الخط العربي يشكل فن وتصميم الكتابة في عدد كبير من اللغات
لم يبلغ مبلغ الفن والابداع إلا بتطور الثقافة العربية والاسلامية
مثلت اللغة العربية كنزاً مهماً للدارسين والباحثين في اللسانيات واللغات، باعتبارها لغة القرآن الكريم، وحروفها تكتب في أكثر من قارة، أضف إلى ذلك جمالية حروفها التي مثلت مجالاً مهماً للحروفيين والفنانين المهتمين بالخط العربي بأنواعه المختلفة وتجلياته المتعددة، وشهد على امتداد حقب مختلفة تطورات متعددة أضفت عليه جماليات مختلفة شكلت منه فناً قائماً بذاته، استطاع أن ينتشر في مختلف أنحاء العالم، وأن يكون له صدى وتأثير إيجابي على انتشار اللغة العربية «الأم»، التي تمثل المعون الملهم للدارسين والفنانين.
فالخط العربي يشكل فن وتصميم الكتابة في عددٍ كبيرٍ من اللغات التي تستعمل حروف اللغة العربية ذات الأشكال الهندسية المختلفة، من خلال المد والرجع والاستدارة والتداخل والتشابك والتركيب، كما ارتبط هذا الفن بفن أصيل في الثقافة الإسلامية، وهو فن الزخرفة التي غطت واجهات القصور وزينت المساجد والأماكن الأثرية.
كان استعمال الفنانين للخط العربي حاضنة فنية أمراً اضطرارياً في البداية، على اعتبار نهي الشريعة الإسلامية عن تصوير البشر والحيوان، فشكّل بالتالي ملاذاً لهم وفرصة لاختيار اللغة العربية بانزياحات فنية مختلفة ورؤى جمالية خرجت به من مجال العادي كحروف ومبانٍ إلى معانٍ فنية أصبح لها حضورها الفاعل في المشهدية الفنية في العالم الإسلامي وخارجه.
قراءة تاريخية
حسب المؤرخين المهتمين بالخط العربي فهو مشتق من الخط المسند، والذي عُرف منه أربعة أنواع هي: الخط الصفوي نسبة إلى تلول الصفا، والثمودي نسبة إلى ثمود سكان الحجر، والخط اللحياني نسبة إلى لحيان، والخط السبئي أوالحميري الذي وصل من اليمن في جنوب الجزيرة العربية إلى الحيرة، ومنها إلى الحجاز غرب الجزيرة العربية.
ويذهب عدد من علماء اللغة إلى أن الخط العربي مشتق من الخط الأرامي لا المسند، مؤكدين أن الخط الفينيقي يولد منه الخط الأرامي، ومنه يولد الهندي بأنواعه والفارسي القديم والعبري والمربع التدمري والسرياني والنبطي.
وأضاف المؤرخون أن الخط العربي قسمان، الأول يتمثل في الكوفي المأخوذ من السرياني ويطلق عليه الاسطرلنجي، والثاني هو النسخي المأخوذ من النبطي.
وكانت بدايات الخط العربي تعتمد على البساطة دون ابتكار وإبداع، ولم يبلغ مبلغ الفن إلا بتطور الثقافة العربية الإسلامية ونشأة الدولة، وقد تعددت المراكز الثقافية في الكوفة والبصرة والشام ومصر، وهو ما أتاح للفنانين والرسامين فرصاً للابتكار والإبداع فيه، ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية في العراق والشام ظهرت الكتابات على الأواني والتحف وازداد الاهتمام بكتابة المصاحف وزخرفتها، وهو ما برع فيه المسلمون في صدر الإسلام بشكل لافت، فاستنبطوا أشكالاً جديدة من الخطوط العربية كان أبرزها، الخط الكوفي وخط النسخ وخط الثلث وخط الرقعة وخط الديواني والخط الفارسي.
رؤية فنية
في كتابهما المشترك «فن الخط العربي» الصادر باللغة الفرنسية عن منشورات شان، يؤكد الباحثان عبدالكريم الخطيبي ومحمد السجلماسي أنه ينبغي أن نبوِّئ فن الخط العربي منزلته العامة في الفن الإسلامي من عمارة وفسيفساء وموسيقى وزخرفة.. إلخ. وأبدى الباحثان جملة من الملاحظات، أهمها أن الفن الإسلامي لم يكن متمركزاً في مكة ولا في تمبكتو، ولكنه يقدم مشهداً متنوعاً لا يتمحور حول مركز واحد، وخير مثال على ذلك ما يرسمه الصينيون المسلمون، فمثل خطهم ليس عربياً إلا بالتجوز نظراً لكونه يتجاوز منبعه الأصلي، فالكتابة التخطيطية تجوّف الحرف العربي وتجعله يدور حول نفسه ليحقق موازنة تشكيلية، فكل ثقافة ترضي ذاتها بأن تنقل الثقافات الأخرى إلى مواطن اختلافها، فالرغبة تنفجر بوساطة المد ذي الجذور المتباعدة.
ويخلصان إلى نتيجة مهمة، وهي أن الزخرفة والخط العربيين ينشآن قائمة عامة تتضمن أماكن ومواد متنوعة من عمارة ونمنمات وزرابي وأقمشة وحلي ونقود وأعلام وفسيفساء وخزف وبلور منقوش، وكل ذلك على حد عبارتهما إيقاع من الأشكال البذخة والمقدسة.
فالخط العربي في الإسلام تزوقه المقدسات فيشع في كل الأماكن، وتتأقلم الكتابة مع كل مادة ومع كل شكل لتنطوي على بعد جوهري في الوجود، فالفنان المسلم يستقي متعته عبر النص المقدس الذي ينبغي أن يعود إليه، لينشئ الشيء إنشاء وهمياً، وبواسطة هذه الإشارة يلتحق الفنان المسلم بالوجود الخاص بكل فن إذ يستحضر بشكل غير محدود كل ما هو موجود، وتفتح هذه الإشارة المجال لرسم خفي يرسم النفس في طريقها لاحتواء الفراغ والإقامة فيه بفضل خطوط كتابية كالحروف المكتوبة بجمال مطلق والمختصرات الرمزية للأسماء وهندسة الأمثال الإلهية، ففي التداول الإيقاعي للمقاطع الزهرية والهندسية يسجل ما يدركه البصر بوساطة نور الجسد في بعض السمات الأساسية التي يدور حولها اللون الأبيض والفراغ ومظاهر الزينة الهامشية، ومن الفسيفساء إلى الخط تنبجس نبضة ناعمة رشيقة، وهذا ما يؤكد أن مميزات الفن الإسلامي لا تكمن في الرهبة من الفراغ أو من أي مجانية هندسية، وإنما هي دفع نحو تقديس مطلق، فهي (امتلاء المقدس الذي يحفظ بفراغه الخاص).
تجريدي روحاني
وقد اكتسب الخط العربي جماليات فنية جعلت لوحته اليوم حاضرة في جل المعارض شرقاً وغرباً، حيث يقول الفنان والخطاط العربي العالمي نجا المهداوي في شهادة له عن صيرورة فن الخط نُشرت في كتاب حول تجربته «سلسلة كراسات دار سيباستيان-دار المتوسط للنشر 2020»، إن الخط العربي أساس من أهم أسس الإسلام التجريدي الروحاني وينجذب إليه في راهننا عد قليل من الرسامين العرب.
أما فيما يتعلق بتجربته الشخصية في هذا المجال، فيقول «لقد انطلقت من مبدأ تأمل التراث وفهم المصادر التاريخية، فالخط العربي بثرائه وتعقيداته فن فريد على المستوى البصري التشكيلي، لأنه يتضمن عالماً بلا حدود من التعبير التصويري، وهو عندي أثر تشكيلي يفرغ الحرف من معناه ويكف عن حمل أي خطاب علمي فيتحول إلى بنية دالة تشكيلية كمرحلة أولى من إنجاز بحث شامل.
ويوضح المهداوي أن الخط العربي يستمد قوته من القيم الجوهرية للتراث، وهذا لا يعني بالضرورة المحاكاة أو استرجاع القيم الموروثة ومنها الجمود، إنما يعني أن يكون الفنان مسؤولاً تماماً عن نفسه انطلاقاً من البنية الحقيقية لثقافته الأصلية والولوج فيها من جهة الحساسية الشعبية واليومي والحياة المعيشة.
والمهداوي يرمي من وراء كل ذلك إلى خلق قاعدة مرجعية، حيث يكون انفجار الأشكال الأكاديمية (المستوعبة من الداخل) قادرة على منح الولادة لفن آخر يمثل ذات الفنان وروحه، وهو فن لا يتجاهل منجزات الآخرين ويساهم في إثراء التراث الإنساني من جهة ويمكن له الحث على التفكير وليس القبول والاستهلاك.
وأخيراً..
مثّل الخط العربي على امتداد العصور خزاناً فنياً وجمالياً أتاح المجال للرسامين للخروج به إلى الألوان، مطوعين حركاته المختلفة وانعراجاته المتعددة للوصول به إلى أن يكون أثراً فنياً، استطاع أن يفرض حضوره في المعارض الفنية وأن يكون لدى الآخر عملاً تجريدياً يخرج عن السائد، ويطوّع اللغة العربية الثرية ليجعل من مبانيها معان تضئ الأرجاء المختلفة بعد أن بعث فيها اللون أكثر من ضوء.
المصدر، جريدة الاتحاد، ساسي جبيل (تونس) 16 ديسمبر 2021