التعليق على الورقة العلمية “عمارة القطاع الزراعي السوداني والمساهمة في الاقتصاد بين عامي 1990 و 2021″، المنشوره في 2023
شبكة بيئة ابوظبي، بقلم، بروفيسور بدر الدين عبد الرحيم إبراهيم، كبير مستشاري برنامج الخليج العربي للتنمية، أجفند، 21 يونيو 2023
قدم الباحثين الزاكي الحلو خالد صديق أوليفر ك. كيروي من المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية ورقة مناقشة غير منشورة حول القطاع الزراعي في السودان. تميزت الورقة بعمق تحليلها و معلوماتها وبياناتها . واستعرضت الورقة أداء القطاع الزراعي السوداني خلال العقود الثلاثة الماضية (1990-2021) مقسمة الى الفترات التالية: 1990-1999، 2000-2010، و 2011-2021، بالتركيز على مساهمة الزراعة في الاقتصاد النمو والأمن الغذائي والتوظيف، فضلا عن تحليل أسباب ضعف أداء القطاع في المؤشرات الثلاث أعلاه. شمل التحليل القطاع الزراعي بأنظمته الفرعية الثلاث: المروي (الذي يمثل 9.3% من المساحة المزروعة لإنتاج قصب السكر والقطن والذرة الرفيعة والفول السوداني والقمح والبقوليات والتوابل والخضروات والفواكه)، والتقليدي (ويمثل 52% % ويقوم بإنتاج الذره والدخن والسمسم والفول السوداني والكركديه والصمغ العربي والماشية) ، وشبه المعتمد على الميكنة الزراعية (ويمثل 38.7% وينتج السمسم وعباد الشمس والقطن والدخن والماشية). هذا بالإضافة الي المواشي والغابات ومصايد الأسماك.
بالورقة تحليل علمي رصين من علماء متخصصين في القطاع الزراعي ولا شك أنها تصب في خانة التحليل العلمي الجيد للقطاع الزراعي في السودان الذي كان ومايزال محل اهتمام العالم نظرا للإمكانيات الزراعية الهائلة وغير المستغلة في السودان حسب بيانات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة التي أشارت إلى أن للسودان ما يقدر بنحو 183.3 مليون فدان من الأراضي الصالحة للزراعة ، والتي تمثل حوالي 39.3 في المائة من مساحة البلاد ، ويمتلك مخزونًا كبيرًا من الماشية يقدر بنحو 111 مليون رأس، وبذلك يعتبر واحدة من أكبر الدول في القارة الأفريقية ذات الإمكانيات الزراعية الهائلة غير المستغلة. رؤيتنا أن هذه الورقة قدمت نظرة شاملة وعلمية وتحليلية للقطاع ، الأمر الذي نفتقده.
أهم نتائج الورقة أن القطاع الزراعي ظل محركًا للنمو الحقيقي والصادرات في العقد السابق لعصر النفط (ما قبل 1999)، ولكن يبدو من الحليلات أنه وبعد دخول النفط تقلصت مساهمة القطاع الزراعي أثناء وبعد عصر النفط بسبب التحول الهيكلي من الزراعة للنفط. في الآونة الأخيرة ، أصبح القطاع المصدر الرئيسي للصادرات حيث أكثر من 50 في المائة من إجمالي الصادرات من 2018-2020 من الصادرات الزراعية. وعلى الرغم من الأداء الضعيف للقطاع بشكل عام بسبب عدم الاستقرار السياسات والصراع على الأرض، مع ضعف الإنتاجية بسبب ضعف الاعتماد على التقنيات الحديثة والأسمدة ومدخلات الإنتاج الزراعي وضعف الخدمات الزراعية والقيود المؤسسية ممثلة في تجزئة المؤسسات الزراعية وغياب فعاليتها، إلا أن القطاع الزراعي ظل المصدر الرئيسي لـ سبل كسب العيش والدخل لغالبية المواطنين، على وجه الخصوص المناطق الريفية. كما توصل التحليل إلى انخفاض الاستثمار الحكومي في القطاع قبل وبعد الانتفاضة. كما أشارت الي عوامل أخرى من بينها ارتفاع ارتفاع درجة الحرارة ، وانخفاض وتغير هطول الأمطار ، والجفاف ، والفيضانات.
يما يتعلق بمعدلات النمو أظهرت البيانات أن المساحات المزروعة بالسمسم والفول السوداني وعباد الشمس ولكن بنسب متفاوتة خلال العقد الماضي، بينما إنكمشت الأرض المزروعة بالذرة الرفيعة والدخن بنحو 10. كما توصلت الورقة إلى زيادة إنتاجية السمسم والفول السوداني والدخن زيادة كبيرة بأكثر من 50% ولكن قلت إنتاجية الحبوب خلال عصر النفط من بداية 2000 الى 2010 (باستثناء القمح) مقارنة بأي من العقدين قبل وبعد عصر النفط. تحسن الإنتاجية خلال الفترة ما بعد النفط 2011-2021 يشير إلى أن إعتماد البلاد على النفط ساهم في صرف الانتباه عن الزراعة. كما أشارت الورقة إلى ان أداء إنتاجية المحاصيل خلال العقد الماضي يؤكد أن الزراعة (في ظل الاهتمام بها) لديها القدرة على قيادة النمو الاقتصادي في السودان.
و يبدو من التحليل أيضا أن السودان يواجه تحديات جمة بتأثير المناخ (ارتفاع درجات الحرارة – متوقعة بنسبة 3% بحلول عام 2025- وانخفاض هطول الأمطار – بنسبة 4% في كل عقد – وتغيير أوقات هطول الأمطار ونوبات الجفاف والتصحر والفيضانات) مع ضعف مرونة الإستجابة مدفوعة بالزيادة السريعة في السكان بنسبة 2.4% سنويا. التغيرات المناخية مع وقوع السودان في المناطق الجافة سيسبب المزيد من مخاطر تغير المناخ، مما يؤثر على إنتاجية الزراعة المطرية والمروية والرعي والمياه الجوفية. وأشارت الى عدة قيود تؤثر على استجابة القطاع الزراعي في السودان لتغير المناخ من أهمها الانتقال البطيء إلى طاقة أنظف (الطاقة الشمسية وطاقة الرياح) وقيود المتانة والموثوقية وتوافر البيانات، تردد القطاع الخاص في الاستثمار في الابتكار المتعلق بتغير المناخ و محدودية قدرات التنمية المؤسسية والبشرية، فضلا عن المشاركة المحدودة لأصحاب المصلحة في عملية الاستجابة لتغير المناخ و عدم الاستقرار السياسي و ضعف الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
حسب نتائج الورقة مواجهة التحدي الزراعي في السودان يتطلب إرادة سياسية ووقف الصراع والعمل على مجابهة المشكلات البيئية. وتخصيص المزيد من الموارد للقطاع وجعله جاذباً للمستثمرين والعمالة الزراعية. واقترحت الورقة تخصيص نسبة 10% من الإنفاق العام للقطاع فضلا عن الإصلاحات المؤسسية في المؤسسات الزراعية والعمل على ضمان استقرار مؤشرات الاقتصاد الكلي وإجراء الدراسات الاستقصائية والتعدادات الزراعية، وتحديث خطط التنمية الاقتصادية الحالية بأهداف كمية واضحة وإعطاء الأولوية للقطاع في الإئتمان المصرفي ، وذلك من أجل ضمان تعبئة الموارد محليًا وجذب الإستثمارات الأجنبية والدعم من المانحين وتشجيع الصناعات ذات الصلة بالقطاع الزراعي لزيادة القيمة المضافه.
لاشك أن الورقة قدمت تحليلاً منظماً بأهم العوامل والإصلاحات. ولكن يبدو أن الفصل بين تأثير العوامل الداخلية (السياسات والخطط والتمويل وغيرها) والخارجية (تأثير تغير المناخ) هاما في تحليل معوقات القطاع الزراعي ونسب مساهمة كل منهما في هذا التردي. ربطت الورقة بين الأداء الضعيف للقطاع الزراعي في السودان وانخفاض الإنتاجية (بسبب ضعف الوصول إلى واستخدام المدخلات والتكنولوجيا والائتمان والخدمات الزراعي، والبنية التحتية المتدنية) ولم تذكر تأثير تغيرات المناخ على تدني الإنتاجية الزراعية. ولكنها تداركت الأمر حيث أشارت في مكان آخر إلى أن ” تغير المناخ، كما يتجلى في ارتفاع درجات الحرارة ، وانخفاض هطول الأمطار ، والجفاف ، هو أمر جوهري محدد ومؤثر حاليا على القطاع”. ومهما يكن من أمر رؤيتنا أن تأثير تغير المناخ لم يتم دراسته بشكل مستفيض، كما لم تتحرك السياسات والموارد في مجابهته . ربما لعدم تقدير تاثيراته على القطاع أو لقلة الإمكانيات المالية أو لضعف الخطط والسياسات الحكومية. و يبدو من التحليل أيضا أن السودان يواجه تحديات جمة في جانب تأثير المناخ مرشحة للتفاقم في المستقبل. كما أن العمل المناخي من جانب القطاع الخاص والحكومي لا يرقى لمستوى التحديات. في الفترة القادمة نرى ضرورة العمل المناخي للحد من تأثير التغير المناخي الكبير على القطاع الزراعي، خاصة من جانب القطاع الخاص والمؤسسات المالية والتأمينية التي تعمل في مجال الشمول المالي للمزارعين والرعاة وصائدي الأسماك.