من وسط اليمن السياني… حيث يئن المناخ وتتلوث الأنفاس وتستغيث الأرض

شبكة بيئة ابوظبي، إعداد عبد الغني درهم عبده اليوسفي. مستشار وباحث في الشؤون البيئية والمناخية، الجمهورية اليمنية 31 أكتوبر 2025
من جنوب قلب “الحضارة السياحة “إب” ومن شمال الحالمة ” تعز، تحديدًا في مديرية السياني الخضراء ومديرية ذي السفال يتغير الزمان ويتقلب المناخ ويتغير المكان، يرسم لنا يوم الثلاثين ابريل لعام 2025 لوحة قاتمة تستدعي وقفة تأمل عميقة. هنا، حيث تتمازج جمال الطبيعة.. مع صرخات الاستغاثة الصامتة للأرض والإنسان، يكشف لنا المناخ وتقلباته، وجودة الهواء المتردية، وتلويث الجو الى (4) و (5) وندرة المياه المتفاقمة، قصة مؤلمة تستحق أن تُروى وتُسمع في كل أرجاء اقليم الجند من السياحة والحضارة “الحالمة” والثقافة، بل وكل يمننا الحبيب…

حرارة الماضي… وواقع اليوم الخانق:
نتذكر اليوم في السياني دفء الماضي، حيث سجلت أعلى درجة حرارة للهواء في مثل هذا اليوم عبر 76 عامًا من الرصد +24,6 درجة مئوية عام 1973. بينما نتذكر برودة الأمس البعيد عندما لامست الدرجات 7.5 درجات عام 1965. حتى الأمطار الغزيرة التي ارتوت بها الأرض عام 1951 بكمية وصلت إلى 25,27 ملم، وهبوب الرياح القوية التي بلغت ذروتها 12,24 مترًا في الثانية عام 1966، كلها ذكريات تتلاشى أمام واقع مناخي قاسٍ يلقي بظلاله على حياة الناس.

“غير صحي على الإطلاق”… هكذا تتنفس السياني وذي السفال اليوم:
لكن الأشد وطأة هو الهواء الذي نستنشقه. اليوم، تُعلن سماء السياني بوضوح صارخ: “غير صحي على الإطلاق”. مؤشر جودة الهواء المخيف (4 من 4) يعني أن كل نفس نتنفسه محفوف بالمخاطر. في هذا المستوى، لا يستثنى أحد من التأثيرات الصحية، بينما يواجه أصحاب الحساسية خطرًا مضاعفًا. احتمالية تدهور وظائف القلب والرئة تلوح في الأفق، لتفرض علينا جميعًا قيدًا على حركتنا ونشاطنا في الهواء الطلق.

الأرقام هنا تتحدث بلغة أشد فتكًا: تركيز جزيئات الغبار الدقيقة (PM2.5) في سماء السياني يزيد حاليًا بمقدار 6.4 أضعاف عن القيمة التوجيهية السنوية التي توصي بها منظمة الصحة العالمية! هذا يعني أن كل شهيق هو جرعة زائدة من السموم تهدد أجسادنا وصحة أطفالنا.

قصة الماء… من الوفرة إلى الندرة:
لطالما تغنت السياني بوفرة مياهها الجوفية العذبة، وشهدت على ذلك مشاريع المياه الأهلية التي غطت في يوم من الأيام 56% من سكانها. لكن اليوم، يقف بعض هذه المشاريع صامتًا، ينتظر من يعيد إليه الحياة. الآبار والعيون العذبة التي كانت تروي الأرض والإنسان، والسدود والحواجز القليلة كحاجز الحائطين الذي يعاني من الشح، كلها تشهد على تحول مؤلم. حتى الغيول الجميلة كنقيلين والنجيف، والبرك كبركة السلطان، وكريف سائلة نخلان الذي كان يغذي التجمعات السكانية، كلها تبدو اليوم أكثر عطشًا.

بل إن قريتي إيهار تخبرنا قصة أخرى موجعة، فخزانات مياه الأمطار المتشققة والمهددة بالانهيار فيها، تستصرخ الضمائر لإنقاذها قبل فوات الأوان.

صدمة الخبير… حقائق جيولوجية تُرعب:
الدراسة الأخيرة للخبير الجيولوجي الدكتور عبد الغني جغمان تحمل في طياتها حقائق صادمة. فالمنطقة الجبلية ذات الصخور النارية، كما يقول، لا تتمتع بحوض جوفي كبير أو خزان مياه جوفية بالمعنى المتعارف عليه. هذا ما نراه في إب وتعز والسياني على حد سواء.

ويضيف بأسى أن الأحواض الجوفية تقع عادة في مناطق القيعان، وتلك الموجودة كحوض صنعاء، شبه جافة وستنضب قريبًا. أما السياني، فليست بها أحواض مياه كبيرة، وهذا يفسر اختلاف أعماق الآبار وارتفاع درجة حرارة المياه المالحة المؤكسدة المحتوية على “الفلور” في الأعماق.

هذه الحقائق الجيولوجية تلقي بظلالها القاتمة على أسنان سكان تعز المسوسة السوداء، وعلى ضرورة تبريد ومعالجة المياه الحارة في مناطق أخرى. ببساطة، لا يوجد مخزون مائي جوفي سهل المنال في منطقتنا.

حتى ذكريات الغيول والشلالات التي كانت تملأ المكان في أيام المطر، تتلاشى سريعًا بعد أسبوعين أو ثلاثة، بينما تشهد المناطق التي استمرت مياهها لفترة أطول انخفاضًا في منسوبها بسبب كثرة الآبار.

صرخة الباحث… توصيات ملحة للمستقبل:
أمام هذا المشهد القاتم، يطلق الباحث صرخة مدوية، مطالبًا بالكشف عن آثار الصناعة المائية والاستهلاك الجائر للمياه وتأثيره على مستقبل السكان. ويدعو إلى دراسة وتحديد موقع استثماري للطاقة البخارية، وإمكاناتها الاقتصادية، ومتابعة مبادرة تحديد موقع استثماري للحمامات البخارية مستغلين الآبار الكبريتية في غيل البراقة.

نصيحة الخبير… خارطة طريق للنجاة:
أما نصيحة الخبير الجيولوجي الدكتور عبد الغني جغمان فهي بمثابة خارطة طريق يجب على السلطة المحلية والمواطنين والباحثين الإعلاميين تبنيها. في مقدمتها، ضرورة توعية السكان بأهمية تعظيم وتكبير بناء الخزانات والكرفانات لحصاد مياه الأمطار، من حواجز وسدود علوية وسفلية، وبرك مدروسة لتلبية الاحتياجات المنزلية والزراعية على مدار العام.

هذا التجميع لمياه الأمطار والاستفادة منها في الزراعة والمنزل، هو سبيلنا لإنقاذ محاصيلنا وإرواء أراضينا. وبإمكاننا حتى شربها بعد معالجتها. والأهم من ذلك، بناء الخزانات يجب أن يسبق بناء البيوت. فحفر الآبار مكلف ومخالف وغير مجدٍ في ظل طبيعة طبقتنا الجيولوجية وصخورها النارية الحارقة.

وينصح الخبير بضرورة عمل كل ما يمكن لحصاد مياه الأمطار في الوديان والسوائل والمرتفعات، ببناء السدود والحواجز، والخزانات الترابية والإنشائية والبرك. وكذلك في سفوح الجبال والمنحدرات، مع إنشاء أحواض تنقية في مداخل البرك لفصل الحصى والتراب والطين، لضمان وصول المياه نقية إلى البرك. إنها تقنيات قديمة وحديثة يجب أن نعمل بها وننصح بها.

التربة الخصبة… أمل يتحدى القسوة:
لحسن الحظ، لا تزال السياني تحتضن أجود أنواع التربة، كالبركانية والطينية الداكنة الغنية بالمواد العضوية. هذا التنوع في التربة من عزلة إلى أخرى يساهم في تنوع المحاصيل الزراعية التي تشتهر بها المديرية، حيث تصل نسبة الأراضي الصالحة للزراعة إلى حوالي 99%، ويتم استغلال معظم هذه المساحة.

ويؤكد الخبير جغمان أن طبيعة المنطقة الجيولوجية لها أثر إيجابي على تكوين التربة، مما يجعلها غنية بالمعادن وخصبة جدًا للزراعة، خاصة في مناطق المرتفعات الوسطى التي تتميز بترب متنوعة ساهمت في اختلاف زراعة البن والمحاصيل الأخرى.

الغطاء النباتي… جمال مهدد بالزوال:
تتميز السياني بغطاء نباتي وافر ومتنوع، من أشجار معمرة وغير معمرة، وبخضرتها الدائمة على مدار العام. لكن هذا النشاط الزراعي الواسع يطغى على هذا الغطاء، خاصة في المناطق التي تتوفر فيها العيون المتدفقة كوادي نخلان والنقيلين ووادي عميد الداخل.

ومع الأسف، يتزايد التراجع في هذا الغطاء النباتي نتيجة لسوء الأحوال المعيشية والحصار والعدوان وانعدام الغاز المنزلي، مما اضطر العديد من الأسر إلى قطع الأشجار لتلبية احتياجات الطهي وبيع الحطب كمصدر دخل.

ويصف الدكتور جغمان هذا الغطاء النباتي بالفريد، وتأثيره على جودة المحاصيل الزراعية والعسل الممتاز الذي تشتهر به المنطقة. حتى أن الرحالة العربي عبد العزيز الثعالبي ذكره في كتابه عام 1902 عند زيارته للسياني، مشيدًا بجودة عسلها الذي لا يضاهى.

الوضع البيئي… جراح تنزف بصمت:
أخيرًا، يئن الوضع البيئي في السياني تحت وطأة الاستنزاف الجائر للمياه الجوفية نتيجة الحفر العشوائي، والتوسع العمراني على حساب الأراضي الزراعية، والتوسع في زراعة القات، والتحطيب الجائر للأشجار، والانتشار الكثيف للمخلفات الصلبة التي تهدد التربة والمجاري في المناطق الريفية.

إنها صورة قاتمة لواقع نعيشه اليوم في السياني. واقع يستدعي تحركًا عاجلًا ومسؤولًا من الجميع. يجب أن تصل هذه الصرخات إلى كل قلب وكل مسؤول في “الحالمة”، لإنقاذ ما تبقى من جمال هذه الأرض الطيبة، وضمان مستقبل صحي ومستدام لأهلها. فالصمت هنا جريمة بحق الأرض والإنسان.

Loading

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

‎عجمان.. مبادرات رائدة لحماية البيئة والموارد الطبيعية

شبكة بيئة ابوظبي، عجمان، الإمارات العربية المتحدة، في 19 أكتوبر 2025/وام/ تواصل إمارة عجمان جهودها …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *