شبكة بيئة ابوظبي، د. طارق قابيل (*)، القاهرة، جمهورية مصر العربية، 29 ابريل 2025
في عصرٍ تُعيد فيه التغيرات المناخية تشكيل ملامح الأرض، وتتنامى فيه التحديات البيئية بوتيرة غير مسبوقة، تبرز الحاجة إلى أنظمة رصد ذكية تجمع بين التكنولوجيا المتقدمة والتعاون الدولي. وفي لحظةٍ يُحاصر فيها العالم العربي بتحدياتٍ بيئية معقدة – من تداعيات التغير المناخي إلى غزو الملوثات الكيميائية للهواء والمياه – يأتي تدشين “الشبكة العربية للتصدي للملوثات البيئية الناشئة” لِيُضيء شمعة أمل في نفق الظروف الراهنة. هذا الإنجاز ليس مجرد إضافة إلى قائمة المبادرات، بل هو تحوُّل استراتيجي في طريقة تعامل المنطقة مع أزماتها البيئية، بقيادة المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا (ASTF)، التي تُكرس ربع قرن من الخبرة لصناعة مستقبلٍ أكثر أمانًا.
وفي عالمٍ تُهدد فيه الملوثات الناشئة -من المواد الكيميائية إلى النفايات الإلكترونية- صحة الإنسان والتنوع البيولوجي، أطلقت المؤسسة تحت رعاية كريمة من صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى لدولة الإمارات وحاكم الشارقة، حفل تدشين “الشبكة العربية للتصدي للملوثات البيئية الناشئة”، كمشروعٍ استراتيجي يجمع بين الخبرات العربية والعالمية لبناء درعٍ وقائي ضد مخاطرٍ بيئية لا تعرف الحدود. وأسعدني الحظ بالمشاركة في حضور لحظة تدشين الشبكة الافتراضية، التي جمعت تحت مظلتها علماء من المغرب إلى عُمان، وسمعتُ كلمة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي التي لخّصت روح المبادرة:
“عندما نستثمر في البيئة، نستثمر في إنسان هذه الأرض.. وفي ذاكرة حضاراتها”.
هذه الشبكة، التي أُطلقت بالشراكة مع المركز العالمي الأسترالي لتقييم ومعالجة التلوث(crcCARE) ، ليست منصةً تقنية فحسب، بل هي إعلان تضامن عربي-عالمي ضد أعداء مجهريين غير مرئيين: جزيئات البلاستيك الدقيقة (الميكروبلاستيك) والمواد الكيميائية الأبدية (PFAS)، التي تهدد صحتنا وبيئتنا بصمت.
ربع قرن من صناعة الأمل العلمي
وراء هذا الإنجاز تقف المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا، المؤسسة التي حوّلت منذ عام 2000 أحلامَ العلماء العرب إلى مشاريع ملموسة. بدعمٍ تجاوز 30 مليون دولار، وفرت المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا منحًا بحثية، وبنيتْ جسورًا بين المختبرات العربية والعالمية. اليوم، تُثبت المؤسسة أن التعاون بين العلم والسياسة ممكن، عبر مبادرات مثل: دعم 100 منحة مهنية لتمكين الكوادر العربية من الحصول على عضوية دولية. وإنشاء أول مختبر عربي متخصص في تحليل الملوثات الناشئة. وتعزيز التشريعات البيئية الموحدة بالتعاون مع الحكومات العربية.
ما هي “الشبكة العربية للتصدي للملوثات البيئية الناشئة”؟
جاء إطلاق الشبكة ثمرةً للتعاون بين المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا والمركز العالمي لتقييم ومعالجة التلوث البيئي (crcCARE) في أستراليا، وهي خطوة تُعزز مكانة البحث العلمي العربي في الخريطة العالمية. خلال حفل افتراضي عبر منصة ZOOM، بحضور 296 باحثًا ومتخصصًا من مختلف الدول العربية، أكد سمو الشيخ القاسمي في كلمته الافتتاحية:
“حماية البيئة ليست ترفًا، بل استثمار في أمن الأجيال القادمة. هذه الشبكة ستكون منصةً لتحويل التحديات إلى فرصٍ للابتكار”.
