يبدو فعل الثقافة متجذراً في البنية الهيكلية للثقافة الإماراتية منذ بدايات التأسيس، فعلى مدار العقود الخمسة المنصرمة، أضحت الإمارات منارة ثقافية، أنارت في محيطها المحلي والإقليمي أول الأمر، ثم أضاءت ثقافياً على العالم. لقد آمن الوالد المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان «طيب الله ثراه»، أن النهضة الإماراتية الحديثة لا تقوم إلا على أسس وركائز ثابتة، وأن المنجز الفكري والثقافي هو أحد أهم تلك المعطيات التي تفتح الباب واسعاً للإمارات في انطلاقتها الرحبة نحو المستقبل.
ومن هذه الرؤية الحكيمة تم وضع أسس التعليم والمعرفة والثقافة، ضمن نهج واستراتيجيات الدولة، الأمر الذي جعل فعل القراءة وديمومتها بمثابة البوابة الذهبية التي تعبر منها الأجيال الشابة نحو التطور والتميز، حيث أصبح تاريخ الإمارات سردية من النجاحات الخلاقة والازدهار والتقدم. ولقد نشأ صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة «حفظه الله» على نهج والد وقائد مؤسس «طيب الله ثراه»، يمتلك ثقافة عميقة ورؤى استشرافية وفكرية استثنائية، ولهذا استطاعت دولة الإمارات في مرحلة التأسيس أن تؤكد على قيمة الثقافة والتعليم، وقد تواصل هذا النهج وتطور وترسخ حتى أصبحت الإمارات حاملة لشعلة الثقافة والتنوير والتواصل بين الأمم والحضارات.
روافد المعرفة
والشاهد أن فعل الثقافة في الإمارات، وبرعاية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، قد تحوّل إلى استراتيجيات ومشاريع عالية القيمة، كما باتت الدبلوماسية الثقافية الإماراتية تعكس قيماً تؤمن بها الإمارات وفي مقدمتها التسامح والتواصل مع الآخر، مهما اختلف هذا الآخر عرقاً أو لوناً، جسماً أو رسماً، ديناً أو طائفة. وعززت جهود صاحب السمو رئيس الدولة «حفظه الله» من حضور وفاعلية الدبلوماسية الثقافية، ما جعل الإمارات تتبوأ مكانة متقدمة في قائمة الدول ذات الامتياز المعرفي، ونموذجاً فريداً يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ومن غير أن تجور إحداهما على الأخرى، وربما هذا ما يجعل للثقافة الإماراتية قيمة خاصة واستثنائية عربياً وأممياً.
وهنا نتذكر الكلمة التي ألقاها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان خلال لقائه مع الفائزين بجائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2016، وفيها قال سموه: «نحن في دولة الإمارات نعتبر العلم والثقافة جزءاً لا يتجزأ من إرثنا الحضاري، ومن العملية التنموية، ومن بناء الإنسان والهوية المنفتحة الواثقة بنفسها، دون أن تتنكر لقيمها وأصالتها وتراثها».
ومن هذه الكلمات المضيئة لسموه يمكن أن نستشرف مفهوماً شاملاً للثقافة، وذلك ضمن رؤية استراتيجية للمستقبل. كما تحدث سموه في افتتاح معرض أبوظبي الدولي للكتاب عام 2018 قائلاً: «إن القراءة رافد من روافد المعرفة وسعة الاطلاع، ودورنا هو توثيق صلة الأجيال بها، نريدهم رواداً في مختلف العلوم، ونتطلع إلى صناعة علماء وأجيال تقود المستقبل، ولذا وجهنا بتخصيص 6 ملايين درهم لشراء كتب قيمة من معرض أبوظبي الدولي للكتاب لرفد المكتبة المدرسية».
ومن خلال هذه الرؤية الحكيمة لسموه نرى التأكيد على ضرورة اعتياد الصغار على القراءة منذ نعومة أظفارهم، وهو ما يعني بناء أجيال تمتلك المعارف والقدرة على التفكير والإبداع والابتكار، وعلى الغوص في عمق المعرفة والعلم، والابتعاد عن حواضن الإيديولوجيات المتشددة، والأصوليات المتطرفة، فمن يقرأ يكشف رحابة العالم، ومعنى التعددية والقدرة على التواصل الإيجابي مع العالم الخارجي.
أرض التسامح والأخوة
ومن خلال دعم ورعاية صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان للمشاريع الثقافية في الإمارات، تحول الحضور الإماراتي في مجال القوة الناعمة إلى حضور متميز وفريد، ذلك أن الثقافة مثلت دون أدنى شك قوة إماراتية ناعمة، وصوتاً معرفياً إنسانياً للتأكيد على الوحدة الإنسانية العالمية، وتواصل الحضارات، وكذلك التصدي لخطر عدوى الأصوليات والتطرف، ما خلق تعبيراً جديداً في الحياة الثقافية الإماراتية، عرف بالمنتج الثقافي الإماراتي الإبداعي، والذي بات قيمة مضافة للإمارات في عيون وآذان العالم، الأمر الذي جعل تجربة الإمارات مثالاً كونياً حضارياً، ولاسيما في ظل مناخ التسامح الذي تنعم به الإمارات واقعاً فعلياً على أرضها الطيبة. وأحد أوجه ثقافة التسامح التي رعاها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، توطيد الحوار والتفاهم والتلاقي بين الأديان، وكما تشير البوابة الرسمية لحكومة دولة الإمارات العربية المتحدة، ففي فبراير 2019 «استضافت دولة الإمارات المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية الذي ينظمه مجلس حكماء المسلمين بهدف تفعيل الحوار حول التعايش والتآخي بين البشر وسبل تعزيزه عالمياً، كما يهدف إلى التصدي للتطرف الفكري وسلبياته وتعزيز العلاقات الإنسانية وإرساء قواعد جديدة لها بين أهل الأديان والعقائد المتعددة، تقوم على احترام الاختلاف. وتزامن المؤتمر مع الزيارة المشتركة للإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر وقداسة البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية إلى دولة الإمارات»، وقد صدر عن المؤتمر «وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك» ووقع عليها شيخ الأزهر وبابا الكنيسة الكاثوليكية.
وفي كل ذلك دلالة قاطعة، وتاريخية، على جهود صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان لترسيخ مفهوم الوحدة الإنسانية، والتي تخبرنا بأن الناس سواسية وإخوة، وأن التلاقي والتعاون والعمل المشترك هو الطريق الأصوب للاستقرار واستمرار الحياة وازدهارها.
مجلس الثقافة والعلم
ويحمل صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، تقديراً واهتماماً كبيرين للثقافة والإبداع، وللمثقفين والمبدعين، من حيث إن الأدب والأدباء، وإن الفكر والمفكرين، هم الطليعة والنخبة، وهم رموز القوة الناعمة الإماراتية. كما أن «مجلس محمد بن زايد» أصبح جامعة فكرية وثقافية وعلمية: «إيماناً بأهمية التحاور وتفهم وجهة نظر الآخر، وارتقاءً بهذا الحوار إلى ما يخدم أغراضه وغاياته، وترسيخاً للمفاهيم الراقية في تبادل الآراء والأفكار من أجل إثراء النقاش وإغناء المعرفة، وصولاً لتحقيق فهم أعمق وإيجاد حلول أفضل تجاه شتى القضايا التي تمس مستقبل المجتمعات وحياة الإنسان، فقد دأب مجلس محمد بن زايد كل عام على استضافة نخبة من العلماء ورجال الدين والمفكرين والمثقفين والخبراء والمبدعين من مختلف بلدان العالم، لطرح آرائهم وتجاربهم النظرية والعلمية والتطبيقية حول مختلف المواضيع العامة والقضايا الحيوية ذات الصلة بتطورات العصر ومتطلباته واستشراف آفاق المستقبل في رحاب مجلس عامر أضحى ملتقىً فكرياً لمختلف وجهات النظر وتبني الحوار وتبادل الرأي لغة للحضارة وسمو الهدف».
وهكذا، فإن الدور الثقافي والعلمي والمعرفي الذي يتصدى له «مجلس محمد بن زايد» يجعل المرء فخوراً، ومتذكراً أوجه الحضارة العربية وإنجازاتها، كما يلقي الضيوف العالميون رؤيتهم لأحدث المفاهيم والنظريات، من طرف علماء من مختلف ألوان العلوم التطبيقية والتكنولوجية، الكيميائية والفيزيائية، وفي الهندسة الجينية والطاقة المتجددة.
المصدر: جريدة الاتحاد، إميل أمين 17 مايو 2022 03:12