سلسلة “خواطر زراعية”، تأملات في العلاقة بين الإنسان والطبيعة والزراعة الحديثة، الحلقة (05)
شبكة بيئة أبوظبي، بقلم الدكتور قاسم زكي (*)، جامعة المنيا، جمهورية مصر العربية 05 نوفمبر 2025م
منذ أن أمسك الإنسان بالمعول لأول مرة، بدأت الزراعة؛ ومنذ أن نظر في الخلية تحت المجهر، وُلد علم الزراعة الحديث. بين المعول والمجهر تمتد رحلة الإنسان الطويلة مع الأرض: رحلة من الفعل الغريزي إلى الفهم العلمي، ومن التجربة الفلاحية إلى التحليل الجيني. ومع ذلك، تبقى الحقيقة واحدة: أن الزراعة ليست مجرد تقنية، بل علاقة أبدية بين العقل والتراب.
من الفطرة إلى العلم
كان الفلاح القديم عالِمًا دون أن يدري. فهو يختار البذور الأفضل عامًا بعد عام، فيمارس الانتخاب الوراثي قبل أن يُولد “منـدل”. وكان يراقب أثر التربة والماء والشمس، فيؤسس أولى نظريات الزراعة المستدامة قبل أن تُكتب في كتب الجامعات.
لكن عندما دخل المجهر المختبر، تغيّر كل شيء. رأى العلماء ما لم تره العين: الخلية، البلاستيدة، النواة، والكروموسوم. وصار ما كان “حسًّا زراعيًا” يتحول إلى منهج علمي، تتداخل فيه الوراثة مع الكيمياء والبيئة والتكنولوجيا الحيوية.
المعول… رمز العرق والفطرة
المعول ليس أداة فحسب، بل رمزٌ للتجذر في الأرض. به شق الفلاح الترع والقنوات، وغرس الجذور الأولى للحضارة. إنه امتداد لليد البشرية، اليد التي لا تنتظر معجزة بل تصنعها كل موسم. فحين يلامس المعول التراب، يستيقظ التاريخ، وحين يُرفع نحو السماء، تبدأ دورة جديدة من العمل والأمل.
المجهر… رمز العقل والفهم
أما المجهر، فهو عين العصر الحديث. من خلاله اكتشف الإنسان عوالم دقيقة لا تُرى، ففهم كيف تنمو الخلايا، وكيف تتفاعل الجينات، وكيف يمكن تحسين المحاصيل لا بالقوة، بل بالدقة. إنه المعول الجديد، لكنه لا يُغرس في الأرض، بل في أسرارها الخفية.
بينما كان الفلاح القديم يُصلح أرضه بالخبرة، أصبح العالم اليوم يُصلحها بالمعلومة. ومع ذلك، كلاهما يخدم الحياة، وكلاهما – بطريقته – فلاح.
لقاء التراث بالعلم
حين يلتقي المعول بالمجهر، لا يحدث صدام، بل تكامل. فالزراعة الحديثة تحتاج إلى الحكمة القديمة، كما تحتاج الفطرة إلى العلم لترشده. الذكاء الاصطناعي والروبوتات الزراعية والمراقبة الفضائية — كلها أدوات متقدمة — لكنها تظل عاجزة إن لم تُبنَ على فهمٍ إنساني لطبيعة الأرض. إن مستقبل الزراعة لا يُكتب في المختبر وحده، بل في الحوار بين من يحمل المعول ومن يمسك بالمجهر.
خاتمة: من التراب إلى الشفرة
ما بين حبة القمح وجيناتها، وما بين فلاحٍ يزرعها وعالِمٍ يحللها، تتجلى عبقرية الزراعة. فهي جسرٌ بين الماضي والمستقبل، بين التراب والشفرة الوراثية. وكلما اقترب الإنسان من فهمها، ازداد إدراكًا أن الزراعة ليست مهنة، بل فلسفة وجود.
(*) د. قاسم زكي
أستاذ الوراثة بكلية الزراعة، جامعة المنيا، الرئيس السابق للجنة الوطنية للعلوم الوراثية بأكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، بالقاهر الرئيس الأسبق للجمعية الأفريقية لعلوم المحاصيل، عضو المجلس العالمي للنبات (GPC)، عضو اتحاد كتاب مصر
![]()
بيئة أبوظبي وسيلة إعلامية غير ربحية مسؤولية مجتمعية تملكها مجموعة نايا للتميز