تحليل معمق للإنجازات المصرية في مسارات هجرة الطيور الدولية

ملحمة العبور في سماء مصر

مصر تُعلن انتصارها على الصيد الجائر وتفتح ممرات أجنحة الحياة لصون التنوع البيولوجي

شبكة بيئة ابوظبي، د. طارق قابيل (*)، القاهرة، جمهورية مصر العربية 13 اكتوبر 2025
في كل عام، ومرتين تحديدًا في أكتوبر (تشرين الأول) لهجرة الذهاب جنوبًا، ومايو (أيار) لهجرة العودة شمالًا، تتحوّل سماء مصر إلى مسرح لأعظم ملحمة طبيعية على كوكب الأرض؛ ملحمة هجرة الطيور، هذه الرحلة المذهلة التي تقطع فيها ملايين الطيور القادمة من أوروبا وآسيا مسافات شاسعة بحثاً عن الدفء والغذاء، تجعل من مصر ثاني أهم مسار هجرة للطيور في العالم، المعروف بـ مسار هجرة الطيور الأوروأفريقي-آسيوي.

إن الاحتفال بـاليوم العالمي للطيور المهاجرة، الذي يتجدد في خريف عام 2025، لم يعد مجرد مناسبة رمزية، بل أصبح مؤشراً حقيقياً لجدية الدول في الوفاء بالتزاماتها البيئية. وفي هذا السياق، أعلنت محميات المنطقة الشمالية المصرية عن نتائج وصفتها الجهات الرسمية بأنها “إيجابية غير مسبوقة”، في حربها المستمرة والمحتدمة ضد الصيد الجائر، مؤكدة بذلك إصرار الدولة على تحويل شمال مصر من ساحة تهديد إلى ملاذ آمن، وفتح “ممرات أجنحة الحياة” أمام الكائنات العابرة.

وتزامنًا مع الاحتفال باليوم العالمي للطيور المهاجرة في أكتوبر 2025، تحت شعار “المساحات المشتركة: نحو مدن ومجتمعات صديقة للطيور”، تسجل جمهورية مصر العربية إنجازاً بيئياً غير مسبوق، يعكس تحولاً جذرياً في نهج الدولة تجاه قضايا الحماية البيولوجية. هذا الإنجاز، الذي أعلنت عنه الدكتورة منال عوض، وزيرة التنمية المحلية والقائم بأعمال وزير البيئة، ليس مجرد حصيلة عمليات رصد ومكافحة، بل هو مؤشر على تفعيل إستراتيجية وطنية متكاملة تضع صون التنوع البيولوجي في صلب أولوياتها التنموية. وتُعد مصر، بحكم موقعها الجغرافي الفريد، جسر عبور حيوياً يربط بين قارات العالم القديم، حيث تقع على “مسار الهجرة العالمي لمنطقة الصدع الإفريقي والبحر الأحمر”، الذي يُصنف كأحد أهم مسارات هجرة الطيور على الكوكب، وثاني أهم ممر للطيور الحوامة على مستوى العالم. يعبر هذا الممر ملايين الطيور سنوياً، تشمل أنواعاً حيوية مثل اللقلق الأبيض، والصقور، والبجع، والعديد من الأنواع المهددة بالانقراض. هذا التميز الجغرافي يحمل في طياته مسؤولية بيئية دولية جسيمة، تتطلب يقظة مستمرة وتطبيقاً صارماً للقوانين لضمان سلامة هذه الرحلة السنوية الملحمية.

إن البيان الصادر عن وزارة البيئة، والذي كشف عن إزالة نحو 18 ألف متر من الشباك المخالفة ومصادرة أجهزة ومعدات الصيد غير القانونية، يمثل علامة فارقة في تاريخ الحماية البيئية المصرية، ويؤكد على التزام القاهرة بالمعاهدات والاتفاقيات الدولية ذات الصلة. يهدف هذا المقال إلى تحليل الأبعاد الإيكولوجية والقانونية والاجتماعية لهذا الإنجاز، وتقدير أهميته في سياق التنمية المستدامة العالمية والوطنية. ويسلط هذا التقرير الضوء على الأهمية العلمية لهذه الجهود، ويكشف بالبيانات والإحصائيات عن تفاصيل هذا الانتصار البيئي النوعي.

