تحوُّل الصحراء إلى خُضرة: المزرعة النموذجية بالمغرة كمنارة للاستدامة الزراعية
شبكة بيئة ابوظبي، د. طارق قابيل (*)، القاهرة، جمهورية مصر العربية، 18 مايو 2025
في ظل التحديات البيئية المُتلاحقة، تبرز مبادرة أكاديمية البحث العلمي المصرية بإطلاق المرحلة الثانية من المزرعة البحثية النموذجية بالمغرة كأنموذجٍ استثنائي لتحقيق التوازن بين الابتكار العلمي والواقع العملي. هذا المشروع، الذي يُعد جزءًا من مشروع المليون ونصف فدان، لا يهدف فقط إلى استصلاح الأراضي الصحراوية، بل يُعيد تعريف مفاهيم الزراعة في البيئات القاحلة عبر دمج التكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي.
هندسة المستقبل الزراعي المصري
تُبنى المرحلة الجديدة على نجاحات سابقة شملت إنشاء بنية تحتية متكاملة: محطة طاقة شمسية، وحدة تحلية مياه، ومشاتل أعلاف، ما أثبت فاعلية التكنولوجيا في مواجهة تحديات مثل ملوحة التربة والمياه. أما الأهداف الطموحة للمرحلة الثانية فتشمل:
1. الزراعة الذكية المدمجة مع إنترنت الأشياء (IoT):
التحول إلى الزراعة الذكية عبر أنظمة ري حديثة تعتمد على الطاقة المتجددة، وتقنيات إنترنت الأشياء (IoT) لمراقبة الظروف المناخية وإدارة الموارد بكفاءة. واستخدام أجهزة استشعار لاسلكية (مثل حساسات رطوبة التربة لمراقبة الظروف البيئية في الوقت الفعلي.
2. نظام ري ذكي:
استخدام نظام ري ذكي يعتمد على خوارزميات تُحلل بيانات الطقس من الأقمار الصناعية لتحديد احتياجات المياه بدقة تصل إلى 90%..
3. تنويع المحاصيل المقاومة للظروف القاسية:
تجربة زراعة 20 نوعًا من النباتات الملحية مثل السالبيكورنيا (نبات زيتي مقاوم للملوحة) والكينوا، إلى جانب الشعير والزيتون والنخيل، والتي تُقلل الاعتماد على المحاصيل التقليدية وتُعزز الأمن الغذائي.
4. الابتكار في الإنتاج الحيواني:
تطوير أعلاف مُركبة من نباتات الملوخية والطحالب البحرية، تُقلل انبعاثات الميثان في الأبقار بنسبة 30%.، واستخدام أنظمة الزراعة المائية العلفية لإنتاج 10 أطنان من الأعلاف الخضراء شهريًا باستخدام 5% من المياه التقليدية عبر أساليب مُتطورة تُخفض التكلفة وتُقلل الأثر البيئي، مدعومةً بتطوير أسمدة حيوية صديقة للتربة.
5. بناء القدرات البشرية:
تدريب 500 شاب سنويًا على تقنيات الزراعة الحديثة عبر برنامج “مستقبل الزراعة الذكية” بالتعاون مع جامعة الزقازيق ومركز البحوث الزراعية، يشمل دورات في تحليل البيانات الزراعية وإدارة أنظمة الري الذكية، مما يُؤسس لجيلٍ قادر على قيادة التحول الزراعي في مصر.
التقنيات الرائدة: من النظرية إلى التطبيق
يُبرز المشروع استخدامًا مكثفًا للتقنيات الزراعية الرائدة والمتقدمة:
1. الزراعة بدون تربة (الهيدروبونيك):
وهي نظام مغلق يعتمد على محلول مغذي مُعاد تدويره، ويُنتج 3 دورات زراعية سنويًا لمحاصيل مثل الخس والطماطم. ويتم استخدام رقاقات NFT (Nutrient Film Technique) لتحقيق كفاءة في امتصاص العناصر الغذائية تصل إلى 95%، وتُقلل استهلاك المياه بنسبة تصل إلى 70% مقارنة بالزراعة التقليدية، وتُجنب التربة المالحة.
