سبب رحلتي من النظرية الاقتصادية (النيوليبرالية) الى الشمول المالي

الجزء الفارغ من كوب (النيوليبرالية):

شبكة بيئة ابوظبي، بروفيسور بدر الدين عبد الرحيم إبراهيم، كبير مستشاري برنامج الخليج العربي للتنمية، 15 أغسطس 2023

تشبعت بدراسات النظرية الاقتصادية (النيوليبرالية) في جامعة الخرطوم وجامعات الغرب في إنجلترا وألمانيا وكتبت رسالة الدكتوراه في برامج الإصلاح الهيكلي للبنك الدولي بأفريقيا وراء الصحراء بالتركيز على السودان بجامعة مانشستر بإنجلترا ، و التعمق في النظرية وتطبيقاتها وإخفاقاتها ونجاحاتها وبعد نشر العديد من المقالات العلمية المحكمة وطباعة الكتب في إنجلترا وأمريكا وألمانيا وكندا. نلت الدرجة العلمية من جامعة مانشيستر بإدخال المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر ضمن برنامج البنك الدولي بأفريقيا وراء الصحراء بعد إجراء دراسات ميدانية حول واقع القطاعات الصغيرة المصنفة حسب التصنيف الصناعي القياسي الدولي لجميع الأنشطة الإقتصادية والمختصر بـ . ISIC شملت القطاعات الغذائية والمشروبات و(التوباكو) والجلدية والحديدية و في مدن ولايات دارفور الكبرى : نيالا، كاس ، زالنجي، مليط والفاشر، واستخدمت نتائج الاستبيانات والبيانات التاريخية لحساب كثافة رأس المال وكثافة الإنتاج والترابط مع القطاعات الأخرى وطبيعة أسواق المواد الخام وأسواق المنتج المحلية والعالمية.

بعد أن أنتهيت من هذا العمل النظري والميداني وبعد التعمق في الدراسات ليس من المنطق أن أقول أنني ضد النظرية (النيوليبرالية) بأكملها، فهي نظرية قائمة على أسس علمية متينة ومنطقية ولكنها في حالة الدول النامية التي تعاني من اختلالات في التوازن الداخلي (الميزانية العامة) والخارجي (الميزان التجاري وميزان المدفوعات) يعتريها بعض الضعف في فهم الحاجيات الأساسية وبالتالي وضع ترتيبات مختلفة للسياسات الإقتصادية المناسبة لهذه الدول. وللذين لم يراجعوا أصل هذه النظرية وحسب نموذج بولاك – الذي بني عليه النظرية – هنالك طلب كبير في الدول النامية التي تعاني من اختلالات مرتبط بتطلعات الإنسان والحكومة ينعكس في الصرف مقارنة بما يتوفر من إمكانيات وموارد اقتصادية لتلبية ذلك الطلب المتزايد، ولذلك ترى النظرية النيوليبرالية أهمية النظر في تخفيض الطلب الكلي (الخاص والحكومي، الاستهلاكي والاستثماري) بالإجراءات التي يسميها الاقتصاديون المتشددة مثل تخفيض الإستهلاك برفع أسعار السلع والخدمات لتغطي تكلفتها الحقيقية مثل الكهرباء والخدمات الأخرى، وتخفيض الإنفاق الحكومي وزيادة الموارد الحكومية برفع الدعم وزيادة الضرائب والرسوم وتخفيض العرض النقدي عبر تخفيض الإئتمان المصرفي وغيرها من الإجراءات المتشددة على معيشة المواطن وتركيزها فقط على جانب تخفيض الطلب الكلي (الإستهلاك المجتمعي والإستثمار الفردي والحكومي والإنفاق الحكومي) ليتناسب مع العرض الكلي من السلع والخدمات في الاقتصاد (الناتج المحلي الإجمالي) تتجاهل أو ربما تنسي ضرورة زيادة العرض المرتبط بالإنتاج والتنمية المستدامة كحل مستدام في المدى البعيد، علما بأن الإجراءات التقشفية في كل الدول التي طبقت فيها لم تعمل للوصول للتوازن لبدأ مرحلة النمو فيما بعد ذلك، لأن الدول لم تطبق البرنامج بأكملة (كما يرى البنك الدولى وصندوق النقد الدولى) أو أن سد الفجوة يخلق أيضا فجوات أخرى وهكذا تظل الدول النامية تبحر في دوامة عدم التوازن الإقتصادي الداخلي والخارجي. لذلك أعتبر أن نظرتها للتوازن في المدي القريب وليس البعيد أمرا لا يخدم مستقبل هذه الاقتصادات. في الجانب الآخر لم تعمل هذه النظرية بما فيه الكفاية لحماية الجهات الضعيفة في المجتمع من جراء هذه الإجراءات . لذلك فإنني أؤمن بضرورة أن يكون هناك جانبا إنسانياً فيها بشكل أكثر وضوحا ومصداقية، إذا أنني أري أن كل البرامج الاجتماعية التي صاحبت روشتات البنك الدولي وصندوق النقد الدولى كانت حفظاً لماء الوجه وليس لها جانب إنساني كبير، لأنها قصيرة المدي، ضعيفة التمويل ، وغالبا يتم تنفذها على جهات محددة ولا تشمل كل المتضررين من آثار السياسات التقشفية.

على الرغم من تخصصي الدقيق في السياسات الكلية للصندوق والبنك الدوليين (سياسات الاقتصاد الكلى)، وجدت ضالتي ومتعتي في سياسات الإقتصاد الجزئي عبر العمل على تخفيف آثار هذه البرامج على الفئات الضعيفة إقتصادياً في المجتمع، وعلى وجه الخصوص التمويل الأصغر والشمول المالي كواحد من الآليات المستدامة لزيادة الدخول لمقابلة تكاليف المعيشة للجهات النشطة إقتصادياً والتي تعتبر جزء من الجهات المستهدفة بالشمول المالي. رؤيتي أن هذه الفئات إذا تم إدخالها في العملية التنموية عبر الخدمات المالية ستشكل قوة كبيرة لزيادة الإنتاج وفرص التشغيل والدخول، ولكن – عكس مايربط الناس وربما المتخصصين في المجال- أرى أن الشريحة الأولى بالتمويل الأصغر هي الشريحة المنتجة والنشطة إقتصادياً. كما أرى أن تكون الخدمات المالية لهذه الشريحة بالأسعار السوقية لأن سياسات الدعم غير مستدامة ولابد أن تقف في حالتي نجاحها أو فشلها وهي بالتالي لن تخلق قطاعاً مستداماً مؤسسياً وربحياً للتمويل الأصغر . كما أري أهمية كبيرة في وضع سياسات مصرفية متكاملة وفاعلة تؤدي لخلق ومتابعة واستدامة مقدمي خدمات التمويل الأًصغر على أسس حكيمة كما ترى المجموعة الاستشارية لمساعدة الفقراء (سيجاب( التابعة للبنك الدولي. وأحمد كثيرا للبنك الدولى على إهتمامه بشأن الشمول المالي والتمويل الأصغر وإدخال القواعد والسياسات لهذا العمل الكبير الذي سارع من تصوره وإدخاله في مظلات أخري مثل الصمود أمام التغير المناخي. لذلك أنا أقف مع المدرسة المؤسساتية في التمويل الأصغر والتي عبر السياسات التي تتم متماشية مع نموذج سيجاب تخلق مؤسسات مربحة ومستدامة ومتطوره بهوامش ربحية تجارية، ولا أؤمن أن يقحَم التمويل الأصغر في مدرسة الرفاهية التي تدعو لتمويل كل الفقراء على مختلف درجات فقرهم بهوامش ضعيفة أو بدون هوامش وبدون ضمانات، ولدي في تجربة الزكاة وتجربة تمويلات المنظمات المحلية والعالمية في السودان خلال فترة التسعينات عبره في عدم نجاح واستدامة التمويل المدعوم. ضعف الهوامش وبزوال التمويل لن يساعد أصحاب هذه المشروعات المتناهية الصغر لتقبل الهوامش التجارية في البنوك ولذلك لن نخلق منهم رجال أعمال في المستقبل عبر الدعم. فالدعم قاتلا للتطوير وهو أيضا ليس سياسة جيدة لبناء مؤسسات مالية مستدامة.

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

هل يمكن تطبيق الصيغ غير المعتمده على الفائدة في ظل النظام المصرفي التقليدي بدون تغير في الاطر التنظيمية؟

شبكة بيئة ابوظبي، بروفيسور بدر الدين عبد الرحيم إبراهيم، كبير الخبراء، برنامج الخليج العربي للتنمية، …