الأهمية الإستراتيجية لمسار الهجرة والتحديات الإيكولوجية في شمال مصر
يعبر المسار الحركي الهجري الإفريقي – الأوراسي عبر مصر في نقطة اختناق حيوية، حيث تتركز الطيور المهاجرة في مناطق ضيقة كجسر السويس والبحر الأحمر وشمال الدلتا. هذه المناطق، وخاصة المحميات الطبيعية والمناطق الرطبة على طول السواحل الشمالية مثل البرلس، وأشتوم الجميل، والعميد، والسلوم، تعمل كمحطات استراحة وإمداد ضرورية لاستكمال الطيور رحلتها التي تمتد لآلاف الكيلومترات. أي تهديد في هذه المحطات يمكن أن تكون له عواقب وخيمة على أعداد الطيور المهاجرة على مستوى القارات. ولا تقتصر أهمية الطيور المهاجرة على جمالها المُلهم، بل تمتد لتشمل أدواراً اقتصادية وبيئية حاسمة، تجعل من صونها استثماراً في المستقبل وليس مجرد حماية للماضي:

1. الدور البيئي
تلعب الطيور المهاجرة أدواراً لا يمكن الاستغناء عنها في حفظ التوازن البيئي. وتشمل خدماتها ما يلي:
مكافحة الآفات الزراعية: تتغذى أنواع عديدة من الطيور المهاجرة، خاصة العصفوريات (Passerines)، على أعداد هائلة من الحشرات والآفات الزراعية، مما يقلل الحاجة إلى استخدام المبيدات الكيميائية السامة، ويساهم في حماية المحاصيل والغذاء.

نقل البذور والتلقيح: تعمل الطيور المهاجرة كـ “سُعاة” بيئيين، حيث تنقل البذور والمغذيات والأملاح والمعادن عبر مسافات شاسعة، مما يساعد على انتشار الغطاء النباتي وتجديد الأراضي، ويساهم بشكل مباشر في دعم التنوع البيولوجي للأراضي الرطبة والبرية.

مؤشر بيولوجي: تُعد حالة أسراب الطيور وصحتها مؤشراً دقيقاً على صحة البيئات والموائل التي تعيش فيها. انخفاض أعدادها أو تلوثها يشير إلى وجود خلل بيئي يستلزم التدخل العاجل.

2. العائد الاقتصادي
أكدت الدراسات أن حماية الطيور المهاجرة تفتح آفاقاً واسعة للسياحة البيئية، وتحديداً سياحة مشاهدة الطيور، التي تُعد من أسرع أنواع السياحة نمواً عالمياً. كما توفر مناطق عبور الطيور والمحميات فرصة لجذب السياح المتخصصين من حول العالم، وهم فئة سياحية تتميز بارتفاع إنفاقها وحرصها على الطبيعة، مما يدعم الاقتصاد المحلي للمجتمعات المحيطة بالمحميات. وتتطلب سياحة مراقبة الطيور إنشاء مراكز للزوار وتدريب فرق متخصصة من المُرشدين البيئيين مما يخلق فرص عمل مستدامة للسكان المحليين في مناطق شمال مصر.

آليات الصيد الجائر والتهديد المباشر
تتركز التحديات الإيكولوجية في شمال مصر بشكل خاص حول ظاهرة الصيد الجائر، والذي يتميز بالاستخدام المكثف لوسائل تكنولوجية وتراثية مدمرة:

الشباك المخالفة: وهي شباك دقيقة مصنوعة من النايلون، تُنصب بشكل عشوائي على مسافات طويلة، وتصطاد الطيور بشكل غير انتقائي، بما في ذلك الأنواع غير المستهدفة أو المهددة بالانقراض، مما يؤدي إلى نفوق جماعي وتدمير البنى السكانية للطيور.

أجهزة محاكاة الأصوات: وهي أجهزة إلكترونية تُصدر أصوات الطيور، لجذب أسراب كاملة إلى مناطق الشباك. هذه الأجهزة تزيد بشكل كبير من كفاءة الصيد الجائر وتفاقم الأزمة.

مناصب المخيط: وهي وسائل صيد تراثية قديمة، ورغم بساطتها، فإنها فعالة في اصطياد أنواع معينة.
تُشكل هذه الآليات مجتمعة ضغطاً هائلاً على الطيور المجهدة أصلاً من مسافة الهجرة، مما يعرضها لخطر الانهيار السكاني.

النجاح الميداني المصري
يمثل إعلان الوزيرة منال عوض عن نتائج حملات المكافحة في المحميات الشمالية دليلاً كمياً على فعالية الإجراءات الميدانية. تتحدث الأرقام عن نفسها، لكن دلالاتها تتجاوز الإحصائيات:

القياس الكمي لإزالة التهديد
إن إزالة 18 ألف متر (18 كيلومتر) من الشباك المخالفة في موسم هجرة واحد يشير إلى:
حجم التحدي الهائل: يؤكد هذا الرقم أن ظاهرة الصيد الجائر كانت منتشرة على نطاق واسع في المناطق الشمالية، وتطلبت حملات مكثفة وموارد ضخمة لمواجهتها.

رفع القدرة الاستيعابية للموائل: كل متر من الشباك يمثل عائقاً مميتاً. إزالة هذه الكمية الهائلة تفتح فعلياً “ممرات آمنة” على الأرض، مما يسمح للطيور بالوصول إلى مناطق الراحة والتغذية دون التعرض لخطر الوقوع في الفخاخ، وبالتالي تحسين فرص بقائها على قيد الحياة واستكمال رحلتها.

استهداف التكنولوجيا المدمرة
أجهزة محاكاة الأصوات تمثل نقطة ارتكاز في شبكة الصيد الجائر؛ لأنها تضاعف حجم الصيد اليومي. تحليل البيانات يكشف عن التوزيع الجغرافي لهذه المصادرات عن رصد 18,000 مخالفة منها 13,000 مخالفة في محمية أشتوم الجميل، و5,000 مخالفة في البرلس. وتركز محمية أشتوم الجميل على إزالة أطوال أكبر من الشباك، مما قد يشير إلى كثافة النصب في محيطها. بينما تُظهر أرقام البرلس تركيزاً أكبر على مصادرة المناصب المخيط، مما قد يعكس تنوعاً في أساليب الصيد المستخدمة في منطقة كفر الشيخ. إن استهداف هذه الأدوات التكنولوجية يكسر بشكل مباشر اقتصاديات الصيد غير المشروع، مما يقلل من جاذبيته وربحيته.

نجاح الوعي وتكامل الجهود
أبرز ما في البيان هو عدم تسجيل أي حالات صيد في محميتي العميد والسلوم. هذا الإنجاز له دلالات إستراتيجية تتجاوز مجرد المراقبة. ويعكس هذا الالتزام الفعال بالقانون بعد صدور قرار تنظيم الصيد في 1 سبتمبر 2025، مما خلق رادعاً قوياً منع المخالفين من مجرد المحاولة. ويُظهر عدم تسجيل حالات صيد في محميتي العميد والسلوم فعالية نظام الإدارة المتكاملة للمحميات، الذي يجمع بين الحراسة المستمرة، والتكنولوجيا، والتواصل المجتمعي، والتعاون مع السلطات المحلية والأمنية. وشهادة الوزيرة بارتفاع مستوى الوعي البيئي لدى الصيادين المحليين في تلك المناطق هي إشارة مهمة إلى نجاح برامج التوعية والمشاركة المجتمعية. فالحماية المستدامة لا يمكن أن تتحقق بقوة القانون وحدها، بل يجب أن تُبنى على القبول والمشاركة من قبل المجتمعات التي تعيش في نطاق المحميات.

أبعاد سياسة الحماية البيولوجية
1. الإطار القانوني الدولي والوطني
تلتزم مصر، كدولة موقعة، بتنفيذ مقتضيات الاتفاقيات الدولية التالية، التي تشكل الأساس القانوني لحملات المكافحة:
اتفاقية حفظ أنواع الحيوانات البرية المهاجرة: وهي اتفاقية دولية تُلزم الأطراف بحماية أنواع الحيوانات البرية المهاجرة، وخاصة تلك التي تعبر الحدود.

اتفاقية حفظ الطيور المائية الأفرو-أوراسية المهاجرة: وهي اتفاقية فرعية تُعنى بالطيور المائية والطيور التي تعتمد على البيئة المائية في مسار هجرتها.
على الصعيد الوطني، يشكل قانون البيئة المصري (رقم 4 لسنة 1994)، وتعديلاته اللاحقة، الإطار التشريعي الذي يُجرم الصيد الجائر. ويأتي قرار تنظيم الصيد الصادر في الأول من سبتمبر 2025 كأداة تنفيذية بالغة الأهمية، حيث يحدد فترات وأماكن الصيد المسموح بها، ويمنع استخدام الوسائل المدمرة مثل الشباك وأجهزة المحاكاة بشكل قاطع في المحميات والمناطق الحساسة بيئياً. هذا التكامل بين التشريع الأساسي والقرار التنفيذي هو جوهر نجاح سياسة الردع.

