أزمة المياه العالمية.. معضلة بيئية

في الحاجة إلى تبنِّي سياسة مائية أكثر إنتاجية واستدامة
ـشبكة بيئة ابوظبي، عبد العالي الطاهري، مدير البرنامج الوطني، الإعلام الإيكولوجي، المملكة المغربية 01 يناير 2022

بالحديث عن التغيرات التي أصبحت العنوان الأبرز للمنظومة الإيكولوجية لكوكب الأرض، تبقى أزمة المياه العالمية من بين أكبر المعضلات البيئية كونياً، وقد احتلت الفيضانات ونوبات الجفاف والممرات المائية القذرة عناوين الأخبار في الأشهر الإثني عشر الماضية، علاوة على نضوب مصادر المياه أو شُحها في العديد من أقطار العالم، الأمر الذي يدخل في خانة إحدى أكبر التهديدات التي قد تُصيب الدورة الإيكولوجية والحياتية، لا قدَّر الله، في مقتل.
وتصديا لهذه الأزمة، بدأ قطاع الممارسات العالمية للمياه في البنك الدولي خطة عمل استراتيجية جديدة في أوائل العام 2019، وذلك بعد مشاورات مكثفة مع شركائه والبلدان المتعاملة معه في إطار اتفاقيات وشراكات، وهي الاستراتيجية التي تركز على ثلاث ركائز مترابطة ومتكاملة هي: (1) الحفاظ على الموارد المائية، و (2) تقديم الخدمات، و(3) بناء القدرة على الصمود، وسوف نُوضِّح المنهجية المعتمدة لتنزيل هذه الركائز الثلاث، حتى تساهم هذه المجالات الحيوية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وكيف ستعمل خطة العمل هذه على تعزيز قدرة البنك الدولي على مساعدة البلدان على تحقيقها.

أولاً، يدعم قطاع الممارسات العالمية للمياه جهود البلدان المتعاملة مع البنك الدولي لتعزيز الأمن المائي من خلال إدارة الموارد المائية على نحو أكثر إنتاجية واستدامة، ويعني الحفاظ على المياه تحسين إدارة الموارد على مستويات حوض النهر والبلد المعني وعلى المستويات العابرة للحدود، إذ يُعد الحفاظ على مُستجمِعات المياه وطبقات المياه الجوفية في حالة سليمة مسؤولية تمتد عبر الحدود الإدارية والسياسية والقطاعية، مع العمل علي استمرار إبراز قيمة المياه عبر استخداماتها المختلفة والقطاعات المتنوعة، في حين تدعم هذه الاستراتيجية السياسات والقوانين والمؤسسات الفعالة للمياه والبيئة من أجل الإدارة المتكاملة للمياه.
ثانيًا، يساعد البنك الدولي البلدان على تعميم خدمات مياه الشرب والصرف الصحي وتحقيق الاستخدام الأمثل للمياه في الزراعة، وعن طريق إصلاح المرافق، كما يقوم بتحفيز مرافق المياه والصرف الصحي لتخضع للمساءلة وكي تتسم بالفعالية، ومن ثَمَّ، تحقيق الجدارة الائتمانية، وكذا جعل الصرف الصحي أولوية قصوى مع تبنِّي نهج الاقتصاد الدائري واتباع مبادئ الصرف الصحي الشامل على مستوى المدن واقتصاد الصرف الصحي. ويدعم البنك الدولي في ذات السياق أيضًا الجهود التي تبذلها الحكومات لتعميم الحصول على تلك الخدمات، وذلك عن طريق البرامج الوطنية بصفة أساسية (القائمة على الإصلاحات السياسية والمؤسسية والتنظيمية) والتمويل القائم على النتائج. وللمساعدة في تعميم الحصول على الخدمات في المجتمعات المحلية الريفية، فإنه يجري دعم الأساليب المبتكرة لتغيير السلوكيات وتطوير المنتجات والأسواق والتمويل الصغير وغير ذلك من الإجراءات التدخلية، إذ يجب أن يكون تحسين أداء الري أولوية استراتيجية للتصدي للفقر في الريف والمناطق القروية عموماً والتخفيف من آثار تغير المناخ، ولاسيما على أكثر الفئات ضعفًا وهشاشةً، بالإضافة إلى ذلك، فإنه يجري العمل على تحسين قُدرات المؤسسات من أجل إدارة الري وتحسين كفاءة استخدام المياه وابتكار نُظُم ري يديرها المزارعون على نطاق واسع.

ثالثا، يتطلب التكيُّف الفعَّال مع التغيرات المناخية، إدارة سليمة للمياه للحد من الضعف وبناء القدرة على الصمود، إلى ذلك يساعد البنك الدولي الجهات المتعاملة معه على خفض مخاطر الفيضانات والجفاف من خلال تمويل البنية التحتية للمياه، وإنشاء مُستجمِعات مياه صحية، وتحسين الخدمات الهيدرولوجية وخدمات الأرصاد الجوية، والحصول على البيانات، وتعزيز عمليات التخطيط التي تتصدى لحالة عدم اليقين بشأن المناخ، بالإضافة إلى ذلك، يجري العمل على بناء القدرة على الصمود من خلال تنفيذ عمليات في البلدان التي تعاني الهشاشة والصراع والعنف لأنها غالبًا ما تكون ضعيفة في مواجهة الصدمات المتعددة التي ينطوي عليها تغير المناخ والصراع والهجرة وضعف الحوكمة (الحكامة).
وقد شكَّلت هذه الركائز الثلاث أيضًا، الموضوعات الأساسية لمشاركة قطاع الممارسات العالمية للمياه التابع للبنك الدولي، في أسبوع المياه العالمي للعام 2019 (25-30 أغسطس/آب 2019)، وهو التجمع السنوي الذي ينظمه معهد ستوكهولم الدولي للمياه ويضم الآلاف من العاملين في هذا المجال وواضعي السياسات والمتخصصين في مجال المياه لتوليد الأفكار وتبادل خبراتهم ووضع الحلول في مجال المياه إلى ذلك، في لقاءات ومؤتمرات قادمة.

جدير بالذكر، أنه في 25 أغسطس/آب، قدَّمت الجلسة التي نظَّمها البنك الدولي تحت عنوان “جودة غير معروفة”، بحثًا جديدًا عن مدى تدهور نوعية المياه ونطاقه وآثاره الاقتصادية، بالإضافة إلى أفكار حول الحلول السياسية الأكثر ملاءمة، وذلك بعد إصدار التقرير الرئيسي حول الموضوع نفسه، و يُظهر تقرير جودة غير معروفة: الأزمة غير المرئية في المياه أن الأزمة غير المرئية في جودة المياه تقضي على ثلث النمو الاقتصادي المحتمل في المناطق الملوثة بشدة وتهدد الرفاه البشرية والبيئية.
يوم 28 أغسطس/آب، في جلسة إعادة النظر في دعم خدمات مياه الشرب والصرف الصحي، وتمَّ إطلاق تقرير جديد آخر أعده قطاع الممارسات العالمية للمياه.. ويبحث هذا التقرير الصادر بعنوان عمل الكثير بالقليل – دعم أكثر ذكاءً لمياه الشرب والصرف الصحي، كيف يمكن أن يكون الدعم أدوات قوية وتدريجية في توفير المياه والصرف الصحي.
وبتحويل الانتباه إلى مرافق قطاع المياه، قام البنك الدولي بجمع أحدث الأدلة حول المُعوِّقات والفرص التي تواجهها النساء في مرافق المياه والصرف الصحي في جميع أنحاء العالم، وتعتمد هذه المادة على الأعمال التحليلية التي جرت مؤخرًا والدروس المستفادة من العاملين الميدانيين لتضييق الفجوات بين الجنسين على مستوى المرافق، حيث ستُقدَّم نتائج هذا العمل في تقرير بعنوان “نساء في مرافق المياه: كسر الحواجز”، صدر في جلسة أسبوع المياه العالمي في 27 أغسطس/آب 2019.

بدءًا من نوعية المياه ودعم المياه وصولًا إلى قضايا النوع والعديد من القضايا الأخرى التي تساعد على صياغة شكل النقاش العالمي حول المياه، ركَّزت الجلسات في أسبوع المياه العالمي 2019، تركيزًا قويًا على كيفية العمل معًا على الركائز الثلاث – دعم موارد المياه، وتقديم الخدمات، وبناء القدرة على الصمود من أجل عالم يتمتع فيه الجميع بالأمن المائي.
إلى جانب الصندوقين الاستئمانيين العالميين اللذين يستضيفهما قطاع الممارسات العالمية للمياه – الشراكة العالمية من أجل الأمن المائي والصرف الصحي والمجموعة المعنية بالموارد المائية 2030، والصناديق الاستئمانية الإقليمية الأربعة – التعاون في مجال المياه الدولية في إفريقيا، ومبادرة المياه في جنوب آسيا، وبرنامج الدانوب للمياه، وبرنامج تنمية الطاقة والمياه في آسيا الوسطى – والعديد من الشركاء الآخرين، يواصل البنك الدولي تنفيذ برامج ومشروعات في جميع أنحاء العالم، وجمع مجموعة كبيرة من الشركاء لتحقيق حلول عبر القطاعات، وتشارك البيانات والمعارف والمعرفة الفنية في جميع أنحاء البلدان النامية بغية التصدي لأزمة المياه العالمية.

حلول المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
أصبحت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا منطقة مُهدَّدة بالاستخدام غير المستدام للمياه، حيث تجاوز أكثر من نصف عمليات سحب المياه الحالية في بعض البلدان الكمية المتاحة طبيعيا، وعلى المدى البعيد، قد يكون لذلك عواقب وخيمة على نمو المنطقة واستقرارها، لذلك فإن التوصل لحلول لتضييق الفجوة بين العرض والطلب على المياه هو من الأولويات العاجلة.
ومع انعقاد المنتدى العربي الرابع للمياه في القاهرة العام 2019، وقعت أمور شتى في إدارة المياه بالمنطقة وجعلتها على حافة الخطر، فقد أدت الصراعات المسلحة في العديد من بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتدفق أعداد هائلة من اللاجئين، إلى زيادة الضغوط على موارد الأراضي والمياه، وكذلك على البنية التحتية في المجتمعات المحلية التي تستقبل اللاجئين. ففي الأردن وحده، وفقا لوزارة المياه والري في المملكة، أدى تغير المناخ وأزمة اللاجئين إلى انخفاض توفّر المياه إلى 140 مترا مكعبا للشخص، وهو أقل كثيرا من الحد المعترف به عالميا لندرة المياه الشديدة والبالغ 500 متر مكعب.

ونتجت هذه التطورات الحديثة عن عقود من النمو السكاني السريع، وتوسع المدن، والتكثيف الزراعي. ويشير تقرير صدر حديثا عن البنك الدولي إلى أن أكثر من 60% من سكان المنطقة يتركزون في الأماكن المتضررة من الإجهاد المائي الشديد أو الشديد جدا، مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ حوالي 35%، كما يُحذِّر التقرير من أن ندرة المياه المرتبطة بالمناخ قد تُسبب خسائر اقتصادية تقدر بنحو 6%-14% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2050 – وهي أعلى نسبة في العالم.
وفي الوقت الذي تبحث فيه الحكومات بمنطقة الشرق الوسط وشمال إفريقيا عن حلول، يمكن أن تُتيح اتجاهان إثنان على وجه الخصوص فرصا لتغيير الأوضاع وتعزيز الأمن المائي، كما هو مُبيَّن في تقريرين حديثين أعدهما المعهد الدولي لإدارة المياه، فإن جدوى هذه الحلول ستعتمد على كيفية استجابة الحكومات والمجتمعات لها.

بشارة الزراعة بالطاقة الشمسية ومخاطرها
يتمثل أحد الاتجاهات المُعتمدة في الانتشار السريع للري الذي يعمل بالطاقة الشمسية في بعض البلدان، وذلك لتحقيق الأهداف الثلاثة، والمتمثلة في تعزيز المياه والطاقة والأمن الغذائي، فعلى سبيل المثال، يتوقع المغرب تركيب أكثر من 100 ألف مضخة شمسية بحلول عام 2020، وبالمثل، تُنفد مصر برنامجا للزراعة الصحراوية يشمل ري 630 ألف هكتار بتكنولوجيا الطاقة الشمسية، حيث ستشرع بلدان أخرى في هذه المشاريع أيضا، مستفيدة من انخفاض تكاليف تكنولوجيا الطاقة الشمسية والإشعاع الشمسي العالي في المنطقة، حيث ستحل هذه المبادرات محل مضخات الديزل المُلوِّثة والمكلِّفة، وتُوفِر خيارًا جديدًا للمزارعين الذين يفتقرون إلى إمكانية الوصول إلى شبكات الطاقة، ويحفز خفض الدعم للوقود التقليدي على التحول إلى استخدام مصادر الطاقة الشمسية وغيرها من مصادر الطاقة المتجددة.

وتأمل الحكومات أن توفر تكنولوجيا الطاقة الشمسية وسيلة للمجتمعات الزراعية كي تقفز من الضعف المزمن نحو التكثيف المستدام والمرن للإنتاج، غير أنَّ هذا الخيار ينطوي على الجانب السلبي الناجم عن عدم كفاية الفهم للمياه الجوفية وسوء تنظيمها، حيث أدَّت أوجه القصور هذه، عن طريق السماح بالاستغلال المفرط للمياه الجوفية، إلى هبوط منسوب المياه، مما يجعل الضخ من طبقات جوفية أعمق أكثر تكلفة، كما تسببَّت في مشاكل مثل ملوحة التربة. ويمكن أن يؤدي الري بالطاقة الشمسية إلى تفاقم الأمور من خلال السماح باستخراج المزيد من المياه الجوفية بتكلفة أقل، مما يؤثر على المجتمعات المحلية الضعيفة التي تعاني من ضعف فرص الحصول على الموارد المائية.
ويمكن أن تساعد تكنولوجيات الرقابة المبتكرة (مثل المضخات التي تعمل عن بعد وأجهزة قياس المياه الذكية) على مواجهة بعض التحديات، علاوة على ذلك، وكما يحدث بالفعل في الأردن، يمكن للخبراء استخدام تقنيات الاستشعار عن بعد لمساعدة الحكومات في السيطرة على التوسع في الري القائم على المياه الجوفية.

استغلال المورد الطبيعي الوحيد المتزايد
هناك اتجاه ثانٍ يُركِّز على مياه الصرف الصحي في المنطقة، التي يبقى 82% منها بلا إعادة تدوير، مقارنة بحوالي 30% فقط في البلدان ذات الدخل المرتفع، وهذا يشكل تهديدًا كبيرًا لصحة البشر والبيئة ولكن أيضا فرصة كبيرة لتلبية الطلب على المياه بشكل أفضل، فالمياه العادمة هي المورد الطبيعي الوحيد الذي يزداد مع نمو المدن والسكان، وتولد بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 18.4 كيلومتر مكعب من مياه الصرف الصحي البلدية في السنة.
وهناك العديد من التكنولوجيات المتاحة لمعالجة وإعادة استخدام المياه المستعملة لأغراض إنتاجية، بما في ذلك رعاية الغابات، والزراعة، والأراضي الطبيعية، وإعادة تغذية المياه الجوفية. بيد أنَّ عملية اعتماد هذه الخيارات كانت بطيئة حتى الآن بسبب اللوائح العنيدة ووجود فجوة سياسات بين قطاعات الزراعة والصرف الصحي وغيرها من القطاعات، إذ عندما تبدأ مشاريع إعادة الاستخدام، فإن عدم وجود تعريفة ملائمة وحوافز اقتصادية يُقوِّض استدامتها، حيث يتعذَّر استرداد تكاليف معالجة المياه المستعملة، حيث تتمثَّل الاعتبارات الرئيسية للمضي قُدمًا في اختيار المحاصيل الأنسب للري باستخدام المياه المُعاد استخدامها والتدابير اللازمة لمعالجة الشواغل الصحية المحددة.

وأمام منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الكثير من المكاسب التي يمكن تحقيقها من خلال الجهود الرامية إلى التغلب على هذه الحواجز، ومع توفُّر المعالجة المناسبة، فإنَّ مياه الصرف الصحي تستطيع توفير مياه الري والأسمدة لأكثر من مليوني هكتار من الأراضي الزراعية كما من شأن ذلك أن يسهم في حفظ المياه العذبة، مما يتيح زيادتها في الاستخدام المنزلي ومجموعة واسعة من الأغراض الإنتاجية. وكمثال على السالف عرضه، فإن نجاح الأردن في تسخير الابتكار التكنولوجي والتمويل من القطاع الخاص لإعادة تدوير المياه العادمة يقدم حالة مفيدة بشكل خاص، إذ يمكن لهذه التكنولوجيات، التي تعززها سياسات جديدة، أن تساعد المنطقة على تحقيق الأمن المائي، وسيتطلب ذلك التزاما على جميع مستويات المجتمع بمعالجة الحواجز الثقافية التي تعرقل التغيير في استخدام المياه، وتجاوز الانقسامات المؤسسية والسياساتية، وتنقيح اللوائح شديدة الصرامة.

تحويل التهديدات إلى فرص
إن حلول مشكلة نُدرة المياه على المستويين المحلي والعالمي في متناول اليد، ويتمثل التحدي الأكبر في تعجيل وتيرة تطوير الابتكار ونشره من أجل الإدارة المستدامة للمياه، ما يتطلب بدوره “وعي مائي” جديد، كما هو مذكور في تقرير “ما بعد ندرة المياه”، الذي يُقِرُّ بأنَّ الجميع – من فرادى المزارعين والمستهلكين إلى الشركات والهيئات العامة – يتحملون المسؤولية عن التغلب على ندرة المياه.

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

الإمارات تلهم المبتكرين لمواجهة أزمة المياه

– تُطور الحلول وتعزز التعاون وتحفز الاستثمار – التركيز بشكل خاص على الاستثمار في التكنولوجيا …