سلسلة “خواطر زراعية”، تأملات في العلاقة بين الإنسان والطبيعة والزراعة الحديثة، الحلقة (04)
شبكة بيئة أبوظبي، بقلم الدكتور قاسم زكي (*)، جامعة المنيا، جمهورية مصر العربية 29 أكتوبر 2025م
قد يراه الناس غبارًا على الأحذية، لكنه في الحقيقة ذاكرة الأرض ومكتبة الحياة. في كل حفنة تراب، تختبئ قصص ملايين السنين: بقايا نباتاتٍ انقرضت، وحبوب لقاحٍ عبرت الفصول، وأثر أقدامٍ لمخلوقاتٍ مرّت ولم تعد. التراب ليس مجرد مادة خام تنبت فيها البذور، بل سجلٌّ صامت لتاريخ الكوكب، ومرآة دقيقة لحضارة الإنسان.
الأرض ككائن حي
حين ننظر إلى التربة بعين المجهر، نكتشف عالماً يعج بالحياة: ملايين الكائنات الدقيقة – بكتيريا، فطريات، طحالب، نيماتودا – تتفاعل في شبكة مذهلة من العلاقات الحيوية. إنها غابة مصغّرة تحت أقدامنا، فيها من التعاون والصراع والتوازن ما يفوق أعقد النظم الاجتماعية.
فالتربة ليست خاملة كما تبدو، بل تنفّس وتتنفّس، تتحرك وتتحلل، تفرز وتُعيد إنتاج الحياة. ومن هذا النبض الخفي، وُلدت الزراعة منذ آلاف السنين، حين فهم الإنسان أن خصوبة الأرض لا تُقاس بالكمية، بل بالنشاط الحيّ داخلها.
التراب في حضارة المصريين القدماء
في مصر القديمة، لم يكن التراب مادّة، بل رمزًا مقدّسًا. الكلمة المصرية القديمة لـ”الأرض” كانت “تا”، ومنها اشتُقّ اسم الوطن): تا-مري (الأرض المحبوبة. كان المصري يرى في تراب النيل حياةً مجدّدة، يحمل في طيّاته خصوبة الجنوب وبركة الفيضان. وفي النصوص القديمة، يوصف الإله جب، ربّ الأرض، بأنه “الأب الذي يلد النبات”، في دلالةٍ على أن التراب نفسه هو رحم الخلق. حتى في طقوس الدفن، كان يُعاد الجسد إلى التراب باعتباره “عودةً إلى الأصل”، وكأن التربة تحفظ وعد البعث كما تحفظ البذور نداء الربيع.
التربة بين العلم والحكمة
اليوم، بعد آلاف السنين، صارت التربة موضوعًا لعلوم متقدمة: الكيمياء، والميكروبيولوجيا، والنانو تكنولوجي. لكن جوهر الفكرة القديمة لا يزال صحيحًا: أن الأرض الحيّة هي أساس الحضارة. حين تُنهك التربة بالكيماويات، تفقد ذاكرتها الحيوية. وحين تُروى بالمياه المالحة أو تُترك للتصحر، تصمت بعد أن كانت تغني بالحياة.
التقنيات الحديثة – من تحليل الجينات الميكروبية إلى الزراعة المستدامة – ليست سوى محاولة لإعادة التوازن الذي فقدناه حين نسينا أن التراب كائن لا جماد.
خاتمة: التراب لا ينسى
التراب يتذكّر كل ما نفعله به. يخزّن الخير كما يخزّن الأذى، ويعيده إلينا بعد حين. فمن يزرع فيه الحب، يجني العطاء، ومن يثقل عليه بالجور، يورث الجفاف. وحين نضع أيدينا في التربة، يجب أن نتذكر أننا لا نلمس مجرد مادة… بل نلمس تاريخنا ومستقبلنا في آن واحد.
(*) دكتور قاسم زكي
أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة، جامعة المنيا؛ ورئيس اللجنة الوطنية للعلوم الوراثية بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، والرئيس الأسبق للجمعية الأفريقية لعلوم المحاصيل، وأحد مؤسسي المجلس العالمي للنبات (GPC)؛ عضو باللجنة الوطنية للكيمياء الحيوية والبيولوجيا الجزيئية وعلوم الوراثة (بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا)، عضو اتحاد كتاب مصر، وعضو اتحاد الآثاريين المصريين، وعضو الرابطة العربية للإعلاميين العلميين.
![]()
بيئة أبوظبي وسيلة إعلامية غير ربحية مسؤولية مجتمعية تملكها مجموعة نايا للتميز