شبكة بيئة ابوظبي، بقلم، المهندس عماد سعد، خبير الاستدامة والمسؤولية المجتمعية، 18 مايو 2025
يأتي هذا المقال في سياق الشعار الذي أطلقته الشبكة الإقليمية للمسؤولية الاجتماعية خلال احتفالها الأخير باليوم العالمي للمسؤولية المجتمعية 25 سبتمبر 2024 تحت شعار (ترسيخ معايير المسؤولية المجتمعية). ليكون بمثابة شعاراً لأعمال الشبكة والعاملين في قطاع المسؤولية المجتمعية على المستوى العربية على وجه الخصوص خلال عام 2025.
لقد أصبحت المسؤولية المجتمعية للشركات (CSR) ركيزة أساسية في معادلة التنمية المستدامة، إذ لم تعد الشركات تقاس فقط بأرباحها المالية، بل بمدى مساهمتها في معالجة التحديات البيئية والاجتماعية. ورغم تزايد الوعي بهذا المفهوم، إلا أن ترسيخ معاييره بشكل ممنهج ومؤسسي لا يزال يمثل تحديًا في العديد من الدول والقطاعات.
تعريف المسؤولية المجتمعية وأهميتها
تشير المسؤولية المجتمعية إلى التزام طوعي من قبل الشركات بالمساهمة في تحسين المجتمع والبيئة من خلال ممارسات أخلاقية ومستدامة تتجاوز الالتزامات القانونية.
تشمل المبادرات دعم التعليم والصحة، حماية البيئة، تعزيز العمل التطوعي، تمكين الفئات الأقل حظًا، وغيرها الكثير.
في حين تكمن أهمية المسؤولية المجتمعية في كونها تحسين السمعة المؤسسية، رفع ولاء الموظفين والعملاء، وتعزيز التنافسية في الأسواق المحلية والعالمية وغير ذلك.
دمج المسؤولية المجتمعية في الاستراتيجية المؤسسية
إن ترسيخ المسؤولية المجتمعية يبدأ من الإرادة المؤسسية، ويتطلب أن تكون CSR جزءًا لا يتجزأ من الاستراتيجية العامة للشركة، لا مجرد ملحق دعائي وذلك من خلال المواءمة بين الأهداف الاقتصادية والاجتماعية: على الشركات أن تُعيد صياغة رؤاها ورسائلها لتدمج الأثر المجتمعي ضمن أهداف الربحية.
مثلما فعلت شركة (Unilever) التي صاغت استراتيجيتها حول “النمو المسؤول”، مما أسهم في تحسين الأداء المالي والمجتمعي. حيث تحملت الإدارة العليا في الشركة المسؤولية عن التوجيه الاستراتيجي وتخصيص الموارد والحوكمة على البرامج المجتمعية. وكان لها مجموعة من مؤشرات الأداء (KPIs) مثل “عدد المستفيدين من المبادرات”، “نسبة إعادة التدوير”، “مستوى رضا المجتمع المحلي”….
من المبادرة إلى المنهج
حتى لا تبقى المسؤولية المجتمعية مجرد مبادرة علاقات عامة، لا بد من ترسيخها وفق إطار منهجي يضمن استدامتها. ويتحقق ذلك عبر:
1. دمج CSR في استراتيجية الشركة الأساسية، أي يجب أن تكون المسؤولية المجتمعية جزءًا من الرؤية والرسالة المؤسسية. الى جانب وضع مؤشرات أداء مرتبطة بأثر اجتماعي ملموس.
2. بناء شراكات استراتيجية مع المجتمع المدني بالتعاون مع الجمعيات والجهات الأكاديمية يعزز فعالية البرامج المجتمعية.
3. التقارير الشفافة والإفصاح عبر نشر تقارير دورية باستخدام أطر دولية مثل (GRI) .
4. ربط CSR بالحوكمة المؤسسية من خلال تعيين لجان أو مسؤولين عن الاستدامة ضمن هيكل الحوكمة.
بناء شراكات استراتيجية مع المجتمع المدني
بدلاً من أن تتحمل الشركات العبء وحدها، يمكن تحقيق أثر مضاعف عبر بناء شراكات ذكية مع منظمات المجتمع المدني، القطاع العام، والجهات الأكاديمية. سواء مع جمعيات بيئية لتطبيق برامج توعوية. أو مع جامعات لتقديم منح دراسية أو تمويل بحوث مرتبطة بالاستدامة. أو مع البلديات لتعزيز البنية التحتية المجتمعية.
حيث نجد مجموعة من الفوائد المتبادلة فالمجتمع يحصل على خدمات ذات جودة، والشركات تبني الثقة وتحصل على سمعة جيدة وتأثير طويل الأمد. في حين نجد مجموعة من المخاطر التي ترافق غياب الشراكة، لأن العمل الفردي غالبًا ما يكون محدود الأثر، ويصعب توسيعه أو استدامته دون شراكة ممنهجة.
التقارير الشفافة والإفصاح المنتظم
من دون إفصاح دوري وشفاف، تبقى مبادرات المسؤولية المجتمعية عرضة للتشكيك أو تصنَّف كـ”غسل أخضر” (Greenwashing). لأن التوثيق والمحاسبة يرفعان من مصداقية المبادرات المجتمعية أمام أصحاب المصلحة والمستثمرين.
والافصاح له أشكال عديدة يعبر عنها من خلال مجموعة من التقارير الفنية مثل تقارير الاستدامة السنوية (Sustainability Reports)، أو تقارير الأثر الاجتماعي (Social Impact Reports).، أو تقارير مواءمة الأهداف مع أهداف التنمية المستدامة (SDGs) . كما أن هذه التقارير لها مجموعة من الأطر الدولية المساعدة مثل الإفصاح البيئي والاجتماعي (GRI). الدليل الارشادي لتطبيق المسؤولية المجتمعية (ISO 26000).
حيث تجني الشركات مجموعة من الفوائد جراء عملية الإفصاح مثل بناء الثقة مع المجتمع والمستثمرين. وجذب التمويل من صناديق الاستثمار المسؤولة، وتحسين الترتيب في مؤشرات المسؤولية العالمية. كما سوف تجد الشركات مجموعة من التحديات يجب التعامل معها بحذر مثل ضعف البيانات الداخلية. ومحدودية الكوادر المتخصصة في جمع وتحليل بيانات الأثر.
نماذج تطبيق ناجحة
• شركة أرامكو السعودية: برامج دعم التعليم والصحة والبنية التحتية في المجتمعات المحيطة.
• مجموعة ماجد الفطيم: مبادرات لخفض البصمة الكربونية ودعم التوظيف المحلي.
• شركة غوغل: استثمار في الابتكار الاجتماعي والتعليم الرقمي في الدول النامية.
ربط المسؤولية المجتمعية بالحوكمة المؤسسية
تظل المسؤولية المجتمعية محدودة التأثير ما لم تُدرج في بنية الحوكمة المؤسسية، عبر آليات واضحة للمساءلة والتوجيه.
• الحوكمة الفعالة: تعني وجود لجنة دائمة للمسؤولية المجتمعية ضمن مجلس الإدارة. مع وجود مسؤول أو مدير للاستدامة، مع تضمين أهداف المسؤولية ضمن سياسة المكافآت والتحفيز للإدارة.
• الشفافية والمساءلة: تعني الإشراف الداخلي على تنفيذ المبادرات. ومراجعة خارجية مستقلة لتقارير الأثر. ومراجعة دورية للسياسات ذات العلاقة، مثل شركة مايكروسوفت تصدر تقارير ESG يشرف عليها مجلس متخصص.
التحديات التي تواجه ترسيخ معايير المسؤولية المجتمعية
رغم تصاعد الاهتمام العالمي بمفهوم المسؤولية المجتمعية للمؤسسات، لا تزال هناك عدة تحديات بنيوية وثقافية ومؤسسية تحول دون تطبيقه بصورة فعّالة، خصوصًا في سياقات الدول النامية، ومنها:
1. ضعف الإطار التنظيمي في بعض الدول: يُقصد به غياب أو قصور التشريعات والسياسات الوطنية التي تُلزم أو تشجع المؤسسات على تبني ممارسات مسؤولية مجتمعية مستدامة.
2. في بعض الدول، لا توجد قوانين واضحة تُعرّف المسؤولية المجتمعية أو تلزم الشركات بتقديم تقارير دورية عن أنشطتها.
3. غياب الحوافز الحكومية مثل الإعفاءات الضريبية أو منح العلامات التنافسية يقلل من دافعية القطاع الخاص للالتزام.