ترتكز الشبكة على ثلاث مهام رئيسية:
1. رصد وتحليل الملوثات الناشئة، مثل المواد البلاستيكية الدقيقة والمخلفات الصيدلانية في المياه.
2. تطوير حلول تقنية مستدامة بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي وتقنيات معالجة التلوث.
3. تمكين الكوادر العربية عبر برامج تدريبية ومنح مهنية، بما فيها 100 منحة أُعلن عنها خلال الحفل لدعم المهنيين في الحصول على عضويات مهنية دولية.
وتُركّز الشبكة على خطرين رئيسيين يهددان المنطقة العربية:
1. الميكروبلاستيك: جزيئات بلاستيكية دقيقة تتسلل إلى السلسلة الغذائية عبر المياه والتربة.
2. المواد الكيميائية الأبدية (PFAS): مركبات صناعية مقاومة للتحلل، مرتبطة بأمراض السرطان والمناعة.
وتؤكد المنظمة أن مواجهة هذه التحديات تتطلب:
• تعزيز أنظمة الرصد البيئي بالذكاء الاصطناعي.
• دعم الأبحاث العلمية لتحويل النفايات إلى موارد.
• بناء وعي مجتمعي عبر حملات إعلامية مكثفة.
المنح المهنية: استثمار في العقول العربية
بالتعاون مع مركز crcCARE، ستغطي المنح المقدمة رسوم العضوية المهنية من الدرجتين الثالثة والرابعة للمتخصصين العرب، مما يفتح لهم أبواب المشاركة في مؤتمرات دولية، والوصول إلى قواعد بيانات بحثية، وتبادل الخبرات مع شبكة عالمية من الخبراء. جاء هذا القرار كإشارةٍ واضحةٍ لالتزام الشبكة ببناء جيلٍ عربي قادر على قيادة الحلول البيئية محليًّا وعالميًّا.
التكنولوجيا والاستدامة: أدوات المواجهة
تعتمد الشبكة على خطةٍ تقنيةٍ طموحة تشمل:
• إنشاء منصة رقمية موحدة لجمع البيانات البيئية من دول الوطن العربي.
• استخدام أجهزة استشعار ذكية قادرة على رصد الملوثات في الهواء والمياه في الوقت الفعلي.
• تطوير مشاريع مشتركة مع الجامعات العربية لتحويل النفايات الصناعية إلى مواد قابلة لإعادة التدوير.
رؤية 2030: نحو اقتصاد أخضر عربي
تهدف الشبكة إلى أن تصبح مرجعيةً علميةً عربيةً بحلول عام 2030، مع تركيز خاص على:
• إنشاء أول مختبر عربي متخصص في تحليل الملوثات الناشئة بدعمٍ أسترالي.
• تطوير تشريعاتٍ عربية موحدة لإدارة النفايات الخطرة.
• كما تخطط لتعزيز التعاون مع منظمات مثل برنامج الأمم المتحدة للبيئة والوكالة الدولية للطاقة المتجددة.
• إطلاق صندوق دعمٍ ماليٍّ بقيمة 10 ملايين دولار لدعم مشاريع الشباب.
• إطلاق جائزة سنوية لأفضل مشروع عربي للحد من التلوث.
التحديات والطموح: طريق طويل أمام الإنجاز
رغم التفاؤل الكبير، فإن الشبكة تواجه تحدياتٍ مثل:
• اختلاف التشريعات البيئية بين الدول العربية.
• محدودية الوعي المجتمعي بأضرار الملوثات الناشئة.
• الحاجة إلى تمويلٍ مستدامٍ لدعم الأبحاث طويلة المدى.
