جينات السعادة والحزن

رحلة بين العلم والمشاعر: هل نولد مبرمجين على الفرح والحزن؟

سلسلة “خواطر وراثية” تأملات في العلاقة بين الإنسان والجينات والحياة، الحلقة رقم (04)

شبكة بيئة أبو ظبي، بقلم د. قاسم زكي(*)، أستاذ الوراثة بكلية الزراعة، جامعة المنيا، جمهورية مصر العربية 26 أكتوبر 2025

مشاعر على خيوط الجينات
منذ فجر التاريخ، حاول الإنسان أن يفهم أسرار سعادته وأحزانه. كتب الفلاسفة عن “الفضيلة والسعادة”، ورسم الشعراء صورًا للحزن والبهجة، لكن العلم الحديث ذهب أعمق من ذلك: إلى داخل خلايانا، حيث تكمن الجينات. اليوم يسأل العلماء: هل الفرح والحزن مجرد نتاج للظروف والتجارب، أم أن وراءهما “برمجة جينية” تحدد مزاجنا منذ اللحظة الأولى؟

الجينات… والهرمونات الموجهة للمزاج
تؤكد أبحاث علم الوراثة العصبية أن الجينات تلعب دورًا محوريًا في إنتاج وتنظيم مواد كيميائية في الدماغ تُعرف باسم “النواقل العصبية”.
– السيروتونين: يُسمى أحيانًا “هرمون الرضا”، إذ ينظم النوم والمزاج والشهية.
– الدوبامين: يرتبط بالمتعة والتحفيز والمكافأة.
– النورأدرينالين: يمنحنا الحماس والانتباه والقدرة على الاستجابة للتوتر.
طفرة واحدة في جين مثل 5-HTTLPR قد تجعل صاحبه أكثر حساسية للتوتر وأسرع استجابة للحزن، بينما تركيبات أخرى تمنحه استعدادًا أكبر للتفاؤل والنظرة الإيجابية للحياة.

ما بين الطبيعة والتنشئة
الدراسات التي أُجريت على التوائم المتطابقة – الذين يشتركون في الجينات نفسها – كشفت أن 40 إلى 50% من الاختلافات في مستويات السعادة بين الأفراد تعود إلى الوراثة. أما النصف الآخر فيرتبط بالبيئة، والتربية، والعلاقات الاجتماعية، والتجارب الحياتية. هذا يعني أن الجينات ترسم الملامح الأولية فقط، أما تفاصيل الابتسامة أو الدموع فيصوغها المحيط والتجربة الإنسانية.

الحزن الموروث… ذاكرة الأجيال
أحد أكثر الاكتشافات إثارة هو أن التجارب الصادمة – كالحروب أو المجاعات أو الكوارث – يمكن أن تترك أثرًا على الجينات نفسها، من خلال ما يُعرف بـ الوراثة اللاجينية (Epigenetics). ، فقد لاحظ العلماء أن أبناء وأحفاد من عاشوا أهوال الحرب العالمية الثانية أو المجاعة الكبرى في أيرلندا، حملوا استعدادًا وراثيًا أكبر للتوتر والقلق واضطرابات المزاج. إنها “ذاكرة عاطفية” تنتقل عبر الأجيال، دون أن يختبر الأحفاد تلك الكوارث بأنفسهم.

السعادة… ليست قدرًا مكتوبًا
قد يظن البعض أن الجينات حكمت علينا مسبقًا بالفرح أو الحزن، لكن الأبحاث السلوكية والنفسية أثبتت العكس. فالممارسات اليومية – مثل التأمل، الرياضة، التغذية الصحية، الكتابة التعبيرية، الامتنان، والتواصل الاجتماعي – قادرة على إعادة تشكيل دوائر الدماغ، بل والتأثير على نشاط الجينات نفسها. أي أن السعادة ليست مجرد هبة جينية، بل خيار يُمارس أيضًا.

بين الفلسفة والوراثة
في الفلسفة القديمة، رأى أرسطو أن السعادة هي “الغاية القصوى للإنسان”، بينما اعتبر المتصوفة أن الحزن جزء من رحلة الروح نحو الكمال. اليوم، نجد أن العلم لا ينفي هذه الرؤى، بل يضيف إليها بعدًا بيولوجيًا:
– أن ما نشعر به من مشاعر متناقضة قد يكون جزءًا من آلية تطورية لحماية . فالحزن يجعلنا أكثر حذرًا في مواجهة المخاطر، بينما السعادة تمنحنا الطاقة للاستمرار والبناء.

أمثلة واقعية ودراسات
– في دراسة شهيرة على أكثر من 900 توأم في الولايات المتحدة، تبين أن من يحملون نسخة معينة من جين السيروتونين كانوا أكثر عرضة للاكتئاب بعد صدمات الحياة، بينما من يملكون نسخة مختلفة أظهروا قدرة أعلى على الصمود والتفاؤل.
– دراسة أخرى في اليابان أظهرت أن التواصل الاجتماعي يمكن أن يخفف من تأثير الجينات المرتبطة بالحزن، وهو ما يثبت أن البيئة قادرة على إعادة التوازن.
– تجارب حديثة على الفئران بينت أن تعريضها لتوتر مستمر غيّر من تعبير جينات معينة، وأن هذا التغير انتقل إلى الجيل التالي.

بين الجينات والفطرة: رؤية الشيخ الشعراوي
ورغم ما تكشفه الأبحاث من دورٍ للجينات في تشكيل المزاج، فإن الرؤية الإيمانية تضيف بُعدًا أعمق. فالإمام محمد متولي الشعراوي – رحمه الله – كان يؤكد أن الإنسان لا يولد سعيدًا أو شقيًا، بل يولد على الفطرة النقية التي أودعها الله فيه، مستشهدًا بحديث النبي ﷺ: “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”.

ويرى الشعراوي أن السعادة ليست هبةً موروثة ولا قدرًا جينيًا، بل ثمرةٌ من ثمار الإيمان والرضا؛ إذ يقول “السعادة الحقيقية لا تُشترى ولا تُورّث، ولكنها عطاء من الله لمن أطاعه”. في ضوء ذلك، يبدو أن العلم والدين يلتقيان على فكرة واحدة: أن الإنسان قد يولد ببذور استعدادٍ فسيولوجي معيّن، لكنّ البيئة، والإرادة، والإيمان، والاختيار الواعي هي التي تسقي هذه البذور لتُثمر سعادة أو تعاسة.

كلمة ختامية: برمجة قابلة للتعديل
إن مشاعر السعادة والحزن ليست مجرد تقلبات في المزاج، بل سيمفونية معقدة تعزفها الجينات بالتعاون مع التجربة الإنسانية. نعم، قد نولد بميل أكبر نحو الفرح أو الحزن، لكن في النهاية يبقى للإنسان حرية أن يعيد تشكيل ألحانه الخاصة، وأن يبحث عن نوافذ الضوء وسط غيوم الحياة.

(*) دكتور قاسم زكي
أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة، جامعة المنيا؛ ورئيس اللجنة الوطنية للعلوم الوراثية بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، والرئيس الأسبق للجمعية الأفريقية لعلوم المحاصيل، عضو المجلس العالمي للنبات (GPC)؛ عضو اتحاد كتاب مصر، وعضو الرابطة العربية للإعلاميين العلميين.

Loading

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

وداعًا جيمس واتسون… الرجل الذي قرأ لغة الحياة بين المجد والجدل

سلسلة “خواطر وراثية” تأملات في العلاقة بين الإنسان والجينات والحياة، الحلقة رقم (06) شبكة بيئة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *