نداء الأرض في السابع عشر من يونيو.. “حماية الأرض من أجل مستقبل أخضر ومستدام”
شبكة بيئة ابوظبي، د. طارق قابيل (*)، القاهرة، جمهورية مصر العربية، 18 يونيو 2025
في السابع عشر من يونيو من كل عام، تتحد دول العالم للاحتفال باليوم العالمي لمكافحة التصحر والجفاف. هذه المناسبة، التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1994، ليست مجرد يوم احتفالي في التقويم الدولي، بل هي صرخة استغاثة سنوية يطلقها كوكبنا، وتذكير جماعي بواحد من أكبر التحديات الوجودية التي تواجه البشرية في القرن الحادي والعشرين. إنها قصة الأراضي التي تفقد روحها، والتربة التي تنزف خصوبتها، والمياه التي تتلاشى من ينابيعها.
التصحر، وتدهور الأراضي، والجفاف، هي ليست مجرد ظواهر بيئية معزولة؛ بل هي أزمة ثلاثية الأبعاد مترابطة بعمق، تُهدد الأمن الغذائي العالمي، وتُشعل فتيل النزاعات الاجتماعية، وتُفاقم من وطأة تغير المناخ. إنها حرب صامتة تُشن على سبل عيش أكثر من 3.2 مليار إنسان، وتدفع النظم البيئية نحو نقطة اللا عودة. ولكن في قلب هذه الأزمة، يبرز هذا اليوم كمنارة أمل، ليؤكد أن استعادة الأرض وصيانتها ليس حلماً طوباوياً، بل هو خيار واقعي ومسؤولية مشتركة تقع على عاتق الحكومات والعلماء والمجتمعات والأفراد على حد سواء.
يستعرض هذا المقال الأبعاد العلمية والسياسية والاجتماعية لهذه الأزمة، مستلهماً من شعار هذا العام “حماية الأرض من أجل مستقبل أخضر ومستدام”. سنغوص في جذور المشكلة، ونستعرض إرث رواد عرب مثل الدكتور محمد عبد الفتاح القصاص الذين كانوا سباقين في دق ناقوس الخطر، ونحلل الاستجابات العالمية والوطنية الرائدة كمشروع السور الأخضر العظيم والجهود المصرية المتكاملة. كما سنسلط الضوء على التحولات المؤسسية الهامة، مثل انتقال تبعية اتفاقية مكافحة التصحر في مصر، كنموذج يوضح تطور الفكر البيئي العالمي. وأخيراً، سنرسم خارطة طريق للمستقبل، مدعومة بالعلوم والتكنولوجيا ومشاركة المجتمع، لنبني معاً مستقبلاً لا تذبل فيه أرضنا.
الأزمة العالمية بالأرقام.. كوكب تحت الضغط
لفهم حجم التحدي، لا بد من لغة الأرقام الصادمة التي تقدمها تقارير الأمم المتحدة لعام 2024، والتي ترسم صورة قاتمة لواقعنا البيئي:
1. تدهور الأراضي (Land Degradation): هو العدو الخفي الذي يلتهم بصمت أساس الحياة. حالياً، يعاني ما يقرب من 40% من مساحة اليابسة على كوكبنا من شكل من أشكال التدهور. هذا لا يعني فقط فقدان الأراضي الزراعية، بل تدهور الغابات والمراعي والأراضي الرطبة. سنوياً، يفقد العالم ما يعادل 24 مليار طن من التربة الخصبة، وهي كمية تكفي لزراعة مساحات شاسعة كانت قادرة على إطعام الملايين. هذا النزيف المستمر للتربة هو بمثابة تآكل بطيء لجسد الكوكب.
2. التصحر (Desertification): هو النتيجة النهائية لتدهور الأراضي في المناطق الجافة، حيث تتحول الأراضي المنتجة إلى صحاري قاحلة. هذه الظاهرة لا تعني زحف الصحاري الموجودة طبيعياً، بل هي “موت الأراضي” في عقر دارها. يهدد التصحر بشكل مباشر سبل عيش أكثر من مليار شخص في حوالي 100 دولة، معظمهم في الدول النامية التي تعتمد بشكل أساسي على الزراعة والرعي.
