الأرض التي تُنصت… فلسفة الزراعة قبل العلم

سلسلة «خواطر وراثية” تأملات في العلاقة بين الإنسان والجينات والحياة، الحلقة رقم (01)

شبكة بيئة أبوظبي، بقلم الدكتور قاسم زكي (*)، جامعة المنيا، جمهورية مصر العربية 08 أكتوبر 2025
قبل أن تُعرف الزراعة كعلم، كانت حياةً وفلسفةً، وصلاةً صامتة بين الإنسان والأرض. كان الفلاح المصري القديم يحرث التربة كما يفتح كتابًا مقدسًا، يسمع أنينه حين يعطش، وابتسامته حين يرتوي. لم يكن يرى في الزراعة مجرد وسيلة للبقاء، بل طريقًا للفهم، وسرًّا من أسرار التوازن بين السماء والطين، بين المطر والعرق، بين البذرة والبعث.

الأرض التي تُنصت
الأرض لا تتكلم، لكنها تُنصت. تسمع وقع الخطوات التي تعرفها، وتشم رائحة اليد التي اعتادت حنوّ الزارع. حين يقترب منها الجاهل تلتزم الصمت، لكنها تُفيض عطاياها لمن يعرف لغتها. تلك اللغة لم تُكتب في الكتب، بل وُلدت في الممارسة، في صبر الفلاح على الفصول، وفي إيمانه بأن العطاء لا يأتي إلا لمن يفهم الإيقاع الخفي للطبيعة.
الزراعة في جوهرها حوار بين كائنين حيين: الإنسان والنبات. كلاهما يتنفس ويخاف ويرجو. كلاهما يسعى إلى حياة أفضل. وإذا كانت النباتات لا تتكلم بأصوات، فإنها ترسل إشاراتها عبر أوراقها وجذورها وروائحها. الأرض تترجم هذه الرسائل، والفلاح هو الوسيط الذي يفهمها.

الزراعة كفعل فلسفي
الزراعة ليست مجرد إنتاج للطعام، بل فعل فلسفي يعيد الإنسان إلى أصله. فحين يضع الفلاح البذرة في التراب، يوقن أنه لن يجني الثمار في اليوم التالي، لكنه يزرع مع الأمل إيمانًا بأن الغد آتٍ. تلك الثقة في المستقبل هي ما يجعل الزراعة أمّ العلوم كلّها.
ففيها يتعلم الإنسان معنى الزمن، ودروس الصبر، وفلسفة الانتظار. وكل بذرة تُنبت درسًا في الحكمة أكثر مما تُنبت نباتًا.
في زمن التكنولوجيا المتسارعة، ننسى أحيانًا أن الزراعة هي المدرسة الأولى التي علّمت الإنسان معنى “التطور” الحقيقي، حين اكتشف أن تحسين المحصول لا يأتي بالعنف، بل بالفهم، وأن السيطرة على الطبيعة تبدأ باحترامها لا بقهرها.

خاتمة: الأرض تتذكر
الأرض لا تنسى من أحبها. قد تجفّ يومًا أو تتعب، لكنها تحفظ أثر الأقدام التي مشَت عليها بحب، وتعيد للأوفياء ثمارهم ولو بعد حين. ولهذا كانت الزراعة — قبل أن تصبح علمًا — فلسفةَ الإصغاء إلى الأرض، لا التسلّط عليها. من يفهم ذلك، يعرف أن أول درس في الزراعة هو التواضع، وآخره هو الامتنان.

(*) دكتور قاسم زكي
أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة، جامعة المنيا؛ ورئيس اللجنة الوطنية للعلوم الوراثية بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، والرئيس الأسبق للجمعية الأفريقية لعلوم المحاصيل، عضو المجلس العالمي للنبات (GPC)؛ عضو اتحاد كتاب مصر، وعضو الرابطة العربية للإعلاميين العلميين.

Loading

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

وداعًا جيمس واتسون… الرجل الذي قرأ لغة الحياة بين المجد والجدل

سلسلة “خواطر وراثية” تأملات في العلاقة بين الإنسان والجينات والحياة، الحلقة رقم (06) شبكة بيئة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *