بين الإنجاز العلمي والجدل الوراثي.. عواء الذئب الرهيب يتردد بعد 10 آلاف عام من الصمت
شبكة بيئة ابوظبي، د. طارق قابيل (*)، القاهرة، جمهورية مصر العربية، 09 ابريل 2025
يمكن لأي متصل بالإنترنت حاليا أن يغلق عينيه للحظة، ويستمع إلى صوت انقطع عن الأرض منذ نهاية العصر الجليدي. إنه عواء “رومولوس” و”ريموس”، أول ذئبين رهيبين يُعاد إحياؤهما في التاريخ بعد انقراض دام 10 آلاف عام، ُلِدا في الأول من أكتوبر 2024، ليُكتب فصلاً جديدًا في سجل الحياة على الأرض، حيث تتحول الأحافير إلى كائنات تنبض بالحياة بفضل هندسة الجينات. هذا ليس مجرد حدث علمي، بل هو إعادة كتابة لقصة الحياة ذاتها.
ففي سابقة علمية مذهلة، أعلنت شركة “كولوسال بيوساينسز” (Colossal Biosciences) عن نجاحها في إعادة إحياء الذئب الرهيب (Dire Wolf)، أحد أبرز مفترسات العصر الجليدي الذي انقرض منذ نحو 13 ألف سنة. هذا الإنجاز، الذي تحقق عبر تقنيات متطورة في الهندسة الوراثية، يفتح بابًا جديدًا لإمكانية استعادة أنواعٍ فقدتها الأرض، ويطرح تساؤلاتٍ حول حدود العلم ومسؤولياته.
من الأحفورة إلى الواقع: كيف تحقق المستحيل؟
كان الذئب الرهيب يتميز ببنية جسدية ضخمة مقارنةً بالذئاب الحديثة، حيث وصل وزنه إلى 80 كغم، مع جمجمة عريضة وفكوك قادرة على سحق عظام الفرائس. عاش هذا المفترس في أمريكا الشمالية، وتشارك موطنه مع حيوانات مثل الماموث، قبل أن ينقرض بسبب تغيرات مناخية وصيدٍ مكثف من البشر.
قبل 11,500 إلى 72,000 عام، سقطت ذئاب رهيبة في جليد سيبيريا ودهاليز أمريكا الشمالية، حاملة معها أسرار جينومها. اليوم، ونجح علماء شركة “كولوسال بيوساينسز” في فك شفرات ذلك الجينوم من أحافير مُتقَدمة، وإعادة بناءه بدقة غير مسبوقة. فقبل أكثر من عقد من الزمن، بدأت الشركة رحلتها الطموحة لإعادة تعريف مفهوم “الانقراض”. واعتمد الفريق البحثي بالشركة على تقنية التحرير الجيني “كريسبر-كاس” (CRISPR-Cas9)، وهي نفس الأداة الثورية المستخدمة في مشاريع إعادة إحياء الماموث الصوفي والنمر التسماني، مستخدمين حمضًا نوويًا كاملًا للذئب الرهيب (Dire Wolf) مُستخلَصًا من أحافير عُثر عليها في سيبيريا وأمريكا الشمالية، يعود عمرها إلى ما بين 11,500 و72,000 عام. وبدأ الفريق بتحليل الحمض النووي المستخرج من أحافير الذئب الرهيب، وقارنوه بجينوم الذئب الرمادي (Canis lupus)، أقرب الأقارب الأحياء.
وبمقارنة هذا الجينوم مع ذئاب اليوم (الذئب الرمادي)، تم تحديد 14 جينًا مسؤولًا عن السمات الفريدة المميزة للذئب الرهيب، مثل حجمه الضخم، وبنية العضلات، وفكوكه القاتلة، وقدرته على التكيف مع ظروف العصر الجليدي القاسية. وقام الفريق بتعديل جينات الذئاب الرمادية الحية لتحمل السمات الوراثية الفريدة للذئب الرهيب: حجمه الضخم (أكبر بنسبة 25% من الذئاب الحديثة)، جمجمته العريضة، وقدرته الأسطورية على الصيد.
