شبكة بيئة أبوظبي، بقلم، د. نرجس نون – دكتورة وباحثة في القانون، لبنان، 15 أغسطس/آب 2023
يعتبر حق المواطن والإنسان بالبيئة بمنزلة المصلحة العامة. فبيئة الإنسان هي بمثابة بيئة واحدة وجزء لا يتجزأ ووحدة لا تنقسم، فعناصرها الطبيعية ونظمها البيئية تتفاعل فيما بينها. وبيئة الإنسان لا تعرف الحدود الجغرافية التي خلقها البشر. كما تعتبر مسؤولية الدولة أساسية في حماية الأرض من التلوث والمحافظة على نقاوة الهواء والمياه والثروة الحيوانية والنباتية والمناظر الطبيعية والآثار واستقرار التوازنات الحياتية، ومكافحة كل أنواع التلوث والضرر بالطبيعة، والمحافظة على الموارد المائية والشواطئ البحرية والمجاري والضفاف النهرية، ومراقبة العمران واعتماد التنمية البشرية المستدامة التي تعتبر الإنسان حاضراً ومستقبلاً محورها، والنمو الاقتصادي النوعي المتوازن الذي يحافظ على رأس المال الطبيعي وسيرتها.
من هنا يطرح السؤال عن كيفية قيام القوانين البيئية بالحفاظ على البيئة الصحية والمستدامة للأجيال الحالية والمستقبلية؟
فموضوع البيئة والتنمية المستدامة هو من المواضيع المستحدثة والتي برزت خلال الخمسين سنة الأخيرة، واحتلت مركز الصدارة والاهتمام العالمي. وتكمن الصعوبة في كون التنمية المستدامة تحتاج لنجاحها إلى تضافر جهود أطراف متعددة من أجل ترسيخ وتشجيع مفهوم الاستدامة البيئية، وهذه الأطراف تكون إما دولية وتتمثل تحديداً في المنظمات العالمية والاقليمية العامة والمتخصصة والوكالات، ووطنية تبرز أساساً من خلال الدول والمجتمع المدني.
مفهوم التنمية المستدامة أو ما يعرف بالتنمية صديقة البيئة هي التوازن بين حاجات الإنسان الحالية محدودة الموارد وبين الاستفادة من البيئة والأضرار بها، وهذا التوجه يتطلب أنماط من السلوك لا تهدر الموارد، كما يتطلب أنماط من السلوك لا تستنزف الموارد الطبيعية. أو بمعنى آخر هي ذلك النشاط الذي يؤدي إلى الارتقاء بالرفاهية الاجتماعية أكبر قدر ممكن مع الحرص على الموارد الطبيعية المتاحة وبأقل قدر ممكن من الأضرار والإساءة إلى البيئة.
فهذا المفهوم يتطلب السعي المستمر لتحقيق العدالة، إذ يجب أن تستخدم المصادر بشكل حكيم آخذين بالاعتبار الأجيال القادمة. والسبب وراء هذه المتطلبات هو أن البشرية تواجه في الوقت الحاضر مشكلتين أساسيتين هما: الأولى أن الكثير من الموارد التي نعتبر وجودها من المسلمات معرضة للنفاذ في المستقبل القريب، أما المشكلة الثانية فتتعلق بالتلوث المتزايد الذي تعاني منه بيئتنا.
لذلك أصبح من المحتم على كل الدول تتبنى وتنتهج استراتيجية وطنية للتنمية المستدامة تتضمن مختلف السياسات الاقتصادية، والاجتماعية، والبيئية، والعمرانية.
فقد بادرت الدول إلى إدراج حماية البيئة ضمن سياساتها التنموية، ولكن بدأت تعرف في الآونة الأخيرة تطوراً بعد إدراكها لحجم التهديد البيئي، حيث عمدت إلى سن القوانين البيئية، ويعتبر القانون المتعلق بحماية البيئة في إطار التنمية المستدامة الإطار العام لهذه القوانين.