3. ندرة المياه والجفاف (Water Scarcity and Drought): هما وجهان لعملة واحدة، يتسارعان بفعل تغير المناخ. يعاني اليوم أكثر من 40% من سكان العالم من شح المياه العذبة، وهو رقم مرشح للزيادة بشكل كبير. الأخطر من ذلك هو تكرار موجات الجفاف الحادة؛ فمنذ عام 2000، ازداد تواتر ومدة موجات الجفاف بنسبة 29%. وبحلول عام 2050، تتوقع الأمم المتحدة أن 75% من سكان العالم قد يكونون مهددين بتأثيرات الجفاف، مما يجعله الخطر الطبيعي الأكثر تأثيراً على البشر.
إن هذه الأرقام لا تمثل مجرد إحصائيات، بل هي قصص لمجتمعات تُهجّر، واقتصادات تنهار، وتنوع بيولوجي يُفقد إلى الأبد. إنها الدافع الرئيسي الذي يجعل من اليوم العالمي لمكافحة التصحر قضية إنسانية ملحة.
فهم الجذور.. كيف تتحول الأرض الخصبة إلى صحراء قاحلة؟
التصحر ليس قدراً محتوماً أو مجرد عملية طبيعية، بل هو في معظمه نتيجة لتفاعل معقد بين أنشطة بشرية غير مستدامة وضغوط مناخية متزايدة.
1. البصمة البشرية: تدمير ذاتي منظم
الإنسان هو المحرك الرئيسي لتدهور الأراضي في العصر الحديث. وتتمثل أبرز ممارساته المدمرة في:
• الزراعة المكثفة وغير المستدامة: في سباق محموم لتحقيق الأمن الغذائي، تستنزف الممارسات الزراعية الحديثة مغذيات التربة بمعدل ينذر بالخطر. تشير التقديرات إلى أن الزراعة المكثفة مسؤولة عن استنزاف 30% من مغذيات التربة سنويًا، مما يحولها إلى تربة فقيرة وغير قادرة على الإنتاج.
• إزالة الغابات والرعي الجائر: تعمل الغابات كدرع واقٍ للتربة، حيث تثبتها جذور الأشجار وتحميها من التعرية بفعل الرياح والمياه. إزالة الغابات لأغراض التوسع الزراعي أو العمراني أو قطع الأخشاب يعري التربة ويجعلها فريسة سهلة للتعرية. كذلك، يؤدي الرعي الجائر إلى إزالة الغطاء النباتي وتصلب سطح التربة، مما يمنع تسرب المياه ويقلل من خصوبتها.
• الري غير المستدام: بينما يعتبر الري ضرورياً للزراعة في المناطق الجافة، فإن الأساليب الخاطئة يمكن أن تكون كارثية. يؤدي الري بالغمر واستخدام مياه ذات ملوحة عالية إلى تراكم الأملاح في الطبقة السطحية للتربة، وهي عملية تعرف بـالتملح. عالمياً، يعاني حوالي 20% من الأراضي المروية من درجات متفاوتة من التملح، مما يجعلها غير صالحة للزراعة.
2. تغير المناخ: المُسرِّع الصامت
إذا كانت الأنشطة البشرية هي التي تضغط على الزناد، فإن تغير المناخ هو الذي يسرّع انطلاق الرصاصة. يعمل تغير المناخ كمضاعف للتهديدات، حيث:
• يزيد من تواتر وشدة الجفاف: ارتفاع درجات الحرارة يؤدي إلى زيادة معدلات التبخر، مما يقلل من رطوبة التربة ويزيد من احتياجات النباتات المائية.
• يسبب ظواهر جوية متطرفة: العواصف الشديدة والفيضانات المفاجئة، التي أصبحت أكثر شيوعاً، تؤدي إلى جرف الطبقة السطحية الخصبة من التربة في غضون ساعات. ما حدث في السودان عام 2024 من فيضانات مدمرة هو مثال حي على كيف يمكن لظاهرة متطرفة واحدة أن تقضي على أراضٍ زراعية واسعة.