لكن التحدي الحقيقي كان في تحويل هذه الشفرة الوراثية إلى كائن حي. هنا جاء دور الكلاب المستأنسة، التي استضافت الأجنة المعدلة وراثيًا في أرحامها. بعد 65 يومًا من الحمل، وُلد التوأمان رومولوس وريموس بعمليات قيصرية دقيقة، ليكونَا أول كائنين في التاريخ يُعاد إحياؤهما من حافة الانقراض المطلق.
التحدي الأكبر كان تجنب الآثار الجانبية، مثل ارتباط بعض الجينات بأمراض كالصمم. لحل هذا، أُدخلت تعديلات إضافية لتعطيل جينات الألوان غير المرغوب فيها، مع الحفاظ على السمات الرئيسية، وبعد ذلك، نُقلت الأجنة المعدلة إلى كلاب مستأنسة كأمهات بديلة، حيث وُلدت ثلاثة جراء بين عامي 2024 و2025.
النتيجة؟ وِلادة جرَّيْين يحملان اسمَيِ التوأمين الأسطوريين رومولوس وريموس، كرمزٍ لبداية جديدة. “هذا ليس إنجازًا تقنيًا فحسب، بل تصحيحٌ لخطأ التاريخ”.
كيف تمت العملية؟
1. استخراج الحمض النووي استخراج الحمض النووي القديم:اعتمد العلماء على عينات أحفورية تعود إلى 13,000 سنة (سن من أوهايو) و72,000 سنة (عظمة أذن من أيداهو) ومن أسنان وجماجم متحجرة حُفظت في ظروف جليدية مثالية لاستخراج الحمض النووي للذئب الرهيب.
2. مقارنة جينومه مع جينوم الذئب الرمادي الحديث: بعد مقارنة جينومه مع جينوم الذئب الرمادي الحديث، حدد الفريق 14 جيناً مسؤولاً عن السمات المميزة مثل الحجم الضخم (حتى 68 كغم)، الفك القوي، والفراء الأبيض.
3. التعديل الجيني: استخدام تقنية “كريسبر” لإدخال سمات الذئب الرهيب إلى أجنة الذئاب الرمادية، وشملت التعديلات جينات مسؤولة عن لون الفراء الفاتح، مع تجنب طفرات جانبية مثل الصمم أو العمى المرتبطة بجينات اللون الفاتح. وأُدخلت 20 تعديلاً وراثياً في 14 جيناً من جينوم الذئب الرمادي لمحاكاة سمات الذئب الرهيب.
4. الأمهات البديلة: نُقلت الأجنة المُعدَّلة إلى كلاب مستأنسة كأمهات بديلة، وتم اختيار كلاب هجينة كحاضنات للأجنة، لضمان توافقها الفسيولوجي مع الحمل. ووُلدت الجراء بعمليات قيصرية دقيقة. وُصفت العملية بأنها “ثورة في تقنية الاستنساخ”، وفقاً لتصريحات الشركة.
5. مشاهدة المعجزة عن قرب لأول مرة في التاريخ، يُتاح للجميع متابعة رحلة هذه الكائنات من خلال قناة Colossal على يوتيوب: https://youtube.com/@itiscolossal تنشر القناة فيديوهات حصرية توثق مراحل نمو التوأمين، من خطواتهما الأولى إلى محاولات الصيد، مما يمنح العالم نافذة مباشرة على “تجربة إعادة الحياة للماضي”.
سر اختيار الذئب الرهيب
اختيار الذئب الرهيب لم يكن اعتباطيًا. فبالإضافة إلى رمزيته كأحد أشرس المفترسات، يرى العلماء أن إعادته قد تُساهم في:
1. رمزية تاريخية: كان الذئب الرهيب أحد أبرز مفترسات العصر الجليدي، حيث هيمن على السهول جنبًا إلى جنب مع الماموث.
2. استعادة التوازن البيئي: كحيوان مفترس رئيسي (Apex Predator)، قد يساعد في السيطرة على أعداد الفرائس التي تهدد الغابات الحديثة.
3. اختبار للتكنولوجيا: يُعتبر مشروعًا تجريبيًا لاستعادة كائنات أكبر مثل الماموث الصوفي.
4. اختبار تقنيات الإنقاذ: تُعد هذه التجربة منصةً لتطوير أدوات قد تنقذ أنواعًا مهددة اليوم، مثل وحيد القرن الأبيض.
5. رؤية بيئية: قد يساهم في إعادة التوازن للنظم البيئية الحديثة، عبر التحكم في أعداد الفرائس المفرطة.
