كارثة الإسكندرية: قراءة علمية في تحدّي التنبؤ بالطقس الجامح
شبكة بيئة ابوظبي، د. طارق قابيل (*)، القاهرة، جمهورية مصر العربية 03 يونيو 2025
في فجر يوم 31 مايو 2025، تجسدت قسوة الطبيعة في محافظة الإسكندرية بجمهورية مصر العربية، حيث ضربت عاصفة غير مسبوقة تميزت بأمطار رعدية غزيرة، ورياح عاتية تجاوزت سرعتها 80 كيلومترًا في الساعة، وظاهرة نادرة الحدوث تمثلت في تساقط جزئي للثلوج. خلّف هذا الحدث طقسًا جامحًا أدى إلى شلل في حركة المرور، وتراكم مياه الأمطار بكميات هائلة، وسقوط للأشجار واللوحات الإعلانية، بالإضافة إلى انهيارات جزئية في بعض المباني التاريخية. هذا المشهد الكارثي يطرح تساؤلات جوهرية حول القدرة على التنبؤ الدقيق بمثل هذه الظواهر المناخية المتطرفة، خاصة في ظل تسارع وتيرة التغيرات المناخية العالمية.
التحديات العلمية في التنبؤ بالطقس الجامح
لقد أثار هذا الحدث الصادم نقاشًا عامًا حول مدى دقة التنبؤات الجوية الصادرة عن الهيئة العامة للأرصاد الجوية المصرية. وبينما صدرت تحذيرات أولية بشأن تقلبات جوية محتملة، فإن الشدة غير المتوقعة للعاصفة طرحت تساؤلات حول العوامل التي حالت دون تقديم تنبؤ أكثر دقة. من المرجح أن تتضمن هذه العوامل مزيجًا من القيود التقنية، ونقصًا محتملاً في التدريب المتخصص للكوادر، وتعقيدات طبيعة التغيرات المناخية نفسها.
ومع ذلك، من الضروري التأكيد على أن التنبؤ بالطقس، وخاصة الظواهر المتطرفة، يمثل تحديًا علميًا عالميًا. فحتى الدول المتقدمة ذات الإمكانات التكنولوجية الهائلة تواجه صعوبات في التنبؤ الدقيق بالكثير من الكوارث الطبيعية. يعود هذا التحدي إلى عدة عوامل متداخلة:
1. طبيعة الظواهر المناخية الجامحة: يشهد العالم تحولًا في أنماط الطقس نتيجة للتغيرات المناخية. تشير تقارير المنظمة العالمية للأرصاد الجوية إلى زيادة ملحوظة في تواتر وشدة الظواهر الجوية المتطرفة بنسبة تقدر بنحو 50% مقارنة بالعقدين الماضيين. هذا التحول يجعل التنبؤ أكثر صعوبة وتعقيدًا.
2. الفجوة التكنولوجية: تعتمد المراكز العالمية الرائدة في مجال الأرصاد الجوية على نماذج محاكاة حاسوبية فائقة الدقة تستفيد من تقنيات الذكاء الاصطناعي. في المقابل، قد تكون الإمكانات المتاحة للدول النامية، بما فيها مصر، محدودة نسبيًا في هذا الجانب، مما يؤثر على دقة التنبؤات. وعلى الرغم من تقدم مصر الملحوظ في مؤشر أداء تغير المناخ لعام 2025، حيث احتلت المرتبة العشرين عالميًا، إلا أن تطوير الأنظمة الحالية يظل ضرورة ملحة.
3. تعقيد العوامل المحلية: تلعب العوامل الجغرافية والمحلية دورًا هامًا في تشكيل الظواهر الجوية. في حالة الإسكندرية، يزيد التوسع العمراني العشوائي والوضع الهش للساحل من تأثير الظواهر المناخية. فقد أشارت الدراسات إلى أن نحو 72% من سواحل الإسكندرية مصنفة ضمن المناطق “شديدة الخطورة” بسبب تآكل السواحل بمعدل يقارب 0.1 متر سنويًا منذ عام 1984.
