في اليوم العالمي للتنوع البيولوجي
عقد جديد مع الأرض: رحلة مصر نحو الاستدامة في عالم متغير
شبكة بيئة ابوظبي، د. طارق قابيل (*)، القاهرة، جمهورية مصر العربية، 22 مايو 2025
يحتفل العالم في 22 مايو من كل عام باليوم العالمي للتنوع البيولوجي، وهو مناسبة لا تقتصر على التوعية البيئية فحسب، بل تعكس صراعًا وجوديًا تخوضه البشرية للحفاظ على شبكة الحياة التي تدعم بقاءنا. وفي عالم يتغير بوتيرة متسارعة، حيث تعصف بنا الأزمات المناخية، وتتفشى الأوبئة، وتتقلص الموارد، يبرز اليوم العالمي للتنوع البيولوجي كجرس إنذار عالمي. إنه ليس مجرد مناسبة احتفالية، بل وقفة تأمل جاد في علاقتنا بالطبيعة، وتحذير صارخ من تبعات الاستمرار في استنزاف هذا الكوكب. فالتنوع البيولوجي ليس ترفًا علميًا ولا مفهومًا بيئيًا مجردًا؛ بل هو شبكة الحياة التي تتشابك خيوطها لتحفظ لنا الهواء النقي، والماء العذب، والغذاء الذي نقتات عليه. وتتجدد هذا العام، الدعوة إلى تحقيق “الانسجام مع الطبيعة والتنمية المستدامة”، ووسط تحديات بيئية عالمية وتطلعات إقليمية، تبرز من بينها جهود مصر كبوصلة إلهام لدول الجنوب، حيث تبرز مصر كقصة ملهمة تُحاول فيها دولة ذات موارد محدودة وإرث حضاري عميق أن تصوغ نموذجًا محليًا للانسجام مع الطبيعة، يضع الإنسان في قلب المعادلة لا على هامشها.
وفي عالم يئن تحت وطأة التغيرات المناخية وفقدان التنوع البيولوجي، تبرز مصر كواحدة من الدول التي تسعى جاهدةً لمواءمة مسارها التنموي مع مبادئ الانسجام مع الطبيعة والاستدامة. ففي الوقت الذي يُحتفل فيه باليوم الدولي للتنوع البيولوجي، تتحول مصر من مجرد مُشارك في الحوار العالمي إلى فاعل رئيسي في ترجمة الأهداف الطموحة لإطار “كونمينغ-مونتريال” إلى واقع ملموس.
اليوم العالمي للتنوع البيولوجي
يمثل التنوع البيولوجي ركيزة الحياة على كوكب الأرض، ويشمل التنوع الجيني بين الأفراد، وتنوع الأنواع، وتنوع النظم الإيكولوجية. هو ما يضمن الأمن الغذائي، ويشكل مصدرًا حيويًا للدواء، ويمثل دعامة اقتصادية لقطاعات رئيسية مثل الزراعة والصيد والسياحة. وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن مليون نوع مهدد بالانقراض خلال العقود القادمة، نتيجة التوسع العمراني، وتدهور المواطن الطبيعية، وتغير المناخ. الغابات تُفقد بمعدل صادم، والأنواع الغازية تنتشر، والأنظمة البيئية تتدهور بشكل غير مسبوق.
يُصنف التنوع البيولوجي إلى ثلاثة أنواع رئيسية: التنوع الجيني، وهو الاختلافات الوراثية داخل الأنواع الواحدة (مثل أصناف القمح أو سلالات الماشية). وتنوع الأنواع، مثل التعددية في الكائنات الحية (نباتات، حيوانات، كائنات دقيقة). وأخيرا، تنوع النظم الإيكولوجية، وهو التفاعل بين الكائنات وبيئاتها (الغابات، البحيرات، الصحاري، المناطق الزراعية).
والتنوع البيولوجي مهم للإنسان، حيث توفر النباتات 80% من النظام الغذائي البشري، بينما تُمد المصايد 3 مليارات شخص بـ20% من البروتين الحيواني. ويعتمد 80% من سكان الريف في الدول النامية على الأدوية العشبية التقليدية. كما تدعم النظم البيئية الزراعة والسياحة وقطاعات صناعية كبرى. ويقلل التنوع الحيوي من انتشار الأمراض الحيوانية المنشأ (مثل كوفيد-19)، بينما تدمير الموائل الطبيعية يزيدها.
وفي عالم يتزايد فيه الضغط على الموارد الطبيعية، يبرز اليوم العالمي للتنوع البيولوجي كمناسبة عالمية لتذكير البشرية بأهمية الحفاظ على التنوع الحيوي الذي يُشكّل أساس استمرار الحياة على الأرض. فالتنوع البيولوجي ليس مجرد تنوع الكائنات الحية، بل هو شبكة معقدة من التفاعلات التي تُحافظ على توازن النظم البيئية وتدعم رفاهية الإنسان.
ومن أهداف اليوم العالمي للتنوع البيولوجي: التوعية بدور التنوع الحيوي في استقرار النظم البيئية. وتسليط الضوء على الخسائر المتسارعة للأنواع (مليون نوع مهدد بالانقراض حاليًا). وتعزيز الحفاظ على الموارد البيولوجية واستخدامها بشكل مستدام. وحماية التنوع البيولوجي ليست خيارًا أخلاقيًا فقط، بل ضرورة اقتصادية وصحية. ولهذا، فقد أقرت اتفاقية “كونمينغ – مونتريال” عام 2022 خلال مؤتمر الأطراف COP15 أهدافًا طموحة لحماية 30% من الأراضي والمياه بحلول 2030، أبرزها عكس مسار فقدان التنوع الحيوي، واستعادة النظم البيئية المتدهورة، وإدماج الاعتبارات البيئية في السياسات الوطنية. وتهدف الاتفاقية لاستعادة 20% من النظم البيئية المتدهورة، وخفض الأنواع الغازية بنسبة 50%.
ولا تتحقق أهداف التنمية المستدامة دون نظم بيئية سليمة. من القضاء على الجوع، إلى تحقيق الأمن الصحي والمائي، كل هدف يرتبط بخيط من خيوط الطبيعة. وتعتمد 80% من أهداف التنمية المستدامة (مثل القضاء على الجوع ومكافحة الفقر) على نظم بيئية سليمة. ولكن تدهور البيئات الطبيعية يُقوّض التقدم في مجالات الصحة والمياه والطاقة.
رحلة مصر نحو الاستدامة في عالم متغير
لطالما شكلت الطبيعة مصدر إلهام للثقافة المصرية منذ فجر التاريخ. الفراعنة قدّسوا النيل، وأقاموا الزراعة على نظام دقيق من التوافق مع مواسم الفيضان، وكانت العلاقة مع الأرض علاقة مقدسة لا استنزاف فيها. وقد تبنّت مصر رؤيةً استباقيةً لمواجهة التحديات البيئية، مستندةً إلى إرثها الحضاري الذي طالما عبّر عن احترام عميق للطبيعة. فمع تبني العالم لإطار “كونمينغ-مونتريال” في 2022، والذي يهدف إلى استعادة 20% من النظم البيئية المتدهورة بحلول 2030، أطلقت مصر سلسلةً من المبادرات التي تجسّد هذا التوجه.
واليوم، ومع تزايد التحديات البيئية، تبرز مصر كفاعل إقليمي يحاول أن يُعيد هذا التوازن من خلال:
• مشروع “حياة كريمة”: تنمية الريف المصري بشكل مستدام، وتشجيع الزراعة العضوية، وزراعة الأشجار المثمرة.
• إنشاء أول بنك جيني للنباتات المهددة بالانقراض: لحفظ الأصول الوراثية التقليدية، مثل القمح الفرعوني، بالتعاون مع اليونسكو.
• خطة وطنية للتنوع البيولوجي 2030: تتضمن حوافز ضريبية للمصانع الخضراء، وبرامج للسياحة البيئية المجتمعية.
ومشروع “حياة كريمة” لتنمية الريف المصري، لا يقتصر على تحسين البنية التحتية، بل يشمل زراعة الأشجار المثمرة، وحماية التربة من التصحّر، وتشجيع الزراعة العضوية التي تحافظ على التنوع البيولوجي. ولم تكن مفاجأةً أن تُعلن مصر عن إنشاء أول بنك جيني للنباتات المهددة بالانقراض في منطقة الشرق الأوسط، بالتعاون مع منظمة اليونسكو، بهدف حفظ الأصول الوراثية للزراعات التقليدية كالقمح الفرعوني، الذي يتكيف مع ندرة المياه. هذا المشروع ليس مجرد خطوة علمية، بل هو إحياء لحكمة الأجداد الذين عرفوا كيف ينسجمون مع بيئتهم.
وبالطبع لا يمكن فصل جهود الحفاظ على البيئة في مصر عن تراثها الثقافي. فالمحميات الطبيعية مثل “رأس محمد” في جنوب سيناء، ليست فقط موطنًا للشعاب المرجانية النادرة، بل هي جزء من الهوية السياحية التي تعتمد على التوازن بين التنمية والحفظ. كما أدرجت اليونسكو منطقة “وادي الحيتان” ضمن التراث العالمي، ليس لكونها متحفًا مفتوحًا للحفريات القديمة فحسب، بل لالتزام مصر بحماية هذا الكنز الجيولوجي من التعديات البشرية.
وأثبتت جائحة “كوفيد-19” أن تدهور النظم البيئية يزيد من مخاطر انتقال الأمراض الحيوانية المنشأ. وفي هذا الإطار، تعمل مصر على تعزيز الرصد البيئي في المناطق الحدودية، مثل بحيرة ناصر، حيث تُراقب الأنواع الحيوانية لمنع تفشي الأمراض. كما دشنت حملات توعوية في القرى النائية لتشجيع الطب الوقائي القائم على الأعشاب الطبيعية، مما يقلل الاعتماد على المواد الكيميائية ويحافظ على المعارف التقليدية.