3. دورة التصحر المدمرة: حلقة مفرغة
يمكن تلخيص آلية التصحر في دورة مدمرة تتغذى على نفسها، كما يوضح الجدول التالي:
النتيجة الآلية المرحلة
جفاف التربة وفقدان تماسكها، مما يجعلها عرضة للتعرية. زراعة مفرطة، رعي جائر، إزالة الغطاء النباتي. الاستغلال البشري الأولي
فقدان كامل للطبقة السطحية الغنية بالمواد العضوية. الرياح القوية والفيضانات المفاجئة تجرف التربة. التعرية المتسارعة
انخفاض الإنتاج الزراعي بنسبة قد تصل إلى 50% أو أكثر. استنزاف المغذيات الأساسية وعدم قدرة التربة على الاحتفاظ بالماء. فقدان الخصوبة والإنتاجية
تحول الأرض بشكل دائم إلى نظام بيئي صحراوي أو شبه صحراوي. انخفاض هطول الأمطار وزيادة التبخر بسبب قلة الغطاء النباتي. التغير المناخي المحلي
أصوات من الطليعة.. إرث الرواد العرب في مواجهة الصحراء
في خضم هذه التحديات، برزت أصوات علمية عربية كانت لها الريادة في فهم وتوصيف أزمة التصحر. ويأتي على رأس هؤلاء الأستاذ الدكتور محمد عبد الفتاح القصاص، الذي لم يكن مجرد عالم بيئة، بل كان ضمير الصحراء وصوتها الذي سُمع في المحافل الدولية.
1. الدكتور محمد القصاص: صوت الصحراء الذي سُمع عالميًا
يعتبر الأستاذ الدكتور القصاص (1921-2012)، أستاذ علم البيئة النباتية بكلية العلوم جامعة القاهرة، أحد الآباء المؤسسين لعلم البيئة في العالم العربي. لم تقتصر مساهماته على الجانب الأكاديمي، بل امتدت لتشمل صياغة السياسات الدولية:
• رائد علمي: كان من أوائل العلماء في العالم الذين وضعوا نماذج علمية دقيقة لرصد وتقييم تدهور الأراضي في المناطق الجافة، حيث استخدم البيانات البيئية طويلة الأجل لوضع خرائط تدهور الأراضي في الوطن العربي، والتي أصبحت مرجعاً أساسياً لواضعي السياسات.
• مهندس السياسات الدولية: بصفته عضواً ثم رئيساً للجنة العلمية لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (UNCCD)، لعب دوراً محورياً في توجيه سياسات الأمم المتحدة، ونجح في دمج الاعتبارات البيئية ضمن السياسات الزراعية والتنموية للدول النامية.
• ناشر الوعي: منذ سبعينيات القرن الماضي، عمل القصاص بلا كلل على تعزيز المفهوم الشامل للبيئة لدى الحكومات العربية. كان من الأصوات الأولى التي أكدت أن التصحر ليس مجرد ظاهرة طبيعية، بل هو نتاج تفاعل خاطئ بين الإنسان وبيئته.
بفضل جهوده، أصبحت مصر لاعباً نشطاً في المؤتمرات البيئية الدولية، وساهمت رؤيته في تطوير برامج إقليمية هامة مثل برنامج جامعة الدول العربية للتنمية المستدامة في المناطق الجافة.
من السياسات إلى الممارسة.. استجابات عالمية ووطنية
لمواجهة هذا التحدي الهائل، ظهرت مبادرات طموحة على المستويين العالمي والوطني، تقدم دروساً قيمة في إمكانية استعادة الأراضي.
1. حلم قاري: السور الأخضر العظيم في أفريقيا
تعتبر مبادرة السور الأخضر العظيم واحدة من أكثر المشاريع البيئية طموحاً في تاريخ البشرية.
• الفكرة: زراعة حزام أخضر من الأشجار والنباتات المحلية يمتد بطول 8,000 كيلومتر عبر القارة الأفريقية، من السنغال غرباً إلى جيبوتي شرقاً، بهدف وقف زحف الصحراء الكبرى جنوباً.
• الهدف بحلول 2030: استعادة 100 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة، وتوفير 10 ملايين فرصة عمل خضراء، وامتصاص 250 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون.