6. إعادة تعريف الحفظ البيئي: “مهمتنا ليست مجرد إعادة الماضي، بل بناء مستقبل تكون فيه البشرية شريكًا فاعلًا في شفاء الأرض”، تضيف الشركة في بيانها.
جدل علمي وأخلاقي: هل هذه ذئاب رهيبة حقيقية؟
في أكتوبر 2024، أعلنت الشركة عن ولادة ثلاثة جراء ذئاب أطلقت عليها اسم رومولوس وريموس وخاليسي، مدعيةً أنها نجحت في إعادة إحياء الذئب الرهيب الذي انقرض منذ 10,000 عام. لكن هذا الإعلان أثار جدلاً علمياً وأخلاقياً حول ما إذا كانت هذه الذئاب تمثل “إحياءً حقيقياً” للأنواع المنقرضة أم مجرد ذئاب رمادية مُعدَّلة وراثياً. فعندما يعوي رومولوس لأول مرة، فإنه لا يعلن فقط عودة نوعٍ من الظلمات، بل ينقل رسالةً مفادها أن العلم لم يعد مُقيَّدًا بحدود الزمن.
وتُثار تساؤلات علمية وأخلاقية حول جدوى توجيه الموارد لإحياء كائنات منقرضة بينما تواجه أنواعٌ عديدة خطر الاختفاء. فمشروع وحيد القرن الأسود، الذي أُعلن انقراضه عام 2006، يذكرنا بأن الجهود قد تكون أولى بالحماية فلماذا لا تُوجَّه هذه التكنولوجيا لإنقاذ الأنواع المهددة حاليًا، مثل وحيد القرن أو النمور؟، بالإضافة إلى ذلك، فإن استخدام الحيوانات البديلة يطرح مخاوف حول معاناة هذه الأمهات خلال عمليات الزرع والولادة، وماذا لو تفوق الذئب الرهيب على المفترسات الحالية أو هاجم الماشية؟
لكن السؤال الأعمق يبقى: هل ستكون هذه الخطوة بدايةً لعصرٍ تُصحح فيه البشرية أخطاءها البيئية، أم فتحًا لـ”علبة باندورا” تخرج منها كائنات لا نعرف كيف نتعايش معها؟
رغم الضجة الإعلامية، يشكك علماء مستقلون في ادعاء “الإحياء الكامل”، ويؤكدون أن الجراء هي ذئاب رمادية مُعدَّلة وراثياً، وليست نسخاً طبق الأصل من الذئب الرهيب المنقرض. ومن أبرز الحجج:
1. الاختلافات الجينية الجوهرية: يشترك الذئب الرهيب مع الذئب الرمادي بنسبة 99.5% من الحمض النووي، لكن الفرق البالغ 0.5% يمثل ملايين الاختلافات في تسلسل القواعد النيتروجينية، مما يجعل إعادة بناء الجينوم بالكامل مستحيلاً حالياً.
2. الانفصال التطوري: تشير الدراسات إلى أن الذئب الرهيب ينتمي إلى جنس مختلف (Aenocyon)، وليس Canis مثل الذئب الرمادي، مع انفصال تطوري يعود إلى 5.7 مليون سنة. وهذا يجعله أقرب إلى ابن آوى من الناحية الوراثية.
3. السمات الظاهرية المُقلَّدة: ركزت التعديلات على السمات الظاهرية (مثل الحجم واللون)، لكن سلوكيات الصيد والتكيف البيئي والخصائص الفسيولوجية الدقيقة للذئب الرهيب تظل مجهولة، مما يطرح تساؤلات حول مدى دقة التمثيل البيئي لهذه الكائنات.