2. مفهوم الردع البيئي المُنظم
تُطبق مصر هنا نموذجاً للـ “الردع البيئي المُنظم “هذا النموذج لا يعتمد فقط على العقوبة بعد المخالفة، بل يرتكز على أربعة محاور متزامنة:
1. المنع المسبق: عبر نشر الوعي والتعاون المجتمعي لتجنب وقوع المخالفة.
2. الرصد التكنولوجي: استخدام التقنيات لرصد الشباك وتحديد مناطق الصيد الجائر.
3. المصادرة الفورية: إزالة وتدمير أدوات الجريمة البيئية (18 ألف متر من الشباك).
4. التوعية المصاحبة: تحويل الصيادين من مُرتكبي مخالفات إلى حُراس بيئيين من خلال برامج تعويضية وتدريبية.
إن نجاح هذا النموذج في العميد والسلوم يمثل نموذجاً يجب تعميمه على بقية المحميات، لضمان استمرارية الحماية على المدى الطويل.

التداعيات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية
لا تقتصر أهمية حماية الطيور المهاجرة على الجانب الإيكولوجي فحسب، بل تمتد لتشمل أبعاداً اقتصادية واجتماعية ضمن إطار “خدمات النظم الإيكولوجية “:
1. القيمة الاقتصادية للطيور في مكافحة الآفات
تعمل الطيور المهاجرة على توفير خدمة حيوية للقطاع الزراعي، وهي المكافحة البيولوجية للآفات. تستهلك الطيور أعداداً هائلة من الحشرات واليرقات التي تضر بالمحاصيل. إن تقدير قيمة هذه الخدمة يكشف أن كل طائر يتم إنقاذه يمثل قيمة اقتصادية مضافة للناتج القومي الزراعي، عبر:
خفض استخدام المبيدات الكيميائية: مما يقلل من تكاليف الإنتاج الزراعي ويحسن جودة المحاصيل.
حماية صحة الإنسان والتربة: بتقليل الملوثات الكيميائية الناتجة عن المبيدات.

2. الدور في تجديد الغطاء النباتي (نشر البذور)
تعد الطيور المهاجرة ناشراً حيوياً للبذور، حيث تنقل بذور النباتات عبر مسافات شاسعة، مما يساهم في:
تجديد النظم البيئية المتدهورة: وخاصة في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية كمحمية العميد.
زيادة التنوع النباتي: من خلال إدخال أنواع جديدة من البذور إلى موائل مختلفة، وهو أمر بالغ الأهمية لمقاومة التغيرات المناخية.

3. السياحة البيئية كرافد اقتصادي
تُعد حماية الطيور المهاجرة أساساً لنمو قطاع السياحة البيئية في المناطق الشمالية. سياحة مراقبة الطيور هي قطاع عالمي متنامٍ يجذب سائحين ذوي إنفاق مرتفع ووعي بيئي عالٍ. توفير ممرات آمنة للطيور وتحسين حالة المحميات يُعزز من جاذبية مصر كوجهة رئيسية لهذه الفئة، مما يساهم في تنويع مصادر الدخل القومي وخلق فرص عمل مستدامة للسكان المحليين في مجالات الإرشاد السياحي وخدمات الإيواء الصديقة للبيئة.

التحديات القائمة ومقترحات الاستدامة المستقبلية
على الرغم من الإنجاز الكبير في أكتوبر 2025، فإن ضمان استمرارية الحماية يتطلب مواجهة تحديات هيكلية واستثمارية:
1. تحدي الإدارة المتكاملة للمحميات
تبقى المحميات الشمالية (أشتوم الجميل والبرلس) عرضة للضغط السكاني وتغير استخدامات الأراضي والصيد الجائر. تتطلب الإدارة الفعالة لهذه المحميات تطبيق مبدأ “الإدارة المتكاملة للمناطق الساحلية”، الذي يضمن:
التخطيط المكاني: تحديد مناطق عازلة حول المحميات لتقليل التعديات.
الرصد بالتكنولوجيا: الاستثمار في تقنيات الاستشعار عن بعد والطائرات بدون طيار للمراقبة الآنية لمسافات الشباك الطويلة وأنشطة الصيد الليلي.
التنسيق القطاعي: تفعيل التنسيق الكامل بين وزارة البيئة، والزراعة، والسياحة، ووزارة الدفاع (لأنشطة الطيران) لضمان عدم تعارض الأنشطة التنموية مع مسارات الهجرة.