• النجاحات الملموسة: على الرغم من التحديات، حققت المبادرة نجاحات ملهمة. ففي إثيوبيا، تم استعادة 15 مليون هكتار من الأراضي. وفي السنغال، زُرع أكثر من 11 مليون شجرة.
• التحديات: لا تزال المبادرة تواجه عقبات كبيرة، أهمها ضعف التمويل (لم يتم توفير سوى جزء صغير من التمويل المطلوب)، وانعدام الأمن والاستقرار السياسي في بعض دول الساحل.
2. مصر في خط الدفاع الأول: استراتيجية وطنية متكاملة
تقع مصر في قلب حزام الأراضي الجافة، مما يجعلها في خط المواجهة المباشر مع التصحر. ورغم هذا الموقع الجغرافي الحرج، تتبنى مصر استراتيجيات متعددة الأوجه لمواجهة التحدي:
• مشروع حياة كريمة: هذه المبادرة التنموية العملاقة لا تقتصر على تحسين البنية التحتية، بل تدمج بعداً بيئياً قوياً، حيث تم إدخال تقنيات الري بالتنقيط والزراعة الذكية في أكثر من 120 قرية، مما يقلل من هدر المياه ويحسن صحة التربة.
• مبادرة 100 مليون شجرة: تهدف هذه المبادرة الرئاسية الطموحة إلى زيادة المساحات الخضراء، مما يساهم في تقليل درجات الحرارة في المناطق الحضرية، ومكافحة تآكل التربة، وتحسين جودة الهواء.
• البحث العلمي والتطوير: أُنشئ مركز التميز لمكافحة التصحر بالشراكة مع جامعة الإسكندرية، والذي يعمل على تطوير حلول مبتكرة ومحلية، مثل تقنيات حصاد مياه الضباب في المناطق الساحلية.
• الإطار التشريعي: يوفر قانون البيئة رقم 4 لسنة 1994 وتعديلاته إطاراً قانونياً صارماً لحماية الأراضي، حيث يفرض غرامات تصل إلى 500 ألف جنيه على الممارسات التي تؤدي إلى تدهور التربة الزراعية.
المعضلة المصرية والفجر الجديد..
يمثل تاريخ إدارة ملف التصحر في مصر دراسة حالة فريدة تعكس تطور الفكر البيئي العالمي. ففي عام 1994، وبناءً على توصية من البروفيسور القصاص نفسه، أُسندت نقطة الاتصال الوطنية لاتفاقية مكافحة التصحر إلى مركز بحوث الصحراء التابع لوزارة الزراعة.
منطق القصاص: لماذا الزراعة؟
كان قرار القصاص آنذاك مدعوماً برؤية علمية وعملية واضحة:
1. الخبرة التطبيقية: امتلك مركز بحوث الصحراء تراكمًا معرفيًا وخبرة ميدانية لا مثيل لها في إدارة النظم البيئية الجافة، من أبحاث استصلاح الأراضي إلى تطوير سلالات مقاومة للجفاف.
2. التركيز على التنمية الريفية: رأى القصاص أن التصحر قضية إنمائية مرتبطة بسبل عيش المزارعين والرعاة، مما يجعل وزارة الزراعة هي الجهة الأنسب للتعامل معها بشكل مباشر.
3. السياق الدولي: في تسعينيات القرن الماضي، كان الخطاب العالمي حول التصحر يركز بشكل كبير على “مكافحة الفقر الريفي والأمن الغذائي”، قبل أن يندمج لاحقًا بشكل كامل في الخطاب المناخي.
التصحر” البيروقراطي للاتفاقية
على الرغم من الإنجازات التي تحققت، واجهت الاتفاقية تحت مظلة وزارة الزراعة تحديات هيكلية. وكما أشار بعض المحللين، أصاب الاتفاقية نوع من “التصحر البيروقراطي”، حيث تحولت إلى وحدة إدارية ضمن هيكل وزاري ضخم، مما أدى إلى:
• ضعف التمويل: حصلت مشروعات مكافحة التصحر على نسبة ضئيلة من ميزانية الزراعة مقارنة بالقطاعات الأخرى.
