شبكة بيئة ابوظبي، د. سالي جابر، خبيرة في الكيمياء البيئية والتحليلية، جامعة كيلرموند فيرانت، فرنسا 03 سبتمبر 2022
تغطي الغيوم أكثر من 50 % من سطح الأرض، تمثل قطرات السحب واحدة من أكثر الوسائط تفاعلية والأكثر تركيزاً من الغلاف الجوي، إنها تتكون من العديد من الأنواع من الملوثات العضوية (الكحولات والألكانات والألكينات والأحماض أهمها الأمينية، الكربونية كغاز ثاني أوكسيد الكربون، الذي يعتبر كأحد المركبات الطبيعية الموجودة في الغلاف الجوي من مياه وأرض وغيرها، ويعمل بشكل أساسي على امتصاص الحرارة والمساهمة في الاحتباس الحراري، ومصدره حرق الوقود والانفجارات البركانية وقطع الأشجار ومياه الينابيع وغيرها، ويسبب مشاكل خطيرة للغاية على صحة الإنسان. بالإضافة إلى الملوثات العضوية, هناك ملوثات غير عضوية (المقصود بغير عضوية أي أن الكربون ليس من المكونات لهذا العنصر)، التي تصل إلى الغيم عبر نقل الغازات السامة القابلة للذوبان من المرحلة الغازية إلى المرحلة المائية للغيم: (من أهم تلك الغازات السامة: غاز ثاني أكسيد الكبريت، يأتي على شكل سام لا لون له ورائحته كرائحة عود الثقاب, ثالث أكسيد الكبريت وهو سام للغاية كما أنه شديد التفاعل والتآكل, أول وثاني أكسيد النيتروجين, ويأتي ثاني أكسيد النيتروجين غالباً من المركبات العاملة بالبنزين ومحطات الطاقة والتدفئة، وتؤدي في بعض الحالات إلى التهاب في المسالك الهوائية وغيرها من الأضرار).
تشكل الجسيمات أيضاً، عنصراً رئيسياُ من ملوثات الهواء (والمقصود بالجسيمات، مزيج بين مواد سائلة مع صلبة، يأتي بعضها على شكل غبار أو أوساخ أو دخان ملوث وغيرها، منها ما يمكن رؤيتها في العين المجردة، وتأتي هذه الجسيمات من صنع الإنسان مثل البنزين والديزل وأشكال الصناعة إلى جانب أعمال البناء، وقد تأتي في بعض الأحيان بعوامل طبيعية مثل البراكين وحبوب اللقاح المختلفة والتربة وغيرها).
ركزت أغلب الدراسات على التفاعلات الكيميائية الضوئية والجذرية في الجو، التي بدورها تحد من التلوث الجوي عبر التفاعل بين العنصر الكيميائي (جذور الهيدروكسيل، الذي بفعاليته يأتي على رأس القائمة) والملوثات (أبرزهم: الأحماض الكربوكسيلية والألدهيدات، الكحول والأحماض الأمينية). تساهم تلك التفاعلات الكيميائية الضوئية في تخفيض نسبة الملوثات الجوية، وبالتالي التلوث. ولكن مع اكتشاف وجود كائنات حية دقيقة ناشطة في الجو وتحديداً في الغيوم، أصبح للعلماء طريقاً ثانية ليسلكوها بغية إيجاد حلول أقل كلفة مادية وأقل تعقيداً، للحد من التلوث الجوي أو على الأقل تخفيضه.
تم اكتشاف الكائنات الحية الدقيقة (البكتيريا والفطريات بما في ذلك الخمائر) في الغلاف الجوي وتحديداً في الغيوم في القرن السابع عشر مع أنطوني فان ليوينهوك (غريغوري، 1971)، وتسمى هذه الكائنات الحية الدقيقة المحمولة جواً أيضًا “الهباء الحيوي” وهي تنتمي إلى الجسيمات البيولوجية الأولية، التي تشمل عدة عناصر من أصل بيولوجي تنبعث مباشرة من السطح (على سبيل المثال التربة والمياه السطحية والنباتات والنشاط البشري) باتجاه الغلاف الجوي.
ساهم التأكد من وجود كائنات حية دقيقة نشطة في الغيوم، في فتح آفاقاَ جديدة، حيث يمكن اعتبارها بعد ذلك، كمحفزات حيوية لتحويل المواد العضوية الملوثة (أو المؤكسدات) إلى مواد غير ملوثة، وبالتالي تشكيل مسار بديل للكيمياء الجذرية والضوئية، المكلفة جداً رغم فعاليتها. وخصوصاً أن تلك الكائنات موجودة أصلاً في الجو، وتتخذ من الملوثات لا سيما:( الأحماض الكربوكسيلية، والألديهيدات) غذاءً لها من خلال مسارات تمثيل غذائي مختلفة.
والجدير بالذكر أن هذه الكائنات الحية الدقيقة تتحمل العديد من الضغوط الموجودة في هذه البيئة: مثل ضوء الشمس ودرجات الحرارة المنخفضة ودرجة الحموضة، وجود مواد مؤكسدة، تركيزات منخفضة من المغذيات، إلخ…مما يساهم في المحافظة على نشاطهم في هذه البيئة الصعبة والرهان عليهم كعناصر فعالة للحد من التلوث الجوي.
من خلال دراسة أجريت في مختبر جامعة كليرمون فيرانت، فرنسا، حيث أجريت التجارب في صورة مصغرة تحاكي الظروف بالغيوم والجو والتي اتخذت البكتيريا كمثال عن الكائنات الحية الدقيقة والنشطة الموجودة في الغيم. تم التوصل أن هناك أنواعاً فعالة من البكتيريا قادرة على تحويل الكحول والأحماض الأمينية (الملوثات) إلى غير ملوثات، وبالتالي إثبات نظرية أن البكتيريا قادرة وبكل فعالية، في تخفيض نسبة بعض الملوثات، وتحديداً الأكثر خطورة في الجو وبالتالي التلوث.
تعد مشكلة تلوث الهواء من أخطر المشاكل التي تهدد نظامنا البيئي والحيوي معاُ، فعلى صعيد البيئة: يسبب تلوث الهواء بإحداث خللٍ في النظام البيئي كحدوث تلوث في المسطحات المائية، وتكون السحب الدخانية وتغيُّر خصائص التربة، بالإضافة إلى ظاهرة التغيرات المناخية الناجمة عن ظاهرة الاحتباس الحراري بسبب زيادة نسبة تركز غازات الدفيئة في الغلاف الجوي.
بالنسبة للإنسان فالتلوث يسبب بشكل رئيسي الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي وسرطان الرئة وأمراض القلب والشرايين. بالنسبة للحيوانات، يساهم التلوث في انقراضَ بعض أنواعها أو اضطرارها للهجرة للبحث عن مناخ مناسب مثل هجرة الأسماك وانخفاض أعداد البرمائيات والحشرات. وبالنسبة للنباتات: تُسبب الأمطار الحمضية الناتجة عن تلوث الهواء تغيير خصائص التربة ممّا يسبب موت النباتات. اذاً مشكلة تلوث الهواء مشكلة خطيرة جداً، تقرع ناقوس الخطر في بيئتنا.
وكون مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة، ها قد بادرها العلماء وأكدوا من خلال تجاربهم ودراساتهم أن الكائنات الحية الدقيقة تساهم في حد كبير من تقليل نسبة من الملوثات في الجو، بانتظار دراسات أخرى تزرع أملاً جديداً في قلب كل مبادر بيئي: هل سيشاركون الميكروبات في تطهير الغلاف الجوي، وبالتالي هل سيلعبون دورًا في جودة الهواء؟ إن الغد لناظره بقريب ولا مستحيلات في العلم.
المرجع: أطروحتي الدكتوراة البيئية:
https://hal-bioemco.ccsd.cnrs.fr/CLEMU-THESES/tel-03411305