بدأ القانون البيئي يعرف بعد تجلي آثار التدهور البيئي بسبب التقدم الصناعي والانفجار السكاني والحروب، وما نتج عنها من تلوث لعناصر البيئة وصولاً إلى ما أصبح يُعرف بالاحتباس الحراري العالمي. ومن خلال ذلك يمكن اعتبار بدء التأريخ لقانون بيئي بانعقاد مؤتمر الأمم المتحدة الأول للبيئة سنة 1972 في ستوكهولم بالسويد حيث أشير لمفهوم حقوق الأجيال المقبلة، إذ على الانسان واجب حماية وتحسين البيئة للأجيال الحالية والمقبلة، كما يتعين الحفاظ على الموارد الطبيعية للأرض لصالح الجيل الحاضر والأجيال المقبلة، وتعزيز القدرة التنموية في الحاضر والمستقبل للدول النامية. هذا المبدأ أعيد تأكيده في العديد من المعاهدات الدولية وغيرها من الصكوك، منها المادة (3) من الاتفاقية الإطارية بشأن تغير المناخ بصفة خاصة التي جاء فيها: “يتعين على الأطراف الحفاظ على المناخ لمنفعة الأجيال البشرية الحالية والقادمة”. ثم قمة الأرض في ريو دي جانيرو بالبرازيل سنة 1992، وقمة جوهانسبورغ للتنمية المستدامة بجنوب أفريقيا سنة 2002. ومن خلال كل هذه المؤتمرات الدولية وما تلاها أبرمت العديد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية البيئية التي صادقت الدول عليها وأصبحت في تشريعاتها الداخلية. وبذلك أسس فعليا للقانون البيئي.
يُعرف القانون البيئي بأنه فرع من فروع القانون العام نظامه القانوني مقرر لحماية البيئة والحفاظ عليها. فوظيفة هذا القانون تتمحور حول منع الأضرار البيئية في حالة وقوعها، أو باتخاذ تدابير احترازية تمنع وقوع هذه الأضرار. ويعتبر قانون البيئة ذو بعد دولي ووطني في آن واحد باعتبار وجود تداخل قائم بين الجانب المحلي والجانب الكوني في مجال المحافظة على البيئة.
فالقانون البيئي ينظم الوسائل التي يتم بها توفير الحماية القانونية للبيئة سواء من حيث المؤسسات المسؤولة عن هذه الحماية، أو النصوص القانونية المقررة لها. وعليه يكون تعريف القانون البيئي بأنه مجموعة القواعد القانونية التي تهدف إلى حماية البيئة والمحافظة عليها من خلال إدارة وتنظيم نشاط الإنسان، وتحديد السلوكيات التي تشكل تهديداً للبيئة، ومنه تجريم هذه السلوكيات والبحث عن عقوبات لها.
كما أن هذا القانون يستند في نصوصه دائماً إلى مجموعة المبادئ المقررة في المعاهدات والاتفاقيات والإعلانات الدولية، ودساتير وتشريعات وأعراف وأحكام قضائية داخلية. ومن أهم هذه المبادئ مبدأ التنمية المستدامة.
وتحافظ القوانين البيئية على البيئة الصحية والمستدامة للأجيال الحالية والمستقبلية بالعديد من الطرق والتدابير الفعالة، ومن بين هذه التدابير الرئيسية:
1.حماية الموارد الطبيعية: تعمل القانين البيئية على تنظيم استخدام الموارد الطبيعية مثل المياه والهواء والتربة، وتحميها من الاستنزاف والتلوث. هذا يساعد في الحفاظ على توفر هذه الموارد للأجيال الحالية والمستقبلية.
2.مراقبة التلوث والحد منه: تضع القوانين حدوداً معينة للملوثات وتفرض عقوبات صارمة على المنشآت والأفراد الذين يتجاوزون هذه الحدود. ويجعل هذا الإجراء المنشآت والأفراد يلتزمون بتطبيق الممارسات الصحية البيئية التي تقلل من الملوثات وتحافظ على الأرض والمياه والهواء النقي.
3.التحسين المستمر للتشريعات البيئية: حيث يتم تنظيم وتقييم القوانين البيئية بشكل دوري لمعرفة ما إذا كانت كافية لمواجهة التحديات البيئية المستقبلية، ولتحسين السياسات والاجراءات لتحقيق التنمية المستدامة وتحسين الحياة البيئية.
4.تعزيز التوعية البيئية: حيث يشجع القانون والتشريع على التوعية والتثقيف والتعليم والتدريب حول قضايا البيئة لصقل العقول وتعزيز السلوك القائم على البيئة، ويوفر المعلومات اللازمة للأفراد والمجتمعات لتطوير القرارات المستنيرة بشأن البيئة والتدابير الملائمة للعيش في بيئة صحية ومستدامة.
5.تشجيع الابتكار والتقنيات الخضراء: حيث تحث القوانين الحكومات والشركات على تطوير التقنيات الخضراء والبدائل الصديقة للبيئة، وذلك من خلال خلق بيئة ملائمة للاستثمار في التقنيات الواعدة التي تعزز التنمية المستدامة وتقضي على الممارسات التي تلحق الضرر بالبيئة والصحة العامة.
6.تشجع على الاستدامة: تعزز القوانين البيئية الممارسات المستدامة في مختلف القطاعات مثل الطاقة، والزراعة، والتخطيط العمراني، والنقل. تشجع هذه الممارسات على استخدام الطاقة المتجددة، والحد من إنتاج النفايات، وإعادة تدوير المواد، وتحسين كفاءة استخدام الموارد.