• الانفصال عن السياق البيئي الشامل: ظلت سياسات مكافحة التصحر معزولة نسبيًا عن ملفي تغير المناخ والتنوع الحيوي، اللذين كانت تديرهما وزارة البيئة، رغم الترابط العضوي بين هذه القضايا الثلاث.
العودة إلى البيئة: تطور ضروري وفجر جديد
في مايو 2025، جاء إعلان الأمين العام للأمم المتحدة عن تعيين الدكتورة ياسمين فؤاد، وزيرة البيئة المصرية، أمينة تنفيذية جديدة لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر. هذا التعيين، بالإضافة إلى عودة الملف تنظيمياً إلى وزارة البيئة، لا يمثل قطيعة مع إرث القصاص، بل هو تطور طبيعي وتتويج لرؤيته في ضوء المستجدات العالمية.
• التكامل البيئي: أصبح العالم يدرك أن التصحر جزء لا يتجزأ من “أزمة كوكبية ثلاثية” (المناخ، فقدان التنوع الحيوي، تدهور الأراضي). إدارة هذه الملفات تحت مظلة واحدة (وزارة البيئة) يضمن التكامل والفعالية.
• الدبلوماسية البيئية المصرية: يعكس هذا التعيين الدور القيادي الذي لعبته مصر في الدبلوماسية البيئية، خاصة بعد رئاستها الناجحة لمؤتمر المناخ COP27. لقد نجحت مصر في ربط قضايا التكيف مع تغير المناخ بقضايا استعادة الأراضي وأمن المياه.
• التمويل الدولي: يتجه التمويل المناخي العالمي (مثل صندوق المناخ الأخضر) بشكل متزايد نحو دعم المشروعات المتكاملة التي تعالج المناخ والتنوع الحيوي والأراضي معًا، مما يجعل وزارة البيئة هي الأقدر على جذب هذا التمويل.
لو كان البروفيسور القصاص بيننا اليوم، لربما ابتسم، ليس فقط فرحاً بتكريم أحد أبناء مصر بهذا المنصب الدولي الرفيع، بل أيضاً لأنه يرى رؤيته تتطور لتواكب تعقيدات العصر. فالعودة إلى البيئة ليست إلغاءً لدور الزراعة، بل هي دعوة لشراكة أفقية أقوى بين الوزارتين، تجمع بين الخبرة الميدانية للزراعة والرؤية السياسية المتكاملة للبيئة.
ترسانة الأمل.. حلول علمية ومجتمعية
المعركة ضد التصحر ليست خاسرة. فالبشرية تمتلك اليوم ترسانة من الحلول العلمية والتكنولوجية والمجتمعية القادرة على إحداث الفارق.
• الزراعة الحافظة (Conservation Agriculture): تقنية بسيطة تقوم على عدم حراثة التربة، وإبقائها مغطاة ببقايا المحاصيل، وتنويع المحاصيل. هذه التقنية تحافظ على بنية التربة وخصوبتها وتقلل من استهلاك المياه بنسبة 30%.
• التجديد الطبيعي بقيادة المزارعين (FMNR): بدلاً من زراعة أشجار جديدة، تعتمد هذه الطريقة على حماية ورعاية الجذور والبراعم الحية للأشجار التي تم قطعها سابقاً. نجحت هذه التقنية بشكل مذهل في النيجر، حيث تم استصلاح 5 ملايين هكتار بتكلفة منخفضة للغاية.
• الذكاء الاصطناعي والأقمار الصناعية: تُستخدم اليوم تقنيات متطورة لرصد تدهور الأراضي والتنبؤ بموجات الجفاف. في مصر، يُستخدم نظام “أيراس” (AIRAS) لتحليل صور الأقمار الصناعية وتزويد المزارعين بإنذار مبكر حول الجفاف.
• دور الأفراد والمجتمعات: التغيير الحقيقي يبدأ من القاعدة. مبادرات مثل حملة “شجرها” التطوعية في مصر، التي نجحت في حشد آلاف الشباب لزراعة الأشجار، تثبت أن الوعي المجتمعي والمشاركة الفعالة هما محركان أساسيان للنجاح.