لكنَّ الخطة المستقبلية تتضمن توسيع الشراكات مع منظمات مثل برنامج الأمم المتحدة للبيئة، وإطلاق حملات توعوية عبر منصات التواصل الاجتماعي، التي شهدت تفاعلًا واسعًا خلال بثِّ حفل التدشين.
دعوة للعمل: البيئة مسؤولية الجميع
بينما تحتفل المنظمة بربع قرن من العطاء، تثبت أن الاستثمار في العقول العربية قادرٌ على صنع تحولات جذرية. وكما جاء في كلمة البروفيسور رافي نايدو خلال تدشين الشبكة العربية:
“التلوث لا يعترف بالحدود، والتعاون العلمي هو سلاحنا الأقوى”.
فعالية الغد ليست مجرد حدث، بل انعكاسٌ لرؤيةٍ عربية تؤمن بأن المستقبل يُبنى بالعلم، والتعاون، والإرادة.
وتُختتم الفعالية بدعوة المشاركين للتوقيع على ميثاق العمل البيئي العربي، الذي يهدف إلى:
• تقليل استخدام البلاستيك بنسبة 50% بحلول 2030.
• إنشاء مراكز إقليمية لرصد الملوثات الكيميائية.
• دمج مناهج التوعية البيئية في الأنظمة التعليمية.
العلم العربي يكتب فصلاً جديدًا
ليست “الشبكة العربية للتصدي للملوثات البيئية الناشئة” مجرد منظمةٍ جديدة، بل هي إعلان عربي بأن الحفاظ على البيئة أولويةٌ لا تحتمل التأجيل. كما قال البروفيسور الأسترالي رايمون جامبو، المدير العام لمركز crcCARE،
خلال الحفل:
“العلم لا جنسية له، والملوثات لا تحمل جواز سفر. تعاوننا اليوم هو انتصارٌ للكوكب بأكمله”.
بهذه الروح، تُضيء الشبكة شمعةً في طريق التنمية المستدامة، لتثبت أن العقول العربية قادرةٌ على صنع فرقٍ حين تُمنح الثقة والموارد.
وبينما التقطنا صورة افتراضية جماعية في نهاية الحفل، تأكدت من أننا أمام لحظة فارقة للمؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا، بشبكتها الجديدة، تثبت أن العالم العربي قادر على قيادة المعركة البيئية العالمية، شرط أن نتعلم من دروس الماضي، ونستثمر في أدوات المستقبل.
هذه الشبكة ليست لمناقشة المشكلات، بل لصناعة الحلول. فكما قال البروفيسور رافي نايدو من أستراليا:
“التلوث هو العدو الوحيد الذي يوحدنا.. فلتكن الشراكة العلمية سلاحنا”.
اليوم، أدعو كل باحثٍ مهتمٍ بمستقبل هذه الأرض إلى الانضمام إلى هذه الرحلة. التسجيل مفتوح، والمعركة طويلة، لكن النصر – هذه المرة – قد يكون عربيًّا.
الكاتب: د. طارق قابيل
– أكاديمي، خبير التقنية الحيوية، كاتب ومحرر ومترجم علمي، ومستشار في الصحافة العلمية والتواصل العلمي.
– أستاذ جامعي متفرغ، وعضو هيئة التدريس بقسم التقنية الحيوية – كلية العلوم – جامعة القاهرة.
– الباحث الرئيسي لمشروع خارطة طريق “مستقبل التواصل العلمي في مصر ودوره في الاعلام العلمي”، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مصر.
– مقرر لجنة الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية والدراسات الاستراتيجية ومؤشرات العلوم والتكنولوجي، وزميل أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
– عضو المجموعة الاستشارية العربية للعلوم والتكنولوجيا، التابعة للمكتب الإقليمي للأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث للدول العربية.
https://orcid.org/0000-0002-2213-8911
http://scholar.cu.edu.eg/tkapiel
tkapiel@sci.cu.edu.eg