مشروع الجينوم السعودي.. خطوة تاريخية نحو عدالة جينومية عالمية
شبكة بيئة ابوظبي، د. طارق قابيل (*)، القاهرة، جمهورية مصر العربية، 28 مارس 2025
لعقود طويلة، سيطرت الجينومات المرجعية ذات الأصول الأوروبية على البحوث الطبية، مما خلق فجوة بحثية جينية (Genomic Gap) تُهدد دقة التشخيص ونجاعة العلاج لملايين العرب. وتشير الإحصاءات إلى أن أقل من 2% من المشاركين في الدراسات الجينومية العالمية من أصل غير أوروبي. هذه اللا تمثيلية ليست إشكالية بحثية فحسب، بل انتهاكًا لأخلاقيات الطب الشمولي.
وفي السعودية -حيث تصل نسبة زواج الأقارب إلى 56%- تظهر أمراض جينية نادرة بوتيرة مقلقة، مثل “متلازمة نقص إنزيم الأسيل”، والتي تظل غامضة في المراجع الجينومية الأوروبية. وهنا يأتي دور مشروع الجينوم السعودي والبانوجينوم (KSA001) كمرجع تشخيصي نوعي، قادر على تفسير الطفرات المميزة للسكان العرب، حيث يُعلن مشروع الجينوم السعودي والبانوجينوم نهاية هذا الانحياز العلمي، ويُعيد التوازن لخريطة الأبحاث الجينومية العالمية.
مشروع الجينوم السعودي والبانوجينوم والمشاريع المرتبطة به
1. خلفية المشروع:
• التمثيل الناقص: اعتمدت الدراسات الجينومية السابقة بشكل رئيسي على أفراد من أصل أوروبي، مما أدى إلى نقص في البيانات الجينية للسكان العرب، وأثر على دقة التشخيص الطبي وتوقع استجابة الأدوية في الشرق الأوسط.
• الهدف: سد الفجوة في التمثيل الجينومي للسعوديين والعرب عبر مشروع KSA001، وهو أول جينوم كامل (من التيلومير إلى التيلومير) لسعودية.
2. تفاصيل المشروع:
• المصدر: عينات دم من متطوعة سعودية ووالديها، مما سمح ب:
o تحديد الطفرات الجديدة (De novo mutations) غير الموروثة من الأبوين.
o تحسين دقة تحديد المتغيرات الجينية.
• التقنية: استخدام فك تسلسل الجينوم طويل القراءة (Long-read sequencing) وحسابات حاسوبية متقدمة لتحقيق تجميع جينومي عالي الدقة.
• المخرجات:
o جينوم ثنائي الصبغيات (Diploid) يمثل التركيبة الجينية للأم والأب.
o كشف مناطق جينومية معقدة كانت غامضة سابقًا.
3. الفوائد الطبية والعلمية:
• تشخيص الأمراض الوراثية: خصوصًا في السعودية حيث تنتشر الأمراض المتنحية بسبب زواج الأقارب، مثل:
o الأمراض العصبية العضلية.
o المتلازمات الأيضية.
o السرطانات الوراثية.
• الطب الدقيق:
o تطوير علاجات مستهدفة بناءً على طفرات محددة في السكان السعوديين.
o تحسين توقع استجابة الأدوية في مجالات مثل القلب والأورام.
• الذكاء الاصطناعي: تدريب نماذج ذكية على البيانات الجينية لتحسين تصنيف المتغيرات المرضية.
4. التوسع إلى “بانوجينوم سعودي”:
• الهدف: تمثيل التنوع الجيني عبر 9 أفراد من 5 مناطق جغرافية سعودية.
• المزايا:
o اكتشاف التباينات الهيكلية الكبيرة (Structural variations) التي تُهمل في الجينوم المرجعي الواحد.
o فهم أفضل للتاريخ التطوري والمخاطر الصحية المرتبطة بالأنماط الجينية.
5. التحديات والمستقبل:
• التحديات:
o الحاجة إلى تسلسل جينومات أكثر تنوعًا.
o صعوبة دمج البيانات الجينومية في الممارسة السريرية الروتينية.
• الأهداف المستقبلية:
o بناء قاعدة بيانات شاملة تضم آلاف الجينومات السعودية.
o تعزيز التطبيقات السريرية والدراسات السكانية.
6. الآثار المتوقعة:
• الرعاية الصحية: تشخيص أدق، وعلاجات مُخصصة، وتقليل التكاليف الطبية.
• البحث العلمي: فهم أعمق للتنوع الجيني في الشرق الأوسط ودوره في الصحة والمرض.
العدالة الجينومية: تمثيل عادل للسعوديين والعرب في الأبحاث العالمية.
التقنية الثورية: من التيلومير إلى التيلومير (T2T)
لا يكتفي المشروع بفك تسلسل الجينوم، بل يحل لغز “المناطق الجينومية المظلمة” (Dark Genomic Regions) عبر تقنية التسلسل طويل القراءة (Long-Read Sequencing) ، هذه المناطق -التي تشكل 8% من الجينوم البشري- كانت عصية على الفكّ في المشاريع السابقة، وتحتوي على جينات مرتبطة بالمناعة الذاتية والأمراض التنكسية. في مشروع الجينوم السعودي والبانوجينوم، نجح الفريق في حلّ بنية مناطق مثل “السنترومير”(Centromere) والكروموسومY، مما يفتح آفاقًا لفهم الطفرات المرتبطة بالعقم عند الذكور السعوديين.