السياق العلمي وتفاقم المخاطر المناخية في الإسكندرية
من المنظور العلمي، تُعد الإسكندرية من بين المدن الحضرية الأكثر عرضة للمخاطر المناخية في منطقة البحر الأبيض المتوسط. تشير الدراسات الحديثة إلى ارتفاع مقلق في معدل انهيار المباني في المدينة، من حالة واحدة سنويًا إلى أكثر من 40 حالة في العام خلال العقدين الأخيرين. يُعزى هذا الارتفاع بشكل كبير إلى تآكل السواحل، وارتفاع منسوب سطح البحر، وتسرب المياه المالحة إلى التربة، مما يضعف البنية التحتية للمدينة.
وقد أكدت تقارير صادرة عن منصة “إنتربرايز” أن السواحل المصرية تتآكل بمعدل متوسط 0.1 متر سنويًا خلال الفترة من 1984 إلى 2016، مع تصنيف غالبية الساحل الشمالي ضمن المناطق المعرضة لخطر كبير. بالتوازي مع ذلك، تتوقع تقارير المنظمة العالمية للأرصاد الجوية تجاوز متوسط درجات الحرارة العالمية لمستويات ما قبل الثورة الصناعية بما يتراوح بين 1.2 و1.9 درجة مئوية خلال الفترة 2025-2029، مما ينذر بتفاقم حدة الظواهر المناخية المتطرفة.
تحديات التنبؤ بالظواهر المناخية الجامحة
على الرغم من الانتقادات التي أعقبت عاصفة الإسكندرية، تجدر الإشارة إلى أن الهيئة العامة للأرصاد الجوية قد أصدرت تحذيرات مسبقة أشارت إلى نشاط قوي للرياح وأمطار محتملة. ومع ذلك، فإن الشدة الدقيقة للعاصفة وتوقيتها لم يتم التنبؤ بهما بدقة كافية، مما يسلط الضوء على التحديات الكامنة في التنبؤ بالظواهر المناخية الجامحة. وقد وصف خبراء في الهيئة الدولية لتقييم تغير المناخ هذه الظواهر بأنها نتيجة مباشرة لزيادة انبعاثات الغازات الدفيئة، مما يؤدي إلى اضطرابات في مناطق الضغط الجوي، خاصة في المناطق الساحلية.
يعتمد التنبؤ بالطقس على نماذج رياضية معقدة للغاية، وأي هامش للخطأ في البيانات الأولية يمكن أن يؤدي إلى تغيير كبير في النتائج النهائية، خاصة عند التعامل مع ظواهر ديناميكية مثل العواصف الرملية أو الأمطار الغزيرة. إن تجارب الدول المتقدمة، مثل الولايات المتحدة التي تواجه صعوبات في التنبؤ الدقيق بالأعاصير المدمرة، وتركيا التي لم تستطع منع الزلازل على الرغم من تقدمها التكنولوجي، وأستراليا والهند اللتين تعانيان من الكوارث المناخية المتكررة، تؤكد أن الطبيعة أصبحت أكثر عنفًا وتقلبًا، وأن القدرة على التنبؤ الدقيق بكل تفاصيلها لا تزال تمثل تحديًا كبيرًا للعلم.
علم الأرصاد: بين الاحتمالية واليقين
من الضروري إدراك أن علم الأرصاد الجوية يعتمد على نماذج رياضية معقدة تستند إلى بيانات غير كاملة بطبيعتها. أي تغير طفيف في المتغيرات الجوية، مثل الضغط الجوي أو الرطوبة، كما حدث في حالة منخفض الإسكندرية، يمكن أن يؤدي إلى سيناريوهات مختلفة. حتى أكثر النماذج تطورًا على مستوى العالم لا تتجاوز دقتها في أفضل الأحوال نسبة 90%.
وبناءً على ذلك، فإن المطلوب ليس مساءلة الهيئة العامة للأرصاد الجوية بقدر ما هو تمكينها وتعزيز قدراتها من خلال:
1. الاستثمار العاجل في أنظمة رصد عالية الدقة: يشمل ذلك الأقمار الصناعية المتطورة ومحطات الرصد الساحلية المجهزة بأحدث التقنيات.
2. تعزيز التعاون الإقليمي والدولي: تبادل البيانات والخبرات مع مراكز التنبؤ العالمية للاستفادة من أحدث النماذج والمعلومات.
3. تحديث البنية التحتية الحضرية: معالجة مشكلة تآكل التربة الناتج عن تسرب المياه المالحة، والذي يساهم في انهيار المباني، من خلال حلول هندسية مستدامة.
4. تطوير خطط للتكيف الساحلي: تبني استراتيجيات تعتمد على “الحلول القائمة على الطبيعة”، مثل زراعة أشجار المانغروف، لتعزيز قدرة السواحل على امتصاص صدمات الأمواج والحد من التآكل.
بالإضافة إلى ذلك، من الضروري دعم البحث العلمي في مجال الأرصاد الجوية وتعزيز التعاون الدولي في هذا المجال، على غرار المشاريع التي تدعمها برامج الأمم المتحدة للبيئة.
الإسكندرية تغرق ببطء: نداء علمي عاجل
في سياق متصل، كشفت دراسة حديثة بقيادة العالم المصري الدكتور عصام حجي بالتعاون مع جامعة جنوب كاليفورنيا عن تسارع مقلق في معدلات انهيار المباني الساحلية في الإسكندرية. وقد ارتفع هذا المعدل من حالة واحدة سنويًا إلى 40 حالة خلال العقد الماضي، مع تسجيل 280 انهيارًا في العشرين سنة الأخيرة.
تعزو الدراسة هذه الظاهرة إلى تسرب مياه البحر المالحة إلى طبقات التربة تحت المباني، مما يؤدي إلى تآكل الأساسات. وقد أكد تحليل النظائر الذي أجراه الدكتور إبراهيم صالح من جامعة الإسكندرية أن المشكلة تكمن في التربة نفسها وليس في جودة البناء. بالإضافة إلى ذلك، أظهرت الدراسة تراجعًا في ساحل الإسكندرية بعشرات الأمتار خلال العقود الماضية، مع تآكل بعض المناطق بمعدل يصل إلى 3.6 متر سنويًا، نتيجة لارتفاع منسوب سطح البحر.
لمواجهة هذه الكارثة المحتملة، توصي الدراسة بتنفيذ حلول مستدامة قائمة على الطبيعة، مثل إنشاء كثبان رملية وحواجز نباتية على طول الساحل، بالإضافة إلى تطوير البنية التحتية للصرف الصحي وتحسين التخطيط العمراني. إن إنقاذ الإسكندرية، المدينة ذات الأهمية التاريخية والثقافية العالمية، يتطلب تحركًا عاجلًا من قبل الحكومة والمجتمع الدولي لدعم البحث العلمي وتنفيذ الحلول المستدامة.
وفي النهاية، فإن إن كارثة الإسكندرية في مايو 2025 تمثل صدمة مناخية في زمن الاحترار العالمي، وتؤكد على التحديات المتزايدة في التنبؤ الدقيق بالظواهر الجوية المتطرفة. على الرغم من الجهود المبذولة، فإن القيود التكنولوجية وتعقيدات التغيرات المناخية تجعل التنبؤ مهمة صعبة. ومع ذلك، فإن هذه الكارثة تمثل أيضًا دعوة للعمل الجماعي لتعزيز القدرات العلمية والتكنولوجية في مجال الأرصاد الجوية، وتحديث البنية التحتية، وتبني حلول مستدامة للتكيف مع الآثار المتزايدة للتغيرات المناخية. إن حماية المدن الساحلية مثل الإسكندرية يتطلب رؤية شاملة وتعاونًا وثيقًا بين الحكومات والعلماء والمجتمع المدني لبناء مستقبل أكثر أمانًا واستدامة في مواجهة الطبيعة التي تتحدى.
الكاتب: د. طارق قابيل
– أكاديمي، خبير التقنية الحيوية، كاتب ومحرر ومترجم علمي، ومستشار في الصحافة العلمية والتواصل العلمي.
– أستاذ جامعي متفرغ، وعضو هيئة التدريس بقسم التقنية الحيوية – كلية العلوم – جامعة القاهرة.
– مقرر لجنة الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية والدراسات الاستراتيجية ومؤشرات العلوم والتكنولوجي، وزميل أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
– أمين مجلس بحوث الثقافة والمعرفة، التابع لقطاع المجالس النوعية، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
– الباحث الرئيسي لمشروع خارطة طريق “مستقبل التواصل العلمي في مصر ودوره في الاعلام العلمي”، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مصر.
– عضو المجموعة الاستشارية العربية للعلوم والتكنولوجيا، التابعة للمكتب الإقليمي للأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث للدول العربية.
https://orcid.org/0000-0002-2213-8911
http://scholar.cu.edu.eg/tkapiel
tkapiel@sci.cu.edu.eg