الدبلوماسية البيئية.. الرهان الرابح لكسب التحدي الطاقي بآفاق تنموية

المملكة المغربية والإمارات العربية المتحدة نموذجاً
شبكة بيئة ابوظبي، عبد العالي الطاهري، مدير البرنامج الوطني، الإعلام الإيكولوجي، المملكة المغربية 09 ديسمبر 2021

لطالما انحصر مفهوم «الدبلوماسية» في القراء ذات التوجه التفاوضي السياسي بين الدول وفي أحيان أخرى بالشأن الاقتصادي، لكن جملة المتغيرات التي عرفها المنتظم الدولي، خاصة خلال العقدين الأخيرين أي مع بداية الألفية الثالثة، وكذا زيادة التفاعل بين مكوناته حول الانشغالات الكبرى المشتركة عالميا. فلم تعد الدبلوماسية تقتصر على إيفاد المبعوثين لتعزيز العلاقات أو إدارة الخلافات، ولم تعد تلك القضايا تقتصر على حماية المصالح السياسية، بل ظهرت قضايا مهمة أخرى مثل حماية المصالح الاقتصادية، ودرء التهديدات الاجتماعية ذات الأبعاد الأمنية مثل قضية الهجرة غير النظامية، وفرضت قضايا أخرى نفسها بقوة على أجندة السياسة الدولية لطبيعتها العابرة للحدود وهي المشكلات الإيكولوجية المرتبطة بالتدهور البيئي والاحتباس الحراري حول العالم ومعضلات أخرى.…

وعندما وجد قادة الدول والحكومات ضرورة للجلوس والتفاوض بشأن أساليب التخفيف من الآثار الكارثية للتغييرات المناخية وظواهر أخرى أكثر من خطيرة، وفي مقدمتها « الاحتباس الحراري » علاوة على الاستنزاف المفرط لأهم مصادر الطاقة، خاصة النظيفة منها، وكذا الثروات ذات الأولوية والأهمية القصوى للبشرية ولكافة الكائنات الحية على كوكب الأرض، وفي مقدمتها المياه، كل ذلك في أفق ضمان استمرار دورة الحياة والحفاظ على الحد الأدنى من التوازنات الإيكولوجية، نشأ المفهوم الجديد المُؤطِّر للعلاقات الدولية والذي أُطلق عليه « الدبلوماسية البيئية ».

ومع تطور الدبلوماسية البيئية كآلية وكمنهج للتعاون الدولي، تطورت ترسانة القانون الدولي وتمَّ إبرام اتفاقيات دولية لها صفة «الإلزامية» (والشمول)، وقد حدث ذلك فقط في اتفاقية بيئية، وتحديدا اتفاقية باريس للمناخ 2015، حيث تلتزم (جميع) أطرافها بتقديم خططها الوطنية بشأن حجم الانبعاثات دوريًا، وهنا تطور مفهوم الدبلوماسية البيئية إلى دبلوماسية المناخ.
تؤثر الدبلوماسية البيئية وقضاياها على السياسات الداخلية كما تؤثر على الخارجية منها للدول، فعلى سبيل المثال لم تَخْلُ حملات الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2020 من «دعاية بيئية»، فبمقارنة رؤى وتوجهات المرشحين الديمقراطي والجمهوري، بايدن وترامب، سيظهر حجم الخلاف بشأن القضايا البيئية، فعلى حين روَّج بايدن لفكرة تحويل بلاده لدولة تعتمد كليًا على توليد الطاقة من مصادر نظيفة خلال الثلاثين عاما المقبلة، استند ترامب على تشجيعه التوسع فى عمليات التنقيب في ألاسكا وغيرها من الأراضي الأمريكية على مصادر الطاقة التقليدية وخاصة الأحفورية، وهو ما كان له بالقطع، كبير الأثرعلى توجهات السياسة الخارجية الأمريكية ومعها الدبلوماسية البيئية عالميًا.

في الآونة الأخيرة، أصبحت الاستدامة من أكثر المصطلحات الدارجة استخداماً، وأخذت مكانتها ضمن الحوارات والمفاوضات الجارية على الصعيد العالمي، وكان الأثر الإيجابي لذلك هو تنامي الوعي والإدراك بأهمية إدماج الاستدامة في كل المفاهيم والمناهج المعتمدة، سواء ما يتعلق منها بالأخلاقيات والسلوكيات أو باستراتيجيات الأعمال. وبدون شك، فإن مستقبل العالم سيعتمد في النهاية على المنهج المتبع للحفاظ على البيئة والنمو الاقتصادي والدمج الاجتماعي، أما الحوارات العالمية القائمة فهي تظهر الدور الرئيسي الذي تلعبه الدبلوماسية على المستوى العالمي لإنشاء تكتيك ثابت ومسؤول، وتنفيذه وتحقيقه، وهو الأمر الذي أدَّى لبروز صيغة جديدة للدبلوماسية، وهي الدبلوماسية المستدامة أو الدبلوماسية الإيكولوجية.

وبحسب وزارة الخارجية الأمريكية، توصف الدبلوماسية المستدامة أو البيئية بأنها «ممارسة حمائية بيئية مُعزَّزَة بإجراءات دبلوماسية للاستفادة من نماذج الحفاظ على الموارد الطبيعية، والعمليات المستدامة والإشراف الفاعل على البيئة» . وفي الوقت الذي تعمل فيه الأمم المتحدة على الاضطلاع بدورها الريادي في تحديد كيفية قيام الدول بالتنمية المستدامة من خلال وضعها للأهداف ال 17 للتنمية المستدامة، فإننا نلاحظ تزايداً في الدور المحوري الذي تلعبه الدبلوماسية البيئية لتحقيق تلك الأهداف، إذ تعتبر أهداف التنمية المستدامة بمثابة نداء موجه لجميع البلدان بغض النظر عن ثرواتها أو أوضاعها، للعمل على تعزيز ازدهارها مع الحفاظ على كوكب الأرض، والموازنة بين استراتيجيات النمو الاقتصادي عبر معالجة القضايا الأساسية، مثل احتياجات التعليم والرعاية الصحية والحماية الاجتماعية وفرص العمل. وعلى أيّ حال، لا يمكن لحكومات تلك الدول أن تعمل بشكل منعزل، فالشراكات على المستويين الإقليمي والدولي أمرٌ حاسمٌ في تحقيق الأهداف الطامحة لتحقيق مزيد من المنافع على نطاق العالم. وتعتبر الدبلوماسية المستدامة القوة الدافعة لإقامة تلك الشراكات والمحافظة عليها، وتمكين الحكومات والمبتكرين والباحثين والقطاع الخاص والمجتمع المدني من العمل معاً بغية إيجاد حلول تعالج قضايا التنمية المستدامة.

المملكة المغربية.. رهان «السيادة الطاقية» في أفق تنمية مستدامة شاملة.
منذ وقت طويل، أدركت المملكة المغربية الأهمية القصوى والاستراتيجية لآلية «الدبلوماسية الإيكولوجية» في تحقيق هدفين كبيرين ومحوريَّين، يتعلق الأمر ب «التنمية المستدامة» وكذا الحفاظ على «التوازنات البيئية ودورة الحياة الإيكولوجية»، وهو ما شرع فيه المغرب منذ عقدين من الزمن، لكن جاءت سنة 2009 لتعرف إعطاء الانطلاقة الرسمية لتبنِّي «الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة والطاقات المتجددة»، من خلال ركيزتين أساسيتين، الأولى بقراءة تنموية والثانية دستورية تشريعية، نوجزهما في المحورين التاليين:

ـ التبني الفعلي لاستراتيجية «الطاقات المتجددة» كطاقات بديلة ونظيفة، تُحقق شرطَي «التنمية المستدامة» و «الحفاظ على التوازنات البيئية» ومعهما الثروات والمقدرات الطبيعية على كوكب الأرض.
ـ ضرورة التسريع بدسترة ووضع إطار تشريعي واضح ومُحدَّد لمفهومَي «الحكامة الإيكولوجية» «النجاعة الطاقية»، وهو ما تمكَّن المغرب من إقراره منذ سنة 2009، من خلال القانون رقم 13.09 المتعلق بالطاقات المتجددة والقانون رقم 16.09 المتعلق بالوكالة الوطنية لتنمية الطاقات المتجددة، وأيضا القانون رقم 47.09 المتعلق بتطوير النجاعة الطاقية.
وارتباطاً بمضامين « النموذج التنموي الجديد » الذي أقرّته المملكة المغربية (أنظر التقرير العام ـ أبريل 2009) كخارطة طريق بأبعاد استراتيجية وطنية، فقد أثار في قسمه الأول المعنون ب « مغرب اليوم وعالم الغد » وفي عنوانه الفرعي الأول « التحولات الوطنية والعالمية » (الصفحة 38) من التقرير، أثار جملة المعضلات والإشكاليات البيئية التي قد يعانيها المغرب إن هو لم يعتمد سياسة استشرافية وقائية تجاه منظومته البيئية، من خلال إعمال حكامة إيكولوجية و ترشيد موارده الطاقية وثرواته الطبيعية، وهو ما جسدته « الاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة » والتي شرع المغرب في تنزيلها منذ سنة 2009، وتُعد هذه الاستراتيجية جوهر النموذج التنموي الجديد، في بُعديه الطاقي والتنموي، حيث تتلخص أهدافها الكبرى في تسريع الانتقال التدريجي للمغرب نحو منظومة الاقتصاد الأخضر الشامل، وتعتبر (هذه الاستراتيجية الوطنية) مُنجَزاً وطنياً، تمَّ في إطار تشاوري مع كل الجهات المعنية، من قطاعات وزارية وقطاع خاص ومجتمع مدني، ليخلُص المتدخلون إلى إعداد 21 مخطط قطاعي للتنمية المستدامة، تُحدِّد مساهمة القطاعات الوزارية المعنية.

وارتباطاً بالإطار التشريعي والدستوري الخاص بحماية البيئة والتنمية المستدامة بالمملكة المغربية، فقد جاءت مضامين الفصول 31 و35 و151 و152من الدستور المغربي لتجيب على هذه الإشكاليات، على المستويين الحقوقي والمؤسساتي.
وبانخراط المملكة المغربية في الجهود العالمية الرامية إلى تنزيل توصيات ومُخرجات القمم المناخية العالمية، وآخرها قمة غلاسكو (الكوب 26)، من خلال الاستراتيجية الوطنية للطاقات المتجددة 2030، الشمسية منها والريحية والكهرومائية وأيضاً ما أصبح يُصطلح عليه بالنفط النظيف أو الهيدروجين الأخضر، كل ذلك في أفق تحقيق الهدف الأكبر والمتعلق بدخول المغرب نادي الاقتصاديات الخضراء، وهو الأمر الذي أصبح قريب التحقيق بإذن الله تعالى، خاصة مع النتائج المبهرة التي تمَّ تحقيقها، بعد احتلال المغرب المرتبة الخامسة عالميًا في مؤشر الأداء المناخي برسم العام 2021 من بين 57 دولة إضافة إلى الاتحاد الأوروبي، والتي تُمثل مجتمعة ما معدله 90% من انبعاثات الغازات الدفيئة العالمية .
إلى ذلك، فالمغرب استطاع أن يُروِّج لنموذجه الطاقي الجديد عبر العالم، من خلال دبلوماسية بيئية رصينة وهادفة على مرجعية أكاديمية يقودها رأسمال بشري مؤهل علمياً وبخبرة مهنية كبيرة، إنها تنمية خضراء على جميع الأصعدة، تجعل من المغرب نموذجا يحتذى.
لتبقى قمة المناخ العالمية (كوب22) التي احتضنتها عاصمة السياحة المغربية مراكش سنة 2016، محطة فارقة في تاريخ النضال المناخي المغربي لصالح البشرية وكوكب الأرض، وزيادة تأكيد على القيمة الاعتبارية العالمية التي باتت تحتلها المملكة المغربية ضمن نادي البلدان الخضراء.

الإمارات العربية المتحدة.. رؤية استراتيجية بأبعاد إيكولوجية تنموية.
تولي دولة الإمارات العربية المتحدة أهمية بالغة للبيئة المستدامة والبنية التحتية المتكاملة، وتعتبرها واحدة من الركائز الأساسية ضمن الأجندة الوطنية لرؤية الإمارات 2021، الأمر الذي يجعل من الاستدامة محوراً رئيسياً في استراتيجيات الحكومة وتفاعلاتها مع القطاع الخاص. وفي إطار الإشادة بالجهود الدبلوماسية الاستثنائية التي تبذلها في هذا المجال، وقع الاختيار على دولة الإمارات لاستضافة المقر الرئيسي للوكالة الدولية للطاقة المتجددة (إيرينا)، في خطوة ساعدت الإمارات كي تصبح في المستقبل مركزا أساسياً في المنطقة لقطاع الطاقة المتجددة مع تطوير المواهب والخبرات المطلوبة بشكل متزايد ضمن هذا المجال المتخصص.

وفي ظل الاضطرابات التي يشهدها عالمنا اليوم، يميل الرأي العام بشكل متزايد نحو تفعيل قوة الإقناع الناعمة كأداة حيوية للحفاظ على السلم والتنمية الدوليين. ويشير التحول في التركيز نحو الدبلوماسية المستدامة إلى التطور الذي يشهده دور الدبلوماسية على مستوى العالم. إلى ذلك، فقد جرى تأكيد الحرص على أن يكون دبلوماسيو الإمارات في طليعة القائمين بهذا الدور الجديد على الساحة الدبلوماسية. وفي هذا الإطار وجبت الإشارة إلى الدور الهام والمحوري الذي تقوم به «أكاديمية الإمارات الدبلوماسية» من خلال تزويد طلابها بالمعرفة والمهارات الأساسية للنجاح في مسيرتهم الدبلوماسية، وتطوير المنهاج الدراسي لمساعدة الخريجين على الإبداع في التفكير، واعتماد نهج شمولي في تعاملاتهم مع الحالات التي تواجههم والتوصل إلى قرارات سديدة بشأنها. من ناحية أخرى، تعمل الأكاديمية على تكييف برامجها بصورة تلبي الأولويات الناشئة والمستجدة، وتواكب تطور التكنولوجيا الحديثة، وفي المرحلة المقبلة، سيتم إدماج أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة ضمن المنهاج الدراسي لأكاديمية الإمارات الدبلوماسية، وذلك من منطلق إدراك أهمية تلك الأهداف بالنسبة للجيل القادم من الدبلوماسيين والقيادات الحكومية، كما شكَّلت المشاركة الواسعة لأكاديمية الإمارات الدبلوماسية في أسبوع أبوظبي للاستدامة سنة 2018، لتعزيز الفهم على مستوى التوجهات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي تسهم في صياغة التنمية المستدامة على مستوى العالم.
كما وضعت الأجندة الوطنية لرؤية الإمارات 2021، عدة مؤشرات لضمان التنمية المستدامة للبيئة وزيادة كفاءة موارد الطاقة التقليدية والجديدة، وعملت الحكومات المحلية في دولة الإمارات على تفعيل عدة خطط واستراتيجيات تساعد في تحقيق رؤية الإمارات في هذا الصدد.

وزير الخارجية الإماراتي الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان أعلن في وقت سابق عن تقدم دولة الإمارات بطلب لاستضافة الدورة الثامنة والعشرين لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ “كوب 28” في أبوظبي عام 2023.
ولقي الإعلان عن احتضان الإمارات العربية المتحدة لقمة المناخ «الكوب28»، الذي جاء عقب إيداع دولة الإمارات خطاباً رسمياً حول رغبتها باستضافة هذا الحدث إلى كل من أمانة اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، ورئيس مجموعة آسيا – المحيط الهادئ، بحسب موقع وزارة الخارجية الإماراتية، لقي هذا طلب تأييدًا دوليًا كبيرًا، فقد أعربت كل من البحرين والأردن وكوريا الجنوبية عن دعمها للخطوة الإماراتية، وأكدت الدول الأعضاء في مجموعة آسيا والمحيط الهادئ عن موقف مماثل، أثناء قمة المناخ الأخيرة المنعقدة بمدينة غلاسكو الاسكتلندية « كوب 26 ».

كوفيد19.. كيف تساهم «الدبلوماسية البيئية» في بلورة الحلول؟

لقد جاءت أزمة كوفيد- 19 لتصنف كأزمة وبائية بيئية، نتجت عن الاختلال الشديد في النظام البيئي. و لفتت تلك الأزمة الوبائية النظر لأهمية الدبلوماسية البيئية لأنها أوجدت ضرورة للتنسيق بين الدول والمنظمات في أثناء محاولات مواجهة تلك الأزمة، المستمرة حتى اليوم، سواء من خلال تعاون بحثي للتوصل للقاح أو التضامن بين الدول لتوفير وتبادل الخبرات والاحتياجات اللازمة للوقاية والعلاج، وبالتالي فقد خلقت الأزمة قناعة دولية بضرورة ضم جميع الفاعلين من دول ومؤسسات دولية وغير حكومية وأفراد: علماء ومبادرين، والتعاون فيما بينهم لبحث سبل الوقاية ومنع ظهور أوبئة جديدة، وهو أمر لن يتحقق دون العمل على مواجهة المشكلات البيئية، بعد أن ثَبُت علميًا أن التدهور البيئي كان سببا لأزمة كوفيد- 19، وهو ما سيفتح المجال -مستقبلا- لتطور جديد ومهم بشأن الدبلوماسية البيئية.

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

الهدف الجماعي الجديد (NCQG) في مفاوضات المناخ (COP29)

قمة المناخ وكيفية الاستفادة من التمويل الدولي لدعم استراتيجيات التكيف والتخفيف – ميسون الزعبي: تحفيز …