4. النتيجة: يتحول الأمر إلى مبادرات تطوعية غير ملزمة، مما يحدّ من فعاليتها وشموليتها، مثال على ذلك في أغلب دول الخليج، لا تزال المسؤولية المجتمعية تفتقر إلى إطار إلزامي موحد، رغم تعدد المبادرات الحكومية.
5. الخلط بين المسؤولية المجتمعية والعمل الخيري التقليدي، تُعد هذه المشكلة من أبرز العوائق، حيث لا تزال بعض المؤسسات ترى CSR مجرد تبرعات موسمية أو رعاية فعاليات عامة، دون ربطها بالاستراتيجية المؤسسية أو الأثر طويل المدى.
فالعمل الخيري تقليديًا يُركّز على الاستجابة المباشرة للحاجات (مثل توزيع الطعام أو التبرعات). أما CSR فتهدف إلى تحقيق أثر اجتماعي وتنموي مستدام، وغالبًا ما تكون مرتبطة بمجال عمل الشركة. هذا الخلط يُضعف من قدرة المؤسسات على بناء برامج حقيقية تقود إلى تنمية مجتمعية. مثال على ذلك حين تموّل شركة صناعية حملة رمضانية دون أن يكون لها أي برنامج بيئي لتقليل بصمتها الكربونية.
6. غياب الثقافة المؤسسية المستدامة، يُقصد بها أن ثقافة المؤسسة نفسها لا تتبنى مبادئ الاستدامة والمسؤولية المجتمعية في قراراتها اليومية. فغالبًا ما تكون برامج CSR منفصلة عن صميم عمل الشركة، وتدار من قبل قسم تسويق أو علاقات عامة. وعدم وجود قيادة داخلية مؤمنة بمفهوم “خلق القيمة المشتركة” يجعل البرنامج سطحيًا أو مناسباتيًا فقط. هناك أيضًا مقاومة داخلية للتغيير من قبل الإدارة العليا أو الموظفين أنفسهم، خوفًا من التكاليف أو تعقيد الإجراءات. مثال شركة صناعية تستخدم مياهاً بكميات هائلة لكنها لا تستثمر في تقنيات الترشيد أو إعادة التدوير.
7. نقص أدوات القياس النوعي والكمي للأثر، حيث يصعب على كثير من المؤسسات تقييم فعالية برامجها الاجتماعية والبيئية، بسبب غياب مؤشرات أداء رئيسية (KPIs) واضحة لقياس الأثر. وضعف التوثيق والتقييم بعد تنفيذ المبادرات. والتركيز غالبًا على “كم أنفقت” لا “ما الأثر الذي تحقق”. وصعوبة قياس الأثر غير المادي (مثل تعزيز التماسك الاجتماعي أو تمكين المرأة)، مثال ذلك مبادرة تعليمية لطلاب الريف لا يتم تتبع نتائجها الأكاديمية بعد سنة أو سنتين من التنفيذ، مما يحدّ من إمكانية تحسينها أو تعميمها.
خلاصة القول إن ترسيخ معايير المسؤولية المجتمعية يتطلب:
• إصلاح تشريعي ينظم ويلزم.
• تحوّل ثقافي في عقلية المؤسسة نحو الاستدامة.
• تمييز معرفي بين العمل الخيري ومبادئ CSR الحديثة.
• تطوير أدوات علمية لرصد وتقييم الأثر الاجتماعي والبيئي.
لأن ترسيخ معايير المسؤولية المجتمعية لم يعد ترفًا اختياريًا، بل هو جزء من الالتزام الأخلاقي والاقتصادي للمؤسسات. الانتقال من المبادرات المؤقتة إلى نموذج مؤسسي يتطلب إرادة قيادية، وشفافية، وتكاملًا مع استراتيجية الأعمال. فالمؤسسات التي تبني الثقة مع مجتمعاتها اليوم، هي التي تؤسس لنمو مستدام في الغد.
فترسيخ معايير المسؤولية المجتمعية لا يتحقق عبر مبادرات منعزلة، بل يتطلب بنية مؤسسية، شراكات استراتيجية، ومساءلة شفافة. فالشركات التي تدمج القيم المجتمعية في بنيتها الإدارية والاستراتيجية هي الأقدر على مواكبة التحولات العالمية نحو التنمية المستدامة، وكسب ثقة أصحاب المصلحة والمستثمرين على حد سواء.