وراثة الحياة… من البذرة إلى الإنسان

سلسلة «خواطر وراثية” تأملات في العلاقة بين الإنسان والجينات والحياة، الحلقة رقم (02)

شبكة بيئة أبوظبي، بقلم الدكتور قاسم زكي (*)، جامعة المنيا، جمهورية مصر العربية، الأحد 12 أكتوبر 2025م

لغة واحدة تجمع الكائنات
حين نتأمل شجرة باسقة أو إنسانًا يمشي على الأرض أو طائرًا يشق السماء، يبدو كل كائن مختلفًا عن الآخر في الشكل والوظيفة. لكنّ العلم اكتشف أن هناك لغة وراثية واحدة توحّد جميع أشكال الحياة على كوكب الأرض، مكتوبة بالحروف ذاتها: A وT وC وG.؛ هي الشفرة الوراثية التي تسري في عروق النبات كما تسري في دم الإنسان، وفيها تحفظ الطبيعة أسرار الاستمرار والتنوع معًا.

خيط واحد من الحياة
عندما فُكّ شفـر الجينوم البشري، وُجد أنه يشترك في الكثير من الجينات مع الكائنات الأخرى: فـنصف جيناتنا تقريبًا تتشابه مع جينات نبات الأرز، وقرابة 60٪ منها موجودة أيضًا في ذبابة الفاكهة!، هذا يعني أن كل الكائنات تنحدر من أصل واحد للحياة، وأن ما نراه من اختلافات هائلة ما هو إلا تنويعات على لحن وراثي قديم تعزفه الطبيعة منذ بلايين السنين.

الجينات لا تعرف الحدود
الجينات لا تعرف فواصل بين النبات والحيوان، ولا بين الإنسان والميكروب. فالقوانين التي تتحكم في انقسام خلية القمح هي نفسها التي تدير انقسام خلية الكبد في الإنسان. وحتى آليات إصلاح الحمض النووي (DNA Repair) واحدة تقريبًا في كل الكائنات، من أبسطها إلى أعقدها. هنا تتجلى وحدة الخلق ودقة التصميم التي تربط كل أشكال الحياة بخيط واحد من الإرادة الإلهية.

وراثة النبات… أساس البقاء
منذ أن بدأ الإنسان الزراعة، وهو يطبّق علم الوراثة دون أن يدري. فحين اختار البذور الجيدة ليزرعها عامًا بعد عام، كان يقوم بعملية انتخاب وراثي طبيعي، حافظ بها على بقاء الصفات المرغوبة. واليوم، طوّر العلماء هذه الفكرة القديمة بوسائل حديثة مثل زراعة الأنسجة والهندسة الوراثية والذكاء الاصطناعي في التربية النباتية، لإنتاج محاصيل أكثر مقاومة للجفاف والأمراض.

الإنسان والنبات… شراكة وراثية
حين نتنفس الأكسجين الذي ينتجه النبات، أو نتغذى على ثماره، فإننا نكمل دورة الحياة نفسها التي تشترك فيها الجينات كلها.
إنها علاقة تبادلية عميقة:
• النبات يمدّنا بالحياة عبر التمثيل الضوئي.
• ونحن نمنحه ثاني أكسيد الكربون ليواصل البناء والنماء.
• وفي كل ذلك، تعمل الشفرة الوراثية بصمت لتنسّق هذا التبادل المذهل الذي يحفظ الحياة على الأرض.

وحدة الخلق… تأمل علمي
في ضوء هذه الحقائق، لم يعد ممكناً النظر إلى الكائنات على أنها منفصلة أو متعارضة، بل أجزاء من منظومة واحدة، تعمل بتناغم دقيق تحت مظلة القوانين الوراثية نفسها. إن كل ذرة في خلية نبات أو إنسان تحمل بصمة الخالق الذي أودع فيها سرّ الحياة والاستمرار.
لقد ربطت الجينات بين البذرة والإنسان، وبين الخلية الأولى والمستقبل البعيد، بلغة واحدة لا تتغير، وكأنها تقول:
“كل ما على الأرض من حياة هو تنويع على لحنٍ واحدٍ كتبه الله في كتاب الخلق.”

يتبع في الحلقة القادمة:
“جينات مصر القديمة”: رحلة علمية مثيرة في تراث الأجداد، من تحنيط الملوك إلى تحليل المومياوات الحديثة.

(*) د. قاسم زكي
أستاذ الوراثة بكلية الزراعة – جامعة المنيا، رئيس اللجنة الوطنية للعلوم الوراثية بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، الرئيس الأسبق للجمعية الأفريقية لعلوم المحاصيل، عضو المجلس العالمي للنبات (GPC) – عضو اتحاد كتاب مصر

Loading

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

وداعًا جيمس واتسون… الرجل الذي قرأ لغة الحياة بين المجد والجدل

سلسلة “خواطر وراثية” تأملات في العلاقة بين الإنسان والجينات والحياة، الحلقة رقم (06) شبكة بيئة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *