شبكة بيئة ابوظبي: بقلم المهندس محمد بنعبو، خبير في المناخ والتنمية المستدامة، المملكة المغربية 13 يونيو 2021
لا يمكن اعتبار مؤتمر برلين المحطة الأخيرة في النضال البيئي، بل هو بداية مسلسل دعم الدول بفرص أخرى لترجمة الالتزام حول التربية من اجل التنمية المستدامة على أرض الواقع، لا سيما خلال المحطات الكبرى للأمم المتحدة التي ستنظم الخريف المقبل أهمها الاجتماع الخامس عشر لمؤتمر الأطراف لاتفاقية التنوع البيولوجي في كونمينغ الصينية والدورة السادسة والعشرين لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغيرات المناخية في غلاسكو الاسكتلندية، وفي نفس السياق يحتفل العالم هذا الأسبوع باليوم العالمي لمكافحة الجفاف والتصحر، وقبله بأيام قليلة احتفلنا باليوم للمحيطات، وبيوم البيئة العالمي مناسبة احتضنت احتفالاتها الرسمية دولة باكستان، و هي فرصة للدولة المضيفة لإبراز مجهوداتها المبذولة في مواجهة التحديات المناخية، وهي احتفالية تشرف عليها هيئة الأمم المتحدة منذ مؤتمر استوكهولم العالمي المنعقد عام 1972، مؤتمر كانت من أهم مخرجاته إنشاء برنامج الأمم المتحدة للبيئة، وهو حدث عالمي بامتياز تستعرض فيه المنظمات البيئية الدولية حصيلتها وتقاريرها السنوية في مجالات التربية البيئية والتنمية المستدامة، وهو منصة لتتويج سفراء برامج التربية البيئية و رواد برامج الصحفيين الشباب من أجل البيئة.
فالطبيعة مهمة جدا لبقاء الكائن البشري على كوكب الأرض فهي توفر لنا الأوكسجين، وتنظم لنا أنماط الطقس، وتلقح محاصيلنا، وتنتج لنا الطعام والأعلاف والألياف، لكن الطبيعة تقع تحت ضغط متزايد، فقد غير النشاط البشري حوالي 75 في المائة من سطح الأرض، ضاغطا على الحياة البرية والطبيعة لتنحصر في زاوية متناقصة المساحة من الكوكب، حيث أن هناك ما يقارب من مليون نوع من الحيوانات والنباتات مهددة بالانقراض والعديد منها قد ينقرض في غضون عقود وفقا لتقرير التقييم العالمي لعام 2019 بشأن التنوع البيولوجي وخدمة النظام الإيكولوجي، ويشكل التصحر وإزالة الغابات بسبب الأنشطة البشرية وتغير المناخ تحديات كبيرة للتنمية المستدامة، وقد أثر ذلك على حياة وسبل عيش الملايين من الناس، إن الغابات ذات أهمية حيوية للحفاظ على الحياة على الأرض، وتلعب دورا رئيسيا في مكافحة تغير المناخ.
ويظهر تقرير حالة غابات العالم لعام 2020 أن كوكب الأرض فقد منذ عام 1990 حوالي 420 مليون هكتار من الأشجار لصالح استخدامات الزراعة وغيرها من استخدامات الأراضي. لذا فإن الاستثمار في استعادة الأراضي أمر بالغ الأهمية لتحسين سبل العيش، والحد من نقاط الضعف، والحد من المخاطر بالنسبة للاقتصاد، بينما تلعب صحة كوكبنا أيضا دورا مهما في ظهور أمراض ذات منشأ حيواني، أي الأمراض التي تنتقل بين الحيوانات والبشر. ومع استمرارنا في التعدي على النظم الإيكولوجية الهشة، فإننا نجعل البشر على اتصالٍ دائم بالحياة البرية، مما يمكن مسببات الأمراض في الحياة البرية من الانتشار إلى الماشية والبشر، ويزيد بالتالي من خطر ظهور المرض وانتشاره.
وتهدف التربية البيئية باعتبارها أحد أهم مجالات اشتغال المنظمات البيئية الى إبراز أهمية الترابط بين القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإيكولوجية في كل من المناطق الحضرية والقروية، مع إعطاء كل فرد الفرصة لاكتساب المعرفة والإحساس بالقيم والمواقف والاهتمام النشيط والمهارات اللازمة لحماية البيئة وتحسينها وغرس أنماط جديدة من السلوك لدى الأفراد والجماعات والمجتمع ككل مع التركيز على التوعية والمعرفة والكفاءة والمشاركة.
