحديات اليوم ومتطلبات الغد. العالم يتغير، والمستقبل لن يكون إلا لمن يواكب هذا التغيير، ليس فقط لتحقيق الأرباح، بل لتحقيق قيمة أعمق تستمر بعد الأرقام والجداول المالية. حين تطبق مؤسسة معايير (ESG)، فإنها لا تنقذ البيئة فقط، بل تبني ثقافة جديدة في العمل، تحترم الإنسان، تكرم الموارد، وتحقق النجاح الحقيقي، ذاك الذي لا يقاس فقط بما تجمعه من مكاسب، بل بما تتركه من أثر.
ولكن السؤال الذي يبقى: هل نختار أن نكون جزءًا من الحل، أم نظل عالقين في مشكلات الماضي؟