2. تحلية المياه بالطاقة الشمسية:
حلٌّ مستدام لمشكلة ندرة المياه، خاصة مع ارتفاع نسبة الملوحة في المياه الجوفية بالمناطق الصحراوية. وتستخدم وحدة تحلية بسعة 50 متر مكعب يوميًا، تعمل بتقنية التناضح العكسي (RO) مع استرداد 60% من المياه المُحلاة، وملوحة مُخرجات تصل إلى 500 جزء في المليون.
3. الصوب الزراعية الذكية:
صوبات مزودة بألواح شمسية شفافة تولد 30% من احتياجاتها الكهربائية، وتُحسّن إدارة المناخ الداخلي عبر أجهزة استشعار تُنظم الرطوبة ودرجة الحرارة تلقائيًا.
التحديات والحلول: رؤية علمية متكاملة
رغم الإنجازات، تواجه المزرعة تحدياتٍ كامنة في طبيعة البيئة الصحراوية، مثل:
1. ندرة المياه: تُعالج عبر مشاريع تحلية تعتمد على الطاقة النظيفة، وأنظمة الري بالتنقيط التي تخفض استهلاك المياه بنسبة 50% عبر أنظمة الري بالتنقيط الذكية، و25% عبر إعادة استخدام مياه الصرف المعالجة في ري الأشجار.
2. تدهور التربة: تُستخدم الأسمدة الحيوية ومحسنات التربة العضوية لتعزيز الخصوبة، مثل منتجات “هنزسويل” التي تُحسن الاحتفاظ بالرطوبة. وتطبيق تقنية التسميد الحيوي (Biofertilizers) باستخدام بكتيريا Azospirillum وMycorrhiza، مما يزيد خصوبة التربة بنسبة 40% خلال 6 أشهر.
3. التغيرات المناخية: تُواجه باختيار محاصيل مُقاومة للجفاف وتقنيات مراقبة عبر الأقمار الصناعية، واستخدام نماذج محاكاة مناخية (CLIMGEN) لاختيار محاصيل تتكيف مع ارتفاع الحرارة حتى 45°م.
الأثر الاستراتيجي: نحو رؤية 2030 بأرقام ملموسة
وفقًا للدكتورة جينا الفقي، القائم بأعمال رئيس الأكاديمية، فإن هذا المشروع يُعد ركيزةً لرؤية مصر 2030، حيث يُسهم في:
1. تعزيز الأمن الغذائي
عبر زيادة الإنتاج المحلي من المحاصيل والثروة الحيوانية، والمستهدف مثلا زيادة إنتاج القمح من 4 إلى 8 أطنان/فدان في الأراضي المُستصلحة، وتوفير 20% من احتياجات السوق المحلي من زيت الزيتون هذا العام.
2. الحد من التصحر
بتحويل الأراضي القاحلة إلى مساحات خضراء تُقلل انبعاثات الكربون. والمستهدف تحويل 1000 فدان صحراوي إلى أراضٍ خضراء سنويًا، مع امتصاص 5000 طن من ثاني أكسيد الكربون.
3. خلق فرص اقتصادية
عبر تصدير التقنيات المُبتكرة وتشغيل الشباب في قطاعات الزراعة الذكية، وتصدير تقنيات التحلية الصغيرة إلى دول أفريقية بـ 5 ملايين دولار عائدات متوقعة بحلول 2026.