وفي عام 1976 حدد مؤتمر الأمم المتحدة في بلغراد الغاية من التربية البيئية في: “تنمية سكان العالم الواعين والملتزمين بالبيئة وبالمشاكل المرتبطة بها مع المعرفة والمهارات والمواقف والدوافع والالتزام بالعمل بشكل فردي وجماعي لحل المشاكل الحالية ومنع المشاكل المستقبلية”.
وترجع نشأة التربية البيئية بشكل خاص إلى الحركات الكشفية والمنظمات البيئية الدولية التي تشتغل على حماية الطبيعة، و التي أدخلت عليها مفاهيم المعرفة والمحافظة على الأوساط الطبيعية، وكذا نشر الوعي المتزايد بتداعيات التأثير البشري السلبي على النظم البيئية، وفي عام 1971 اختصر الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة مفهوم “التربية البيئية” في كونها: “عملية للتعرف على القيم وتوضيح المفاهيم التي تطور المهارات والمواقف اللازمة لفهم وتقدير العلاقات بين الناس وثقافتهم وسياقاتهم البيولوجية والفيزيائية وتنطوي التربية البيئية أيضا على صنع القرار والتدريب الذاتي فيما يتعلق بجودة البيئة”.
في عام 1987 وعلى هامش مؤتمر موسكو حددت اليونسكو وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة إطارًا مرجعيًا للتربية والتكوين البيئيين، في أفق تدريب سكان العالم الذين يدركون ويهتمون بالبيئة والمشاكل ذات الصلة والذين سيكون لديهم المعرفة والمهارات والحالة الذهنية والدوافع والشعور بالالتزام الذي سيسمح لهم بالعمل بشكل فردي وبشكل جماعي لحل المشاكل الحالية ومنع ظهور مشاكل جديدة.
منذ عام 1977 والتربية البيئية قائمة على “تعليمات عامة بشأن تعليم التلاميذ في المسائل البيئية ” قبل أن يتم استبدال هذا المفهوم بالتربية البيئية الموجهة من منظور التنمية المستدامة: “إن التربية البيئة من أجل التنمية المستدامة تعالج القضايا البيئية من خلال دمج العوامل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وهي جزء من هدف الإدارة المعقدة للكوكب وهي تقدم نهجا نظاميا يتم على جميع المستويات ”
في فترة التسعينات ظهر مفهوم التنمية المستدامة، و أدخل مصطلح “التربية البيئية والتنمية المستدامة” في نصوص وزارة التربية الوطنية الفرنسية في عام 2004، فمنذ المؤتمر الوطني الأول حول التربية البيئية في مدينة ليل الفرنسية عام 2000 بقيادة التحالف الفرنسي للتربية البيئية من أجل التنمية المستدامة كانت هناك تعبئة متزايدة لمختلف الجهات الفاعلة، أربع سنوات على لقاء مونتريال التاريخي للتربية البيئية والذي جمع العديد من منظمات المجتمع المدني و الفاعلين في مجال التربية البيئية، التأم أزيد من 3000 مشارك من جميع الدول الفرنكفونية في مدينة رامبوييه الفرنسية شهر نونبر 2001 في منتدى فرنكفوني للتربية البيئية: “إن التربية البيئية من منظور التنمية المستدامة هو التعليم الذي يضع القيم أولا، يجب أن تميل التسلسلات التعليمية التي نضعها إلى جعل الناس يدركون أن الأرض خير مشترك يجب علينا الاهتمام به، وأن جميع البشر متحدون مع بعضهم البعض مع هذه الأرض ومع كل من يعيش على بسيطتها، يجب أن يؤدي هذا التعليم إلى الاستقلال الذاتي الذي يسمح لكل شخص بالتفكير والبت والتصرف من تلقاء نفسه، يجب أن تؤدي إلى المسؤولية التي تضعنا في العمل، ويجب أن تجعل جميع المواطنين يحملون القيم الديمقراطية ويتم تعبئتهم دائما من أجل تنفيذها” روبير ليتزلر الخبير الكندي في مجال التربية البيئية من أجل التنمية المستدامة و المنسق الدولي لشبكة مدارس بلانتير.
و تهم التربية من أجل التنمية المستدامة جميع الفئات بغض النظر عن أعمارهم وبلدهم الأصلي ووظيفتهم في المجتمع، إنها تربية نظامية رسمية وغير رسمية و لا تسعى لتشكيل النخب، ولا يخلق نهجها الاستبعاد بأي شكل من الأشكال بل يثري نفسه بالتنوع، تجعلنا نفهم أن كل فرد يؤثر على البيئة، ويهدف إلى اعتماد السلوكيات اليومية اللازمة للقضاء على الفقر ولحماية أو استعادة أو تحسين نوعية بيئتنا، والتي يتم اختيارها بحرية من قبل أكبر عدد من الرواد، التربية من أجل التنمية المستدامة هي موجهة نحو العمل، فهي تجلب الأفراد والجماعات للمشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية لأرضهم وللكوكب، التربية على التنمية المستدامة هي مدرسة المشاركة.
في عام 2013 تم نشر مفهوم “التربية البيئية من اجل التنمية المستدامة” على نطاق واسع عبر العالم بالتوازي مع انعقاد المؤتمر العالمي للتربية البيئية بمدينة مراكش في نسخته السابعة و الذي أشرفت على تنظيمه مؤسسة محمد السادس لحماية البيئة، والتي تشرف على تنزيل التربية البيئية و التنمية المستدامة عبر عدة برامج تربوية مندمجة من أهمها برنامج المدارس الإيكولوجية و برنامج الصحفيين الشباب من أجل البيئة و كذا برنامج شواطئ نظيفة، بينما بحلول عام 2030 حددت الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة 17 هدفا استراتيجيا من أهداف التنمية المستدامة: “من أجل الكوكب والناس والازدهار والسلام والشراكات”، من أجل توحيد مسار جميع الفاعلين والمتدخلين في مجال التربية البيئية والتنمية المستدامة في المجتمع.
نحن نعتمد كليا على الموارد الطبيعية للهواء والماء والغذاء والعديد من المنتجات مباشرة من الطبيعة وضرورية لبقائنا، لذا فإن التأثير المتزايد للبشر على النظم البيئية والحياة البرية والذي تعززه آثار تغير المناخ يزيد بشكل كبير من تعرضنا للمخاطر الصحية، فنحن نواجه الآن أزمة في النظام البيئي ووباء كورونا المستجد هو مثال على ذلك، لذلك من الضروري توفير حماية أفضل للمساحات الطبيعية البكر ووضع حد للاستهلاك والتجارة غير المشروعين للأنواع البرية واستعادة توازن النظم البيئية المتضررة ووقف تغير المناخ و لن يتأتى هذا إلا بإدماج التربية البيئية و التنمية المستدامة في جميع أسلاك و مسارات التكوين التعليمي و الأكاديمي حفاظا على زرقة سماء كوكب الأرض، التزام المغرب بشأن التربية على التنمية المستدامة تجسد من خلال الانخراط في الإطار العالمي الجديد حول: “التربية من أجل التنمية المستدامة في أفق 2030” المعتمد في نونبر 2019 من طرف الدورة 40 للمؤتمر العام لليونسكو، والذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة، إطار جديد يروم تكثيف العمل في إطار عقد الأمم المتحدة من أجل التربية في خدمة التنمية المستدامة 2005- 2014 وبرنامج العمل الشامل للتربية من أجل التنمية المستدامة 2015- 2019 إلى العمل الذي تقوم به صاحبة السمو الملكي الأميرة للا حسناء التي جعلت من التربية على التنمية المستدامة المهمة الرئيسة لمؤسسة محمد السادس لحماية البيئة عبر إعادة توجيه التربية والتعلم بغية المساهمة في التنمية المستدامة وتعزيز التربية والتعلم للجميع.