هل نحن أمام ثورة علمية أم وهم وراثي؟
يشكل هذا الإنجاز نقلةً في فهمنا لإمكانيات الهندسة الوراثية، إذ يثبت أن إعادة بناء الأنواع المنقرضة ليست حكرًا على أفلام الخيال. من الناحية البيئية، قد يساهم إعادة الذئب الرهيب في استعادة التوازن الطبيعي، خاصةً في المناطق التي تعاني من غياب المفترسات الكبرى. وترى الشركة أن هذا الإنجاز هو خطوة أولى نحو أهداف أوسع، مثل إحياء الماموث الصوفي وطائر الدودو، مع تطبيق التقنيات نفسها لحماية الأنواع المهددة. كما تعاون الفريق مع قبائل أمريكية أصلية لاستضافة الذئاب في محميات طبيعية، مما قد يساهم في استعادة التوازن البيئي. ولا تكتفي الشركة بهذا النجاح، بل تعمل على مشاريع طموحة أخرى، مثل إحياء الماموث الصوفي عبر تعديل جينات الفيل الآسيوي. والهدف من هذه المشاريع ليس فقط استعادة الأنواع، بل أيضًا مكافحة تغير المناخ، كإعادة تدجين التندرا المتجمدة لمنع ذوبان الجليد الدائم. ومع ذلك، يخشى علماء البيئة من تداخله مع الأنواع الحالية، كالذئاب الرمادية، مما قد يخلق تنافسًا غير متوازن.
إن ولادة رومولوس وريموس تُعد إنجازاً تقنياً غير مسبوق، لكنها تظل بعيدة عن مفهوم “الإحياء الحقيقي” للأنواع المنقرضة. في النهاية، هذه الذئاب تمثل تجربة وراثية جريئة، لكنها تفتح الباب أمام نقاشات عميقة حول أخلاقيات العلم ودور البشر في تشكيل مستقبل الحياة على الأرض. وفي الحقيقة فإن عواء رومولوس وريموس ليس مجرد صوتٍ عائد من العصر الجليدي، بل صفعة للحدود التي ظنَّها الإنسانُ جامدة. فإعادة إحياء الذئب الرهيب تُظهر قوة العلم في تحدي قوانين الطبيعة، لكنها تذكرنا أيضًا بضرورة الموازنة بين الطموح العلمي والمسؤولية البيئية.
وبينما يرى البعض أن هذه الخطوة تُعيد كتابة تاريخ الحياة، وتُذكِّرنا بأن العلم قادرٌ على تغيير قواعد اللعبة، يحذر آخرون من أنها قد تُعيد كتابة المستقبل بطرق غير متوقعة. السؤال الأكبر الآن: مَن يتحكم بمصير الحياة؟ فهل نحن مستعدون لتحمل عواقب لعب دور “الخالق”؟
إن ولادة رومولوس وريموس تُعد إنجازاً تقنياً مذهلاً، لكنها تظل بعيدة عن مفهوم “الإحياء الحقيقي”. في النهاية، هذه التجربة تفتح الباب أمام أسئلة مصيرية:
• هل يُمكن للعلم تعويض أخطاء الطبيعة؟
• مَن يتحمل مسؤولية الكائنات الناتجة عن هذه التجارب؟
• أين تقف الحدود بين الإبداع العلمي والغرور البشري؟
بينما تُعلن الشركة عن “عصر جديد للعلوم”، يبقى التحدي الأكبر هو ضمان ألا تتحول هذه التقنيات من أملٍ للبيئة إلى كابوسٍ لم نستعد لمواجهته.
المصادر:
https://forbes.com.br/forbes-tech/2025/04/ceo-bilionario-ressuscita-lobo-extinto-de-game-of-thrones
https://time.com/7274542/colossal-dire-wolf/
https://www.newscientist.com/article/2475407-no-the-dire-wolf-has-not-been-brought-back-from-extinction
https://www.washingtonpost.com/climate-solutions/2025/04/08/dire-wolf-extinction-gene-editing-colossal
الكاتب:
د. طارق قابيل
– أكاديمي، خبير التقنية الحيوية، كاتب ومحرر ومترجم علمي، ومستشار في الصحافة العلمية والتواصل العلمي.
– أستاذ جامعي متفرغ، وعضو هيئة التدريس بقسم التقنية الحيوية – كلية العلوم – جامعة القاهرة.
– الباحث الرئيسي لمشروع خارطة طريق “مستقبل التواصل العلمي في مصر ودوره في الاعلام العلمي”، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مصر.
– مقرر لجنة الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية والدراسات الاستراتيجية ومؤشرات العلوم والتكنولوجي، وزميل أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
– عضو المجموعة الاستشارية العربية للعلوم والتكنولوجيا، التابعة للمكتب الإقليمي للأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث للدول العربية.
https://orcid.org/0000-0002-2213-8911
http://scholar.cu.edu.eg/tkapiel
tkapiel@sci.cu.edu.eg