نصائح جوهرية من عالم متخصص لتطوير مشروع المزرعة النموذجية بالمغرة مستقبلًا
يسعدني في هذا المقام، وحسب خبرتي الطويلة في المجال البحثي والأكاديمي، أن أتقدم ببعض النصائح الجوهرية لتطوير مشروع المزرعة النموذجية بالمغرة مستقبلًا، وتطوير المشاريع الزراعية الشبيهة في جميع أنحاء عالمنا العربي، ومنها:
1. تعزيز البنية التكنولوجية والرقمنة المتقدمة
مثل: دمج الذكاء الاصطناعي التنبؤي، وتطوير نماذج ذكاء اصطناعي مثل (IBM Watson Agriculture) لتحليل البيانات المناخية والتاريخ الزراعي، وتوقع الأمراض النباتية قبل حدوثها بنسبة دقة تصل إلى 85%، مما يقلل الخسائر بنسبة 30. % واستخدام تقنية البلوك تشين لتتبع سلسلة التوريد، مما يضمن شفافية الإنتاج من المزرعة إلى المستهلك، ويرفع قيمة الصادرات الزراعية بنسبة 15%.
2. التوسع في إنترنت الأشياء (IoT):
مثل: تركيب أجهزة استشعار ذكية (Smart Sensors) لمراقبة جودة الهواء (مثل انبعاثات الأمونيا في الإنتاج الحيواني) وتعديلها تلقائيًا عبر أنظمة التهوية الذكية. واستخدام الطائرات المسيرة (Drones) ذات الكاميرات الحرارية لرصد الإجهاد المائي في المحاصيل بدقة 90%.
3. التطوير المستمر للبحوث والتجارب العلمية
مثل: العمل على تأسيس مختبر حيوي مفتوح (Open Lab)، وإنشاء منصة تعاونية مع جامعات دولية لتجربة تقنيات حديثة مثل الزراعة العمودية (Vertical Farming)، والطحالب الدقيقة كمصدر للبروتين البديل. واستهداف تطوير محاصيل هجينة تتحمل درجات حرارة تصل إلى 50°م باستخدام تقنية “كريسبر-كاس12”.
كما من المستحسن أن نحاكي تجربة دولة الأمارات العربية في انشاء مركز تميز للزراعة الملحية، وبحث سبل استغلال مياه الصرف الزراعي المالح في زراعة نباتات الطاقة مثل السويداء (Suaeda)، التي تُنتج وقود حيوي بـ 70% انبعاثات أقل.
4. تحقيق الاستدامة المائية عبر حلول مبتكرة
استخدام تقنيات ونظم حصد “الماء من الهواء” (AWG)، مثل تقنية “هيدروبانل” (Hydropanel) لاستخراج مياه الشرب من الرطوبة الجوية، بإنتاجية تصل إلى 5 لترات/يوم لكل لوح شمسي، خاصة في المناطق النائية. وتطوير شبكات الري بالضباب (Fog Irrigation) لتقليل تبخر المياه بنسبة 40% في الصوب الزراعية. وإعادة تدوير المياه الرمادية، ومعالجة مياه الصرف المنزلية القريبة باستخدام نباتات القصب المُعدلة وراثيًا لتنقيتها وإعادة استخدامها في الري.
5. تمكين المجتمع المحلي وبناء اقتصاد دائري
تمكين المجتمع المحلي وبناء اقتصاد دائري عبر مبادرات التمكين المجتمعي مثل إنشاء تعاونيات زراعية تديرها النساء، مع توفير قروض ميسرة لتمويل مشاريع صغيرة تعتمد على منتجات المزرعة (مثل تصنيع زيت الزيتون) وإطلاق منصة إلكترونية (Agri-Hub) لربح المزارعين المحليين بأسواق التصدير مباشرة. وتحويل مخلفات المحاصيل إلى أسمدة حيوية عبر تقنية التفحيم الحيوي (Biochar)، مما يقلل التكلفة بنسبة 25%، ويخزن الكربون في التربة ويعزز الاقتصاد الدائري للنفايات.
6. التوسع الأفقي والرأسي عبر شراكات استراتيجية
البدء في عمل شراكات مع القطاع الخاص والتعاون مع شركات مثل Siemens أو Bosch لتصنيع معدات زراعية ذكية محليًا، مما يخفض التكلفة بنسبة 20%، وجذب استثمارات أجنبية عبر منح امتيازات ضريبية لمشاريع الطاقة المتجددة المرتبطة بالمزرعة. وتطوير حزمة تقنية جاهزة (Farm-in-a-Box) تشمل كل مكونات المزرعة الذكية، لتصديرها إلى دول الساحل الأفريقي بدعم من منظمات مثل البنك الأفريقي للتنمية.
7. نظام مراقبة وتقييم قائم على البيانات الضخمة
ربط كل أنظمة المزرعة بمنصة مركزية (Digital Twin) تُحاكي العمليات في الوقت الفعلي، وتُولد تقارير أداء أسبوعية. واستخدام تحليلات البيانات الضخمة (Big Data) لتحديد أنماط الاستهلاك المحلي وتوجيه الإنتاج وفقًا لها. واستخدام مؤشرات أداء قابلة للقياس (KPIs)، وتقييم نجاح المشروع عبر مؤشرات مثل: كفاءة استخدام المياه (WUE) بهدف زيادتها إلى 3.5 كجم/م³.
زراعة الأمل في قلب الصحراء نحو ريادة إقليمية في الزراعة الذكية
المزرعة النموذجية بالمغرة ليست مجرد مشروعٍ زراعي، بل هي بيانٌ عملي لقدرة العلم على تحويل التحديات إلى فرص. وهي نموذجٌ مُصغر لمستقبل الزراعة العالمية في ظل التغيرات المناخية. نجاحها يعتمد على ثلاث ركائز: التقنية الدقيقة، التمويل المستدام (بميزانية 15 مليون دولار للمرحلة الثانية)، والتعليم التطبيقي. إن تطبيق هذا النموذج على نطاق واسع قد يُحول مصر إلى مركز إقليمي للزراعة الذكية، ويُثبت أن العلم هو أقوى سلاح لمواجهة أزمات القرن الحادي والعشرين. ويجب أن يرتكز التطوير المستقبلي للمشروع على الابتكار التكنولوجي، التكامل المجتمعي، والاستثمار في رأس المال البشري.
نجاح المزرعة النموذجية قد يُحوّلها إلى حاضنة عالمية للحلول الزراعية المستدامة، تُقدم دروسًا للعالم في كيفية تحويل التحديات إلى فرص اقتصادية وبيئية. الهدف ليس فقط زراعة الصحراء، بل زراعة ثقافة علمية تُعيد تعريف مستقبل الغذاء في المنطقة.
إن نجاح هذا النموذج قد يُلهم دولًا أخرى تعاني من ظروف مناخية مماثلة، مما يُعزز مكانة مصر كرائدة في الابتكار الزراعي المستدام. كما يُذكرنا بأن المستقبل الأخضر يبدأ بخطوةٍ علمية مدروسة، تُزرع اليوم لِتُثمر غدًا.
الكاتب: د. طارق قابيل
– أكاديمي، خبير التقنية الحيوية، كاتب ومحرر ومترجم علمي، ومستشار في الصحافة العلمية والتواصل العلمي.
– أستاذ جامعي متفرغ، وعضو هيئة التدريس بقسم التقنية الحيوية – كلية العلوم – جامعة القاهرة.
– مقرر لجنة الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية والدراسات الاستراتيجية ومؤشرات العلوم والتكنولوجي، وزميل أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
– أمين مجلس بحوث الثقافة والمعرفة، التابع لقطاع المجالس النوعية، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
– الباحث الرئيسي لمشروع خارطة طريق “مستقبل التواصل العلمي في مصر ودوره في الاعلام العلمي”، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مصر.
– عضو المجموعة الاستشارية العربية للعلوم والتكنولوجيا، التابعة للمكتب الإقليمي للأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث للدول العربية.
https://orcid.org/0000-0002-2213-8911
http://scholar.cu.edu.eg/tkapiel
tkapiel@sci.cu.edu.eg