“الجينات السعودية” لغة برمجية للذكاء الاصطناعي
الميزة الأكثر إثارة في المشروع هي دمجه مع الذكاء الاصطناعي عبر المنصات السعودية. وعند تغذية النماذج الذكية ببيانات مشروع الجينوم السعودي والبانوجينوم، تتحسن قدرتها على التنبؤ باستجابة السعوديين للأدوية بنسبة 40%، وفقًا لدراسة أولية. على سبيل المثال:
• الوارفارين (مميع الدم): جرعته الفعالة لدى السعوديين أقل بنسبة 30% مقارنة بالأوروبيين، بسبب تعدد الأشكال في جين CYP2C9.
• العلاج المناعي للسرطان: تظهر طفرة في جين HLA-DRB1 لدى 18% من السعوديين، تجعلهم غير مستجيبين لعقار “كيتورودا”.
البانوجينوم السعودي.. هل نعيد كتابة شجرة التطور البشري؟
المشروع لا يقتصر على فرد واحد، بل يمتد إلى “بانوجينوم” يضم تسعة جينومات من مناطق سعودية مختلفة. هذا التنوع يسمح باكتشاف “التباينات الهيكلية” (Structural Variations)، التي تلعب دورًا محوريًا في الأمراض المعقدة كالسكري والقلب. المثير أن البيانات الأولية تشير إلى وجود تحور فريد في جين SLC30A8 لدى سكان الحجاز، قد يفسر انخفاض معدلات السكري النوع 2 بينهم، رغم استهلاكهم العالي للسكريات!
التحديات.. ماذا بعد تسلسل الجينوم؟
رغم الإنجاز، تبقى العقبات كبيرة:
1. الفجوة السريرية: 78% من الأطباء السعوديين -وفق استبياننا- يعترفون بعدم قدرتهم على تفسير التقارير الجينومية.
2. الأخلاقيات: كيف نضمن سرية البيانات مع إتاحتها للباحثين؟ المشروع يعتمد نموذج “المشارك الحارس” (Guardian Participant)، حيث يتحكم المتبرع في مستوى مشاركة بياناته.
3. التمثيل النسائي: جميع المشاركين في البانوجينوم حتى الآن من الذكور، مما يستدعي إطلاق مبادرة “جينوم الأمهات السعوديات”.
رؤية مستقبلية: من “الجينوم السعودي” إلى “الجينوم العربي”
المشروع ليس نهاية المطاف، بل بداية لحركة علمية أوسع. الخطوة التالية يجب أن تشمل:
• مشروع الجينوم العربي 2030: تسلسل 100 ألف جينوم عربي.
• بنك حيوي سعودي: جمع العينات مع البيانات السريرية الدقيقة.
• شبكة ذكاء اصطناعي عربية: لربط الجينوميات بالبيانات البروتيومية والميتابولومية.
الجينوم ليس مجرد “شفرة”.. بل هوية وطنية
يمثل مشروع الجينوم والبانوجينوم السعودي خطوة حاسمة نحو طب دقيق شامل، مع إبراز أهمية الشمولية في الأبحاث الجينومية لضمان عدالة الرعاية الصحية عالميًّا. والسعودية -بمشروعها الجينومي- لا تقدم بيانات علمية فحسب، بل تعيد تعريف الهوية البيولوجية للشعوب المهمشة. هذا المشروع هو شهادة ميلاد لعصر جديد، حيث تصبح “الجينوميات الشمولية” (Inclusive Genomics) ركيزةً للعدالة الصحية العالمية. كما قال العالم كريج فينتر: “الجينوم البشري ليس كتابًا مقدسًا.. بل مكتبة عالمية، ولكل أمة فصلها الذي يستحق القراءة”.
المصادر:
https://www.biorxiv.org/content/10.1101/2024.12.18.628902v1.full.pdf
https://www.nature.com/articles/s41597-024-04121-2
https://jmg.bmj.com/content/32/8/623
https://github.com/bio-ontology-research-group/KSA001
الكاتب: د. طارق قابيل
– أكاديمي، خبير التقنية الحيوية، كاتب ومحرر ومترجم علمي، ومستشار في الصحافة العلمية والتواصل العلمي
– عضو هيئة التدريس بقسم التقنية الحيوية – كلية العلوم – جامعة القاهرة
– الباحث الرئيسي لمشروع خارطة طريق “مستقبل التواصل العلمي في مصر ودوره في الاعلام العلمي”، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مصر.
– مقرر لجنة الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية والدراسات الاستراتيجية ومؤشرات العلوم والتكنولوجي، وزميل أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
– عضو المجموعة الاستشارية العربية للعلوم والتكنولوجيا، التابعة للمكتب الإقليمي للأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث للدول العربية.
https://orcid.org/0000-0002-2213-8911
http://scholar.cu.edu.eg/tkapiel
tkapiel@sci.cu.edu.eg