الطريق إلى الأمام.. نحو عالم محايد من تدهور الأراضي
وضعت الأمم المتحدة هدفاً طموحاً ضمن أهداف التنمية المستدامة، وهو تحقيق الحياد في تدهور الأراضي (Land Degradation Neutrality – LDN) بحلول عام 2030. هذا يعني تحقيق توازن بين مساحة الأراضي التي تتدهور سنوياً ومساحة الأراضي التي يتم استعادتها أو استصلاحها. لتحقيق هذا الهدف، ترتكز خارطة الطريق العالمية على:
1. التمويل المبتكر: إطلاق صناديق استثمارية مثل صندوق “أرض الأمل” لجذب استثمارات القطاع الخاص في مشروعات استعادة الأراضي.
2. التقنيات الذكية: تعميم استخدام أنظمة الإنذار المبكر بالجفاف والري الذكي.
3. الحوكمة المحلية: تمكين المجتمعات المحلية والقرى ومنحها حقوق إدارة مواردها الطبيعية، لأنهم الخط الأول للدفاع عن الأرض.
الأرض ليست إرثًا من الماضي، بل وعدًا للمستقبل
إن اليوم العالمي لمكافحة التصحر والجفاف هو أكثر من مجرد مناسبة؛ إنه نداء عاجل ومسؤولية وجودية تقع على عاتق جيلنا. إن حماية الأرض من التدهور ليست خياراً يمكن تأجيله، بل هي شرط أساسي لاستمرار الحياة، وتحقيق السلام، وضمان مستقبل مستدام.
لقد أثبتت جهود مصر الحثيثة، وطموح مبادرات مثل السور الأخضر العظيم، والإرث العلمي الخالد لعلماء أفذاذ مثل الدكتور محمد عبد الفتاح القصاص، أن التصحر يمكن مقاومته وهزيمته عندما تتوافر الإرادة السياسية، وعندما نُطلق العنان للعلم والابتكار، والأهم من ذلك، عندما نمنح المجتمعات المحلية الأدوات اللازمة لتكون هي حارسة أرضها.
دعونا لا نكون مجرد متفرجين على تآكل كوكبنا. دعونا نغرس اليوم شجرة، ونحمِ قطعة من التربة، وننشر وعياً بين أهلنا وأصدقائنا. فلنعمل معًا، حكومات ومجتمعات وأفرادًا، لنفي بوعدنا للأجيال القادمة، ونبني معًا مستقبلاً لا يذبل، مستقبلاً تكون فيه الأرض خضراء ومزدهرة ومستدامة.
المصادر:
• تقارير الأمم المتحدة (UNCCD, FAO, UNEP) لعام 2024.
• الموقع الرسمي لوزارة البيئة المصرية.
• المبادرة الأفريقية للسور الأخضر العظيم (GGW).
• أبحاث ومنشورات الأستاذ الدكتور محمد عبد الفتاح القصاص.
• تقارير مؤتمرات الأطراف لاتفاقيات ريو الثلاث (المناخ، التنوع الحيوي، التصحر).
• دراسات علمية وتقارير منشورة في المجلات البيئية الدولية والبنك الدولي.
الكاتب: د. طارق قابيل
– أكاديمي، خبير التقنية الحيوية، كاتب ومحرر ومترجم علمي، ومستشار في الصحافة العلمية والتواصل العلمي.
– أستاذ جامعي متفرغ، وعضو هيئة التدريس بقسم التقنية الحيوية – كلية العلوم – جامعة القاهرة.
– مقرر لجنة الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية والدراسات الاستراتيجية ومؤشرات العلوم والتكنولوجي، وزميل أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
– أمين مجلس بحوث الثقافة والمعرفة، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
– الباحث الرئيسي لمشروع خارطة طريق “مستقبل التواصل العلمي في مصر ودوره في الاعلام العلمي”، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مصر.
– السفير الإقليمي للاقتصاد الدائري والمواد المستدامة لمنظمة “سستينابلتي جلوبال” (Sustainability Global)، فينا، النمسا.
– عضو المجموعة الاستشارية العربية للعلوم والتكنولوجيا، التابعة للمكتب الإقليمي للأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث للدول العربية.
https://orcid.org/0000-0002-2213-8911
http://scholar.cu.edu.eg/tkapiel
tkapiel@sci.cu.edu.eg