مصر 2030: بين الواقع والطموح
رغم الإنجازات، ما تزال العقبات قائمة. فالتوسع العمراني السريع يهدد الأراضي الزراعية، والأنواع الغازية مثل نبات “السرس” تُعطل التوازن البيئي للبحيرات. لكن الخطة الوطنية للتنوع البيولوجي 2030، التي أطلقتها وزارة البيئة، تضع حلولًا جذرية، منها إنشاء حوافز ضريبية للمصانع التي تعتمد تقنيات خضراء، وإشراك المجتمعات المحلية في إدارة المحميات عبر برامج “السياحة البيئية المجتمعية”.
ورغم ما تحقق، لا تزال هناك تحديات جسيمة مثل ندرة المياه، والتي تتفاقم بسبب سد النهضة وتغير المناخ. وزيادة الأنواع الغازية، مثل نبات السرس، الذي يهدد توازن البحيرات. والزحف العمراني الذي يُهدد الأراضي الزراعية والموائل الطبيعية.
وتواجه مصر تحديات مائية وزراعية وبيئية معقدة، لكنها تملك أيضًا أدوات المواجهة، مثل التوسع في الطاقة المتجددة، وتطوير نظم ري ذكية، واستثمار موارد المحميات في السياحة البيئية. وكما هو معلوم، تواجه مصر تحديًا وجوديًا يتمثل في شح الموارد المائية، خاصة مع تأثيرات سد النهضة الإثيوبي وتقلبات المناخ.
لكنها حوّلت هذا التهديد إلى فرصة لتعزيز الاستدامة. ففي قطاع الزراعة، تم تطوير نظم الري الذكية في دلتا النيل، مما خفض استهلاك المياه بنسبة 30%، وفقًا لتقارير وزارة الموارد المائية. وفي الوقت نفسه، تُسرع مصر خطواتها نحو التحول الأخضر، حيث تهدف إلى توليد 42% من الكهرباء من مصادر متجددة بحلول 2035، عبر مشروعات عملاقة كمجمع “بنبان” للطاقة الشمسية، الأكبر من نوعه في أفريقيا.
وبالطبع، التحول البيئي لا يُبنى بالسياسات وحدها، بل يبدأ من الأفراد، والمدارس، والإعلام. الثقافة البيئية ليست ترفًا، بل سلوك يومي ينعكس في أنماط استهلاكنا، وعلاقاتنا بالطبيعة. لكن الحلول ليست بعيدة المنال، فمصر تعمل على تطوير نظم الري الذكية في الدلتا، وتُسرّع وتيرة التحول للطاقة المتجددة، حيث يُتوقع أن تُنتج 42% من الكهرباء من مصادر نظيفة بحلول 2035، أبرزها مشروع “بنبان” للطاقة الشمسية.
وفي النهاية، تُظهر مصر، برؤيتها التي تجمع بين الحكمة القديمة والابتكار الحديث، أن الانسجام مع الطبيعة ليس ترفًا، بل ضرورة لبقاء الإنسان. وفي ذكرى اليوم العالمي للتنوع البيولوجي، نحن مدعوون ليس فقط للاحتفال، بل لإعادة التفكير في علاقتنا بالطبيعة. لم تعد البيئة شأنًا يخص العلماء وحدهم، بل مسؤولية جماعية. نحن بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد مع الأرض، قوامه الاحترام، والانسجام، والاستدامة. فكما قال العالم المصري الراحل د. مصطفى طلبة: “الاستدامة ليست خيارًا سياسيًا، بل هي عقد نُوقعه مع الأجيال القادمة”.
اليوم، ومع اقتراب موعد تحقيق أهداف 2030، تثبت مصر أن التنمية الحقيقية هي تلك التي تترك الأرض أغنى مما وجدتها. ومصر، بتاريخها العريق، وبتطلعاتها الحديثة، تملك كل المقومات لتكون نموذجًا يُحتذى في الشرق الأوسط والعالم، وتُثبت أن حماية التنوع البيولوجي ليست خيارًا بيئيًا، بل اختيار حضاري، يحدد مصير الأجيال القادمة.
فلنصغِ إلى صوت الأرض، قبل أن يصمت إلى الأبد.
الكاتب: د. طارق قابيل
– أكاديمي، خبير التقنية الحيوية، كاتب ومحرر ومترجم علمي، ومستشار في الصحافة العلمية والتواصل العلمي.
– أستاذ جامعي متفرغ، وعضو هيئة التدريس بقسم التقنية الحيوية – كلية العلوم – جامعة القاهرة.
– مقرر لجنة الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية والدراسات الاستراتيجية ومؤشرات العلوم والتكنولوجي، وزميل أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
– أمين مجلس بحوث الثقافة والمعرفة، التابع لقطاع المجالس النوعية، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
– الباحث الرئيسي لمشروع خارطة طريق “مستقبل التواصل العلمي في مصر ودوره في الاعلام العلمي”، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مصر.
– عضو المجموعة الاستشارية العربية للعلوم والتكنولوجيا، التابعة للمكتب الإقليمي للأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث للدول العربية.
https://orcid.org/0000-0002-2213-8911
http://scholar.cu.edu.eg/tkapiel
tkapiel@sci.cu.edu.eg