7.توجه الأنشطة الاقتصادية: توجه القوانين البيئية الأنشطة الاقتصادية بطريقة تحمي البيئة وتقلل من التأثيرات البيئية السلبية. على سبيل المثال قد تتضمن القوانين تنظيم استخدام الأراضي والحفاظ على التنوع البيولوجي وحماية المناطق الطبيعية الهامة.
8.تشجع على المسؤولية الاجتماعية: تدعم القوانين البيئية المسؤولية الاجتماعية للشركات والمؤسسات والأفراد فيما يتعلق بالبيئة. حيث تلزم الشركات بتقديم تقارير بيئية واتخاذ إجراءات لتحسين أثرها البيئي. كما تعزز القوانين المشاركة المجتمعية في عمليات اتخاذ القرار البيئي.
فمن خلال تنفيذ القوانين البيئية بفاعلية والالتزام بتطبيقها، يمكن تحقيق حماية شاملة للبيئة وضمان استدامتها للأجيال الحالية والقادمة. ففعالية وكفاءة أنظمة حماية البيئة تعتمد بالدرجة الأولى على إمكانيات وطاقات وحدود تطبيق وتنفيذ التشريعات البيئية المختلفة بدقة وحزم.
إذا يمكن القول بأنه رغم ظهور التنمية المستدامة خلال فترة قصيرة امتدت لنصف عقد من الزمن، إلا أن تسارع المحتوى البيئي لهذا المفهوم وامتداده لنواح عدة كالناحية الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والمؤسساتية وغيرها، أكسب هذا المفهوم وهذا التوجه الجديد أهمية جوهرية في طرح أسلوب مختلف وإتباع منهج آخر في كيفية استغلال الثروات الطبيعية وبناء النظم الاقتصادية والاجتماعية الضامنة لرفاهية الأجيال الحالية والحفاظ على حقوق الأجيال المستقبلية.
إذ نجحت الجهود الدولية خلال الفترة الماضية للتنبيه لمدى خطورة تفاقم المشاكل البيئية الحالية، وخاصة مسألة التغير المناخي وتدهور التنوع البيولوجي حيث دعت إلى تأطير المسألة من الناحية القانونية والمؤسساتية خاصة من خلال الالتزام العالمي بخطة الأهداف السبعة عشر لتحقيق التنمية المستدامة كحل للوضعية البيئية المتدهورة.
إن انخراط الدول في هذا المسعى سمح بتحقيق بعض الإنجازات التي جسدت تحقيق بعض أهداف التنمية المستدامة في السعي الحثيث إلى بناء الاقتصاد الأخضر وكذلك العمل على تحقيق الاستدامة البيئية العمرانية للمدن وتحويلها إلى مدن خضراء تستجيب إلى المعايير الدولية لتخطيط المدن إلى جانب جعلها مدن مستدامة ذكية تستخدم الوسائل التكنولوجية والتطبيقات الذكية بشكل واسع. وتتبنى الدول ذلك من خلال المصادقة على الاتفاقيات الدولية البيئية، وجعل القوانين البيئية في صلب قوانينها الوطنية والعمل المتواصل على احترام الضوابط القانونية ومعايير تجسيد مبادئ التنمية المستدامة.
ورغم اكتساب التجربة الدولية خبرة لا بأس بها في مجال ضبط الخطة العالمية تحت مسمى رؤية 2030، إلا أن التحديات ما زالت مطروحة خاصة في ظل المشاكل البيئية المعقدة.
لذلك فإن تجربة الأطراف الدولية على أهميتها وضرورتها، أظهرت أن المسار ما زال طويلاً والتغلب على العقبات يحتاج إلى التأني والتكاثف من أجل تنفيذ القوانين البيئية بفعالية والالتزام بتطبيقها، ذلك أن مهمة حفظ البيئة والنجاح في تحقيق التنمية المستدامة مهمة شاقة في ظل هذا التطور التكنولوجي السريع. فأهم ما تركز عليه الوثائق والمعاهدات الدولية في مجال حماية البيئة هو تطوير الدول لتشريعاتها الوطنية في هذا المجال، وذلك بغية إضفاء طابع الالزامية من جهة، وخلق نوع من التكامل والتعاون بين التشريع الدولي والتشريع الوطني في مجال المحافظة على البيئة من جهة أخرى.
وبما أن مشاكل وقضايا البيئة تتجاوز حدود وقدرات الدول، فإن التعاطي مع مسألة حماية البيئة أصبح يتطلب تجاوز الفصل التقليدي بين ما هو وطني وما هو دولي، وغداً يحتاج إلى نوع من التكامل بين المجهود الجماعي الدولي والمجهود الفردي الوطني من خلال مد الجسور بين التشريع الدولي والتشريع الداخلي.