كيف يمكن أن تترك الحروب والمجاعات بصمتها في الجينات، لتظل الأجيال القادمة تحمل آثار الماضي في دمائها؟
سلسلة “خواطر وراثية” تأملات في العلاقة بين الإنسان والجينات والحياة، الحلقة رقم (05)
شبكة بيئة أبوظبي، بقلم د. قاسم زكي (*)، أستاذ الوراثة بكلية الزراعة، جامعة المنيا، جمهورية مصر العربية 02 نوفمبر 2025
ذاكرة لا تموت
حين يمرّ الإنسان بتجربة قاسية، كالحرب أو الجوع أو الخوف من الفقد، تترك تلك اللحظة أثرًا في النفس يصعب نسيانه. لكن المفاجأة أن بعض هذه الآثار لا تختفي حتى بعد الموت، بل تظلّ كامنة في الجينات، تنتقل من الآباء إلى الأبناء، وكأنها تقول: “لقد خفتُ ذات يوم… فاحذر أنت أيضًا!”
هذه هي الوراثة اللاجينية (Epigenetics)، أحد أكثر فروع علم الوراثة إدهاشًا في القرن الحادي والعشرين، إذ تكشف أن التجارب الحياتية القاسية يمكن أن تُورّث دون أن تغيّر تركيب وترتيب الجينات نفسها.
الخوف… حين يكتب التاريخ على الـDNA
في عام 2014م نشرت مجلة Nature Neuroscience دراسة صادمة ( Dias & Ressler, 2014): جرى فيها تعريض فئران لرائحة معينة مصحوبة بصدمة كهربائية خفيفة، فتعلمت الفئران الخوف من تلك الرائحة. المذهل أن أبناءها وأحفادها أظهروا نفس الخوف، رغم أنهم لم يتعرضوا لتجربة الألم إطلاقًا! لقد ورثوا الذاكرة العاطفية للخطر من آبائهم عبر علامات كيميائية على الجينات.
وهكذا، بدأ العلماء يتحدثون عن “الذاكرة الوراثية” التي تجعل بعض الشعوب أكثر استعدادًا للقلق، أو أكثر حساسية للأصوات العالية أو الصدمات النفسية، نتيجة لتجارب الأجداد عبر التاريخ.
الحروب والمجاعات… آثار في الدم
في دراسات أُجريت على أبناء ضحايا الهولوكوست خلال الحرب العالمية الثانية، وُجد أنهم يملكون تغيرات في الجينات المسؤولة عن تنظيم هرمون التوتر الكورتيزول، ما جعلهم أكثر عرضة للقلق والاكتئاب (Yehuda et al. 2016) . ودراسة أخرى (Heijmans et al. 2008) على أحفاد مجاعة هولندا الكبرى (1944–1945) كشفت أن سوء التغذية أثناء الحمل أدى إلى تغييرات لاجينية أثّرت على معدلات السمنة والسكري في الأجيال التالية.
تلك النتائج توضح أن الجسد لا ينسى ما مرّ به الأسلاف، وأن آثار التاريخ يمكن أن تظل محفورة في كيمياء الدم والوراثة.
مصر… ذاكرة الخوف القديمة
ربما لا يختلف الأمر كثيرًا في تاريخنا المصري والعربي. لقد عرفت أرضنا الحروب والمجاعات منذ عصور الفراعنة وحتى العصر الحديث. من جفاف النيل في عهد “زوسر” إلى أوبئة العصور الوسطى، ومن الاحتلالات إلى الحروب الحديثة، ظل الخوف جزءًا من ذاكرة الجماعة. ليس غريبًا إذن أن نجد في وجدان المصريين حسًّا عاليًا بالحذر والتوجس والحرص على “تخزين الخير”، وكأنها سمات ثقافية نُسجت من تكرار المعاناة عبر أجيال طويلة. وربما تحمل جيناتنا اليوم – دون أن ندري – صدى تلك المخاوف القديمة.
العلم يفسر… والدين يُكمل المعنى
العلم يقول إن التجارب تُورّث في صورة تغييرات كيميائية على الجينات، لكن الإيمان يضيف بُعدًا آخر: أن الله خلق الإنسان بقدرة على التكيّف والصبر، وعلى تحويل الألم إلى طاقة بقاء. فكما قال الشيخ الشعراوي: “البلاء قد يكون بابًا للارتقاء، ومن صبر نال راحة القلب قبل الجسد.”
إن الخوف الموروث ليس لعنة، بل إنذار مبكر صمّمه الله فينا للحماية من الخطر، وجعل من الشجاعة والرضا وسيلة لإزالته.
بين الخوف والبقاء
الخوف في الأصل غريزة بقاء، وليس ضعفًا. فهو الذي يجعلنا نتفادى السقوط في الهاوية أو نتحسب للمخاطر. لكن حين يتحول الخوف إلى إرث مزمن ينتقل عبر الأجيال، فإنه يصبح عبئًا يقيّد الإبداع ويمنع التقدم. وهنا يظهر دور الوعي الثقافي والعلمي في تفكيك هذا الإرث النفسي، لتتحول “ذاكرة الخوف” إلى “ذاكرة تعلّم”.
من الوراثة إلى الشفاء
الأبحاث الحديثة تُظهر أن العلامات اللاجينية ليست أبدية، بل يمكن تعديلها عبر نمط الحياة والتغذية والعلاج النفسي والبيئة الإيجابية ( مثل دراسة Feil & Fraga,.2012). بمعنى أن ما ورثناه من خوف يمكن أن يتلاشى بالتربية الواعية والدعم الاجتماعي، تمامًا كما يتعافى الجسد من جرح قديم. إنها رسالة أمل تقول: “نعم، نحمل آثار الماضي، لكننا نملك القدرة على إعادة كتابة جينات المستقبل.”
كلمة ختامية
الخوف شعور قديم قدم الحياة، لكنه ليس قدرًا لا يُردّ. تاريخنا محفور في جيناتنا، لكننا نملك العقل والإيمان لنحرّرها من أغلال الذاكرة المؤلمة. وهكذا، تظلّ الوراثة تحكي لنا أن الإنسان ليس ضحية لماضيه، بل هو كائن قادر على أن يبدأ من جديد، في كل جيل، ومع كل خفقة أمل.
المراجع:
1. Dias, B. G., & Ressler, K. J. (2014) Parental olfactory experience influences behavior and neural structure in subsequent generations. Nature Neuroscience, 17(1), 89–96. https://doi.org/10.1038/nn.3594
2. Yehuda, R., Daskalakis, N. P., Bierer, L. M., Bader, H. N., Klengel, T., Holsboer, F., & Binder, E. B. (2016). Holocaust exposure induced intergenerational effects on FKBP5 methylation.Biological Psychiatry, 80(5), 372–380. https://doi.org/10.1016/j.biopsych.2015.08.005
3. Heijmans, B. T., Tobi, E. W., Stein, A. D., Putter, H., Blauw, G. J., Susser, E. S., & Lumey, L. H. (2008). Persistent epigenetic differences associated with prenatal exposure to famine in humans. Proceedings of the National Academy of Sciences (PNAS), 105(44), 17046–17049. https://doi.org/10.1073/pnas.0806560105
4. Feil, R., & Fraga, M. F. (2012). Epigenetics and the environment: Emerging patterns and implications. Nature Reviews Genetics, 13(2), 97–109. https://doi.org/10.1038/nrg3142
📌 يتبع في الحلقة القادمة: «عبقرية الوراثة النباتية»
كيف ساهمت الجينات في جعل الزراعة أكثر ذكاءً وقدرة على مواجهة الجفاف والملوحة؟
(*) د. قاسم زكي
أستاذ الوراثة بكلية الزراعة، جامعة المنيا، الرئيس السابق للجنة الوطنية للعلوم الوراثية بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، بالقاهر الرئيس الأسبق للجمعية الأفريقية لعلوم المحاصيل، عضو المجلس العالمي للنبات (GPC)، عضو اتحاد كتاب مصر
![]()
بيئة أبوظبي وسيلة إعلامية غير ربحية مسؤولية مجتمعية تملكها مجموعة نايا للتميز