ويسعى برنامج التربية من أجل التنمية المستدامة الذي تنزله مؤسسة محمد السادس لحماية البيئة إلى تمكين المتعلمين من معارف ومهارات وقيم وسلوكيات ضرورية للمساهمة في عالم أكثر اندماجا وعدالة وسلما واستدامة، وتم إطلاق هذا الإطار الجديد رسميا خلال المؤتمر العالمي لليونسكو حول التربية في خدمة التنمية المستدامة، الذي انعقد من 17 إلى 19 ماي 2021 بألمانيا، وهي مهمة ليست بغريبة على مؤسسة محمد السادس لحماية البيئة، التي انخرطت في هذا الأفق منذ بداية هذا العقد، خصوصا عبر برامج موجهة كليا نحو التربية. ويمكن الإشارة في هذا السياق إلى برنامج “المدارس الايكولوجية” المعتمد لدى المدارس الأولية والابتدائية، وبرنامج “الصحفيين الشباب من أجل البيئة” بالنسبة للإعداديات والثانويات، وإدماج إشكاليات الاستدامة في المقررات الدراسية وتكوين صحفيين شباب من خلال منصة للتعليم عن بعد وكذا تطوير أدوات بيداغوجية عن بعد.
بينما تحث اليونسكو ت على تحويل التربية البيئية إلى مكون أساسي في المناهج الدراسية بحلول عام 2025، أنجاز جاء نتيجة تضافر أكثر من ثمانين وزيرا ونائب وزير مع 2000 جهة من الجهات المعنية في مجالي التعليم والبيئة، وقطعوا على أنفسهم عهدا باتخاذ تدابير ملموسة لتحويل التعلم من أجل ضمان نجاة كوكبنا، وذلك من خلال الاعتماد إعلان برلين بشأن التربية من أجل التنمية المستدامة، في أعقاب المؤتمر العالمي الذي عقد افتراضيا من العاصمة الألمانية أيام 17 و 18و19 ماي الماضي، وتجدر الإشارة إلى أن أكثر من عشرة آلاف شخص تابعوا أعمال المؤتمر عبر الإنترنت، وقد ساهم المنشور الذي أصدرته اليونسكو في إثراء حلقات النقاش، إذ تحلل فيه الخطط التعليمية وأطر المناهج الدراسية في زهاء خمسين بلدا ويكشف هذا المنشور أن أكثر من نصف هذه البلدان لا يتطرق إلى مسألة تغير المناخ، في حين أن 19٪ منها فقط تعنى نوعا ما بالتنوع البيولوجي، ويشمل إعلان برلين سلسلة من السياسات الرامية إلى إحداث تحويل واسع النطاق في مجال التعليم، بما في ذلك مجالات التدريس والتعلم والتدريب المهني والمشاركة المدنية. ويبرز الإعلان أيضا الحاجة إلى إعمال التعليم من أجل التنمية المستدامة مع التركيز على المهارات المعرفية والتعلم الاجتماعي والعاطفي والمهارات اللازمة لتحقيق جملة من الأمور، من بينها التعاون، وحل المشاكل، وتعزيز القدرة على الصمود والتأقلم.
ويعتبر لوران فابيوس، الذي ترأس الدورة الحادية والعشرين لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، أن “المعركة ضد تغير المناخ تبدأ في المدرسة.” وشدّد على الالتزامات التي يتعهّد بها هذا الاتفاق في مجال التعليم، ودعا إلى تكثيف الجهود المبذولة في سبيل تحسين تدريب المعلمين في مجال التعليم من أجل التنمية المستدامة من خلال زيادة التمويل، وقال في هذا الصدد: “سوف يشهد عام 2021 انتصارنا على الجائحة، وسوف نستهل خلاله نمطا جديدا للتنمية المستدامة من أجل مستقبل يشتمل على التعليم من أجل التنمية المستدامة. وإننا وإن فوتنا هذه الفرصة، إنّما نفوّت على أنفسنا عقوداً من الزمن، فإننا في سباق مع الوقت “، ولم يفوت المؤتمر لحظةً إلا وسلّط الضوء فيها على أصوات الشباب الذين كانوا أول ما ناشد بإحداث التغيير حتى يتمكنوا من #التعلم_من_أجل_كوكبنا، وسوف يولد اعتماد إعلان برلين زخما لتنفيذ خارطة طريق التعليم من أجل التنمية المستدامة لعام 2030 – التي تعتبر بمثابة إطار لعقد الأمم المتحدة للتعليم من أجل التنمية المستدامة، وسوف يطلب من كل دولة عضو لدى اليونسكو إنشاء شبكة من الجهات الفاعلة التي يمكنها التضافر من أجل تنفيذ هذه الرؤية التعليمية الطموحة.