2. تحدي تمويل البحوث والموارد البشرية
تحتاج برامج الحماية إلى دعم مالي مستدام لتمويل دراسة سلوك الطيور المهاجرة، وتحديد النقاط الساخنة للصيد بدقة أكبر، وتقييم أثر التغيرات المناخية على مسارات الهجرة وتدريب أجيال جديدة من الحراس البيئيين، والباحثين، والمختصين في القانون البيئي، القادرين على استخدام التكنولوجيا المتقدمة وتطبيق القانون بفاعلية.

3. تحدي التكيف المجتمعي والاستعاضة
إن انتقال الصيادين من الصيد الجائر إلى سُبل عيش مستدامة هو أساس الحماية طويلة الأمد. هذا يتطلب توفير بدائل دخل للصيادين، مثل تحويل مهاراتهم إلى الإرشاد في سياحة مراقبة الطيور، أو الصيد المستدام المقنن في مناطق محددة بصرامة. ويجب أن تكون حملات التوعية جزءاً من المناهج التعليمية المحلية، لغرس ثقافة احترام التنوع البيولوجي منذ الصغر.

رؤية مستقبلية: مصر كمركز إقليمي للحماية البيولوجية
إن إطلاق أعداد كبيرة من الطيور التي تم إنقاذها إلى بيئتها الطبيعية بعد تأمينها، كما ورد في البيان، يمثل تتويجاً إنسانياً وعلمياً للجهد المبذول. هذا الإجراء ليس مجرد إفراج، بل هو عملية تأهيل بيطري وإيكولوجي تضمن قدرة الطائر على مواصلة رحلته.
يمكن لمصر، انطلاقاً من هذا الإنجاز، أن ترتقي بدورها لتصبح مركزاً إقليمياً رائداً في حماية مسارات الهجرة العالمية. يمكن تحقيق ذلك عبر:

1. تبادل الخبرات مع دول المسار الهجري: التعاون مع دول مثل السودان، إثيوبيا، الأردن، وتركيا لإنشاء شبكة رصد ومكافحة موحدة على طول مسار الهجرة.
2. استضافة مؤتمرات علمية دولية: استضافة مؤتمر دولي متخصص في إدارة مسار الهجرة الإفريقي – الأوراسي لتعزيز البحث المشترك.
3. تطبيق برامج العلامة التجارية البيئية: ربط المنتجات والسياحة في المحميات بـ “علامة تجارية خضراء” تدل على الالتزام بحماية الطيور، مما يزيد من جاذبيتها في السوق العالمية.

انتصار للإرادة الوطنية في صون الإرث الطبيعي
لقد أثبتت جمهورية مصر العربية، من خلال الأرقام والإنجازات الميدانية التي أعلنت عنها وزيرة التنمية المحلية والقائم بأعمال وزير البيئة في أكتوبر 2025، قدرتها الفائقة على تفعيل الإرادة السياسية في مجال صون الطبيعة. إن إزالة 18 ألف متر من الشباك وتحقيق حماية بنسبة 100% في محميتي العميد والسلوم يمثل نقلة نوعية في معركتها ضد الصيد الجائر.

ولقد أثبتت الإجراءات الحاسمة التي تم اتخاذها في سبتمبر وأكتوبر 2025 أن حماية الطيور المهاجرة في مصر أمر ممكن التحقيق. إزالة 18,000 متر من شباك الصيد القاتلة من بحيرتي أشتوم الجميل والبرلس، إلى جانب تأمين محميتي العميد والسلوم بشكل كامل، يمثل دليلاً دامغاً على أن حوكمة ملف الصيد بدأت تؤتي ثمارها. لقد تم إرسال رسالة واضحة لكل من يحاول استغلال هذه الثروة الطبيعية بطرق غير مشروعة: الممر الآمن قد فُتح، ولن يُسمح بإغلاقه مجدداً.

هذا النجاح هو تتويج لتكامل جهود العاملين بالمحميات في تطبيق القانون، وارتفاع مستوى الوعي المجتمعي، وتفعيل الإطار القانوني الوطني والدولي. إن الطيور المهاجرة هي إرث طبيعي عالمي، وحماية ممراتها في مصر هو التزام بتوازن بيئي يخدم الزراعة والسياحة وصحة النظام الإيكولوجي بأكمله، وتعزز هذه النجاحات مكانة مصر على خريطة الحفاظ على البيئة العالمية وتفتح الأبواب أمام استغلال الإمكانات الهائلة لـسياحة مشاهدة الطيور، والتي يمكن أن تدر عوائد اقتصادية كبيرة، تفوق بكثير المكاسب غير المشروعة من الصيد الجائر.

