العدالة المناخية في زمن المصالح: قراءة في خطاب غوتيريش وموازين القوى
جلسة 23 أبريل المفصلية تكشف عن عمق الانقسام العالمي حول مسؤوليات المناخ وتمويل الجنوب
عماد سعد:
– الصراع هو صراع مصالح وجودي: بين من يسعى لحماية نمط اقتصادي قائم على الوقود الأحفوري، ومن يكافح من أجل البقاء أمام كوارث مناخية تهدد وجوده المباشر جراء الآثار السلبية للوقود الأحفوري.
– البيئة أصبحت ساحة جديدة للتنافس الجيوسياسي، مع استخدام المناخ أداة للضغط والنفوذ.
– العدالة المناخية تتطلب اعترافًا بالمسؤولية التاريخية.
شبكة بيئة ابوظبي، بقلم عماد سعد، خبير الاستدامة والتغير المناخي، 15 يونيو 2025
في ظل تصاعد التحديات المناخية العالمية وتسارع تداعيات التغير المناخي على مختلف الأصعدة، جاءت الجلسة الخاصة التي دعا إليها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يوم 23 أبريل 2025 لتشكل محطة مفصلية في مسار الجهود الدولية الرامية لمواجهة الأزمة المناخية.
هذه الجلسة جمعت قادة 16 دولة تمثل خليطًا فريدًا من أكبر الاقتصادات المسببة للانبعاثات والدول الأكثر عرضة لتأثيرات تغير المناخ، مما منح الحوار بعدًا استثنائيًا من حيث تنوع الأصوات ومقاربات العمل المناخي العادل.
في كلمته الافتتاحية، أطلق غوتيريش تحذيرًا صريحًا بأن العالم بات على شفا كارثة بيئية إذا لم يتم اتخاذ خطوات فورية وجذرية للحد من ارتفاع درجات الحرارة إلى 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية. كما أشار إلى حجم التفاوت العميق بين المسؤولية التاريخية للدول الصناعية الكبرى ومعاناة الدول النامية من نتائج أزمة لم تكن طرفًا رئيسيًا في صناعتها.
اعتُبرت هذه الجلسة من بين الأكثر تنوعًا لأنها جمعت لأول مرة مجموعة مختارة من 16 دولة تمثل تنوعًا واسعًا في مستويات التنمية الاقتصادية، والقدرات المناخية، والتعرض لمخاطر التغير المناخي. تواجد قادة من أكبر الاقتصادات المسببة للانبعاثات مثل الولايات المتحدة والصين والهند والاتحاد الاوروبي، إلى جانب دول صغيرة ونامية مثل جزر المحيط الهادئ ودول إفريقيا جنوب الصحراء، هذا الاجتماع خلق مساحة نقاش فريدة، حيث تلاقت مصالح اقتصادية واستراتيجية مختلفة.
التنوع لم يكن جغرافيًا فحسب، بل شمل أيضًا اختلافات في الرؤى: دول تطالب بخفض سريع للانبعاثات، وأخرى تدعو إلى حقها في التنمية الاقتصادية العادلة. هذا الخليط جعل الجلسة أكثر واقعية وممثلة للتعقيد الفعلي الذي يعيشه العالم بشأن العمل المناخي، بدل الاقتصار على القوى التقليدية.
غوتيريش قدّم وصفًا قاتمًا وصادمًا لوضع أزمة المناخ، ولم يبالغ في وصفه، بل لامس الحق والحقيقة، مؤكدًا أن العالم دخل في “منطقة الخطر القصوى”. قال إن وتيرة الانبعاثات لا تزال أعلى مما ينبغي بكثير، وإن الظواهر المتطرفة من حرائق وفيضانات وجفاف “تضرب كل ركن من أركان الأرض بشكل غير مسبوق”. وأشار إلى أن السنوات الأخيرة سجلت أعلى درجات حرارة منذ بدء السجلات المناخية، مع تحذير واضح بأن “نافذة الحفاظ على هدف 1.5 درجة مئوية تغلق بسرعة خطيرة”. وقال “رغم التحديات والرياح المعاكسة التي يواجهها عالمنا، فإننا لا نملك ترف التراجع. علينا مواصلة البناء نحو مؤتمر الأطراف الثلاثين (COP30) في البرازيل، لأنه لا توجد لحظة يمكن أن نخسرها”.
بالنسبة للتحديات، شدد على أن الاستجابة العالمية لا تزال “بطيئة للغاية، وغير متكافئة”، مشيرًا إلى أن الالتزامات الحالية للدول إذا استمرت كما هي، ستقود العالم نحو ارتفاع درجات الحرارة بما يتراوح بين 2.5 و3 درجات مئوية، وهو سيناريو كارثي للبشرية.
طلب غوتيريش بشكل صريح من جميع الدول تحديث مساهماتها الوطنية (NDCs) بحلول نهاية العام الحالي بما يتماشى مع هدف إبقاء الاحترار عند 1.5 درجة مئوية. لم يكتفِ بالدعوة العامة، بل وضع معايير لما يجب أن تتضمنه هذه الخطط:
• أهداف أكثر طموحًا لخفض الانبعاثات بحلول 2030.
• خطط واضحة وعملية للخروج التدريجي من استخدام الفحم والنفط والغاز.
• تعزيز كبير للاستثمار في الطاقة المتجددة والكفاءة الطاقية.
• الالتزام بسياسات تتعلق بالعدالة الاجتماعية لضمان أن الانتقال لا يترك أحدًا خلفه.
كما أكد أن الدول الكبرى المسببة للانبعاثات يجب أن تكون قدوة وتتحمل نصيبها العادل من الجهود.
كما ركز غوتيريش على أفريقيا وجزر المحيط الهادئ (بما فيها دول الجنوب) لأنها تمثل وجه الأزمة المناخية بشكل صارخ:
• أفريقيا، رغم أنها لا تسهم سوى بنحو 5 % من الانبعاثات العالمية التاريخية، إلا أنها تتحمل وطأة الجفاف، التصحر، وارتفاع درجات الحرارة.
• جزر المحيط الهادئ مهددة بارتفاع مستويات البحار، مما يجعل بقاء بعض الدول عليها مهددًا في العقود المقبلة.
أما عن الفجوة في الاستثمارات: أقل من 2% فقط من استثمارات الطاقة المتجددة تذهب إلى القارة الأفريقية، مع أن القارة تمتلك واحدًا من أعلى إمكانات الطاقة الشمسية والرياح في العالم.
غوتيريش وصف هذا الوضع بأنه “ظلم مضاعف”، داعيًا إلى إصلاحات مالية دولية عاجلة، وتوجيه استثمارات ضخمة إلى الجنوب العالمي.
بدورها أعلنت الصين في خطاب مهم خلال الجلسة استعدادها لتعجيل موعد ذروة انبعاثاتها الكربونية، الذي كان محددًا لعام 2030، مع ترك المجال مفتوحًا لإمكانية تحقيقه قبل هذا التاريخ.
بالإضافة إلى ذلك، التزمت بمراجعة مساهمتها الوطنية (NDCs) لرفع أهدافها المتعلقة بنسبة الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة الوطني إلى مستويات تتجاوز 40% بحلول عام 2030، مقارنة بالتعهد السابق (الذي كان أكثر تحفظًا).
هذه الخطوة تعد مهمة لأن الصين مسؤولة عن نحو أكثر من 30% من الانبعاثات العالمية، وأي تحرك من طرفها له أثر كبير في معادلة المناخ العالمية.
كما هو واضح بأن الوصول لهدف 1.5 درجة أصبح أمراً “شديد الصعوبة” ولكنه “ممكن نظرياً”، كما أشار غوتيريش. إذا التزمت الدول فعليًا بتحديث خططها وفقًا لما طُلب منها وطبقت التخفيضات المطلوبة في العقد الحالي، فقد يتم الحفاظ على الأمل بحدود الاحترار المقبولة. لكن غوتيريش حذر أن أي تأخير إضافي، أو استمرار التوسع في الاستثمارات في الوقود الأحفوري، سيجعل تحقيق هذا الهدف مستحيلًا علميًا تقريبًا.
بعبارة أخرى: هذه الخطط تمثل “الفرصة الأخيرة”، وإلا فإننا نتجه نحو مستقبل بارتفاع كارثي في درجات الحرارة سيؤدي إلى فقدان أنظمة بيئية رئيسية وانهيارات اقتصادية وموجات نزوح جماعي.
بكل وضوح سوف نشهد تزايد استخدام قضية المناخ كأداة ضغط أو تنافس جيوسياسي بين القوى الكبرى بالعالم، خذ مثلاً الولايات المتحدة تسعى لاستخدام قيادتها المناخية لتثبيت نفوذها الدولي وتحدي الصين، عبر مبادرات مثل “نادي المناخ” وفرض معايير تصدير صديقة للبيئة. في حين الصين بدورها تقدم تمويلاً ضخماً للطاقة النظيفة للدول النامية ضمن استراتيجيتها الجيوسياسية لموازنة النفوذ الأمريكي.
أما الاتحاد الأوروبي فهو يستخدم “آلية تعديل الكربون على الحدود” (CBAM) كسلاح اقتصادي لفرض معايير مناخية على شركائه التجاريين. فالبيئة أصبحت ساحة جديدة للتنافس الجيوسياسي، مع استخدام المناخ أداة للضغط والنفوذ.
إن تصريحات غوتيريش أعادت تأكيد ما تصفه الدول النامية منذ عقود: أن العدالة المناخية تتطلب اعترافًا بالمسؤولية التاريخية. هو شدد على أن الدول الغنية “مدينة” للدول النامية، ليس فقط أخلاقيًا، بل ماليًا وتقنيًا.
هذا الطرح يعمّق شعور الدول النامية بعدم العدالة، ويزيد من الضغوط الدبلوماسية لفرض آليات تعويض وتمويل حقيقية وليس مجرد وعود جوفاء.
حتى اللحظة، لا يزال الالتزام السياسي من الدول الغنية لدعم التحول العادل في الجنوب العالمي محدودًا جدًا مقارنة بحجم التحدي. رغم تعهدات سابقة بتقديم 100 مليار دولار سنويًا كمساعدات مناخية، لم يتم الوفاء الكامل بهذا الالتزام، بل وأحيانًا يُعاد تدوير التمويل التنموي ليحسب كمناخ، مما يخفي ضعف التدفق المالي الحقيقي.
برامج الدعم غالبًا مشروطة وموجهة وفق مصالح الجهات المانحة، مما يعمّق فقدان الثقة بين الشمال والجنوب العالمي. هناك جهود فردية إيجابية لعدد من دول العالم، لكنها غير كافية لتغيير المسار العام حول العالم.