المصدر، موقع درج، سالي جابر 23.05.2023
https://daraj.media/108450/
زاد الإقبال بشدة على مراكز بيع الثياب المستعملة أو ما يعرف بـ”البالة” مع استمرار انهيار الدولار، تحديداً المحلات التي تبيع “بالكيلو “، إذ لا تتخطى مثلاً قيمة الـ10 قطع من الثياب العشرة دولارات.
بدأت أزمة السيولة اللبنانية منذ عام 2019، وتفاقمت مع جائحة “كورونا” عام 2020، وما زالت مستمرة حتى الآن، وقد أشارت دراسة أعدتها لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) عام 2021، إلى أن الفقر في لبنان يطاول 74 في المئة تقريباً من مجموع سكان البلاد. وبحسب البنك الدولي، أزمة لبنان الاقتصادية والمصرفية هي الاسوأ في تاريخه، لا بل تُصنف بين الأزمات الثلاث الأسوأ في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.
ترافقت الأزمة المالية منذ 2019، بإغلاق الكثير من المحلات التجارية والمولات في لبنان، إما بسبب الوضع الاقتصادي أو بسبب تأثر الأعمال التجارية بالاحتجاجات والأوضاع الأمنية غير المستقرة. ناهيك بانخفاض القدرة الشرائية للمواطن اللبناني. ترافق ذلك مع انتعاش أسواق بيع الأدوات والثياب المستعملة “البالة”، تلك المنتشرة في المناطق اللبنانية، كسوق الجملة في حي المريجة، وسوق الجمعة في سن الفيل في بيروت، وسوق القبة في طرابلس، وسوق السبت في ضهر البيدر.
زاد الإقبال بشدة على مراكز بيع الثياب المستعملة أو ما يعرف بـ”البالة” مع استمرار انهيار الدولار، تحديداً المحلات التي تبيع “بالكيلو “، إذ لا تتخطى مثلاً قيمة الـ10 قطع من الثياب العشرة دولارات. وبدأت البازارات تفتح فروعاً جديدة لها في المناطق اللبنانية نظراً للإقبال والطلب الكثيف عليها.
رهان رابح
فتح منصور سلامة محلاً لبيع الأغراض والثياب المستعملة عام 2022 في الشوف في لبنان، يخبرنا أن الأمر كان مخاطرة في البداية، إذ لم تكن تجارة مضمونة، فقام باستيراد “كونتينر” واحد فقط من الثياب المستعملة على سبيل التجربة، يضيف بعدها “فوجئنا كثيراً بالإقبال الكثيف للزبائن وتحديداً النسوة، أصبحنا بعدها نستورد بشكل دوري. كل زبائني أو أغلبهم من معلمات المدارس، والطبقة التي كانت تُحسب وسطى في البلد، وما يزيد الإقبال، أن القطع تصل إلينا من مصدرها نظيفة ومعقمة منعاً لانتقال الأمراض”.
تخبرنا مريم، وهي أم لطفلين، أثناء زيارة محل سلامة أنها تلجأ إلى البالة لأنها أوفر، بعشرة أضعاف من المحلات التقليديّة، إذ يمكنها في بعض الأحياء شراء 10 قطع من البالة بثمن واحدة من متجر يبيع الثياب الجديدة.
الفقر الذي يُنقذ البيئة
اللجوء إلى محلات الأغراض المُستعملة و”البالة” لأسباب اقتصاديّة، شأن لا يمكن سوى لوم السلطة عليه في الحالة اللبنانيّة، إذ تعجز الدولة عن تأمين احتياجات مواطنيها، وتقديم رواتب وظيفية تليق بالموظفين، لكن لا يمكن تجاهل أن هناك ما هو مفيد على مستوى الحد من مستويات التلوّث، خصوصاً أن “صناعة الموضة” حالياً واحدة من أكثر الصناعات تلويثاً في العالم، إذ تنتج كمية كبيرة من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون والمخلفات المائية، كما أنها تلوث المحيطات بالبلاستيك الدقيق. وتشير التقديرات إلى أن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري لهذه الصناعة ستزيد بأكثر من 50 في المئة بحلول عام 2030 إذا استمرت بالمعدل ذاته.
لا يتربع لبنان على رأس قائمة ملوّثي البيئة عبر صناعة الأزياء، لكن يمكن القول إن أسواق البالة تساهم بصورة ما في الحد من انتشار القمامة والنفايات الناتجة عن استهلاك “الأزياء السريعة”، كما تساهم البالات بالمحافظة على الموارد الطبيعية. تتطلب صناعة الملابس استخدام القطن والصوف والكتان، وبالتالي، إعادة استخدام الثياب المستعملة بإمكانه الحد من الحاجة إلى استخدام هذه الموارد وتوفيرها. يمكن القول إن محلات بيع الثياب المستعملة تُطبق أحد أبرز أهداف برنامج الأمم المتحدة للبيئة والذي ينص على ضمان إنتاج الموارد الطبيعية وتجهيزها واستهلاكها بطريقة أكثر استدامة بيئياً.
ملاحظة آلية البيع والشراء في هذه المحلات والأسواق، تكشف وعياً فرضته الأزمة الاقتصاديّة، إذ يسلّم بعض الباعة الثياب باليد، من دون كيس بلاستيكي، أو يطلبون من زبائنهم إحضار أكياسهم المتعددة الاستعمال والصديقة للبيئة، لعدم قدرة أصحاب المحلات شراء كميات من أكياس البلاستيك، الأمر الذي يقلل من استهلاك الأكياس البلاستيكية الضارة بالبيئة. المفارقة هنا، أن الباعة والمشترين، يساهمون في تحقيق أهداف اتفاقية التنوع البيولوجي، التي تسعى للحد من إنتاج البلاستيك واستهلاكه.
اللافت أيضاً أن الكثير من المحلات تدرّب الموظفين على فرز الثياب بين تلك القابلة لإعادة الاستخدام وتلك التي لا بد من التخلص منها، ما يقلل نسبة النفايات، يترافق ذلك مع نشاط الجمعيات البيئيّة، التي تجمع الثياب غير القابلة للاستهلاك بهدف إعادة تدويرها.
تجارة لا تخلو من المخاطر
تحدثت مع المهندس عماد سعد، خبير الاستدامة والتغير المناخي، ورئيس شبكة بيئة ابوظبي، سعياً لفهم دور مراكز بيع الثياب المستعملة بالحد من نسبة التلوث بصورة أكثر علميّة، أخبرني أن تجارة الملابس المستعملة ذات تأثير أقل على البيئة قياساً بصناعة الألبسة الجديدة، كونها لا تستهلك الموارد ولا تنتج انبعاثات كربونية، ولا تستهلك مياهاً أو طاقة، ولا تنتج نفايات تذكر.
ويضيف، “يتطلب إنتاج قميص قطني واحد نحو 2700 لتر من المياه، فيما إنتاج سروال واحد من (الجينز) ينتج عنه ما يعادل 33.4 كيلوغرام من انبعاثات مكافئ ثاني أكسيد الكربون، بالتالي يُنتج عن قطاع صناعة الألبسة بشكل عام نحو 10 في المئة من إجمالي انبعاثات الكربون العالمية، خصوصاً إذا عرفنا أن العالم ينتج ما بين 100 و150 مليار قطعة ملابس جديدة سنوياً. فلنتخيل كم حجم التلوث الكربوني الناتج عن هذه الصناعة. وكم كمية الموارد المهدرة في هذه الصناعة جراء عدم استعمال او استهلاك تلك الملابس”.
يشير سعد إلى أن نسبة إعادة تدوير (نفايات الملابس) لا تتجاوز 1 في المئة على مستوى العالم، والدول المتقدمة التي تنتج وتستهلك النسبة الكبرى من هذه الملابس تمنع قوانينها الإضرار ببيئتها، فتتخلص من الملابس القديمة (نفايات الملابس) بتصديرها إلى البلدان النامية والفقيرة التي لا تتوفر فيها قوانين بيئية صارمة، لتبدأ حلقة جديدة من التلوث.
لا ينفي سعد أن هذه التجارة محفوفة بالمخاطر، منها على سبيل المثال لا الحصر انتشار الأمراض، لأن الملابس المستعملة قد تنقل الجراثيم والأمراض، ما يشكل خطراً على الصحة العامة، لكن يمكن تقليل هذا الخطر من خلال تنظيف الملابس المستعملة وتعقيمها بشكل جيد قبل إعادة استخدامها. ناهيك بأن هذه التجارة تشكل خطراً اقتصادياً غير منظور على المدى القريب، كونها تؤثر سلباً في صناعة الألبسة المحلية.