إن الإنجاز المحقق في موسم هجرة أكتوبر 2025 هو مجرد بداية لرحلة طويلة نحو الاستدامة. وبينما تحتفل مصر باليوم العالمي للطيور المهاجرة تحت شعار “المساحات المشتركة”، فإنها عملياً تُرسخ مفهوم أن هذه المساحات المشتركة يجب أن تكون آمنة ومفتوحة للحياة، مؤكدةً أن العمل مستمر لفتح ممرات آمنة تساعد أجنحة الحياة على استكمال هجرتها السنوية بأمان تام. وإن النموذج المصري الحالي في المكافحة يمثل دليلاً قوياً على أن التنمية المستدامة والحفاظ على التنوع البيولوجي هما وجهان لعملة واحدة، وأن الاستثمار في حماية الطبيعة هو استثمار في مستقبل الأجيال.

لذلك، وبصفتي صحفياً علمياً وأكاديمياً، أرى أن الهدف الأسمى ليس فقط إزالة الشباك، بل هو غرس ثقافة بيئية في الوعي الجمعي العربي. ويجب علينا جميعاً أن ندرك أن هذه الطيور ليست ملكاً لدولة واحدة، بل هي ميراث كوكبي مشترك. وكل طائر يتم إنقاذه هو بذرة حياة تستكمل دورها في التلقيح، ومكافحة الآفات، وتجديد البيئة. إن الالتزام بـحماية الطيور المهاجرة هو التزام بأمننا الغذائي، وبتوازن نظم الحياة على أرضنا. وندعو إلى تحويل هذا النجاح الميداني إلى قاعدة ثابتة؛ قاعدة تقوم على التنسيق الدائم، والتوعية المستمرة، وتفعيل مشاركة المجتمع المحلي ليصبح “حارساً” لهذه الممرات بدلاً من أن يكون تهديداً لها. لنحتفل باليوم العالمي للطيور المهاجرة ليس فقط بإحصاء عدد الطيور التي عبرت بسلام، بل بإحصاء عدد القلوب والعقول التي أدركت قيمة هذه الكنوز الحية. فبالوفاء للأجنحة المهاجرة، نوفي بعهدنا نحو كوكبنا.

هاشتاجات:
#مصر_تحمي_الطيور – #ممرات_آمنة – #صيد_جائر – #تنوع_بيولوجي – #اليوم_العالمي_للطيور_المهاجرة -#حماية_الطبيعة – #خدمات_النظم_البيئية – #مدن_صديقة_للطيور – #علوم_بيئية – #الوعي_البيئي – #علوم_البيئة – #موقع_بيئة_أبوظبي – #العالم_المصري – #الدكتور_طارق_قابيل.

الكاتب: د. طارق قابيل
– أكاديمي، خبير التقنية الحيوية، كاتب ومحرر ومترجم علمي، ومستشار في الصحافة العلمية والتواصل العلمي.
– أستاذ جامعي متفرغ، وعضو هيئة التدريس بقسم التقنية الحيوية – كلية العلوم – جامعة القاهرة.
– مقرر لجنة الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية والدراسات الاستراتيجية ومؤشرات العلوم والتكنولوجي، وزميل أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
– أمين مجلس بحوث الثقافة والمعرفة، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
– الباحث الرئيسي لمشروع خارطة طريق “مستقبل التواصل العلمي في مصر ودوره في الاعلام العلمي”، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مصر.
– السفير الإقليمي للاقتصاد الدائري والمواد المستدامة لمنظمة “سستينابلتي جلوبال” (Sustainability Global)، فينا، النمسا.
– عضو المجموعة الاستشارية العربية للعلوم والتكنولوجيا، التابعة للمكتب الإقليمي للأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث للدول العربية.
https://orcid.org/0000-0002-2213-8911
http://scholar.cu.edu.eg/tkapiel
tkapiel@sci.cu.edu.eg

Loading

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

المتحف المصري الكبير… نموذج رائد في العمل المناخي ومنارة خضراء لمستقبل أفضل

عندما يلتقي عبق التاريخ برؤية الاستدامة: أيقونة “خضراء” تُعيد تعريف الثقافة في عصر الاستدامة شبكة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *