شبكة بيئة ابوظبي، بروفيسور بدر الدين عبد الرحيم إبراهيم، كبير مستشاري برنامج الخليج العربي للتنمية، أجفند، 20 أغسطس 2023
سألني صديق مطلع على مقالاتي عن مستقبل التمويل الأصغر وهل سيظل عملائه لا يبرحون مكانهم؟ في الحقيقة السؤال مهم والرد عليه أمرا مفيداً للقارئ. بعد نجاح التمويل الأصغر على الأسس المربحة وبعد تبني البنك الدولى والمصارف المركزية وبقية المنظمين له عبر التشريعات والسياسات والإستراتيجات، إلا أن هذا السؤال مازال قائما. منذ فترة أحاول أن أستقرأ مستقبل القطاع في المنطقة العربية، وأرى أنه من الأفضل النظر الى حالات التوسع الرأسي والأفقي على السواء إذا كنا نريد الإنتقال لوضع أفضل . هناك عديد من أنواع المؤسسات التي تقدم خدمات التمويل الًأصغر تشمل البنوك التقليدية والجمعيات القاعدية بمختلف مسمياتها مثل مجموعات الادخار والتسليف والتعاونيات . وتعتبر مؤسسات التمويل الأصغر هي الأكبر من ناحية تقديم الخدمات، لذلك مايهمنا هنا تقديم التمويل الأصغر من خلال هذه المؤسسات المتخصصة وتحولاتها والتي تخضع لتصديق وإشراف الجهات المنظمة لها. أولا لابد من تعريف مانقصده بالتوسع الأفقي والرأسي:
أولا: التوسع الأفقي : ونقصد به التغطية ونطاق الخدمات و المنتجات المعروضة، بما في ذلك منتج الإدخار، و زيادة عدد العملاء المشمولين وحجم التمويل للمؤسسات القائمة عبر التوسع الجغرافي في التغطية وزيادة عدد الفروع والنوافذ والوكالات والرقمنة. تطور التوسع الأفقي في التمويل الأصغر على نطاق العالم ظل يأخذ شكلا متسارعا. هنالك عمل مقدر في التوسع الأفقي في أغلب الدول من حيث حجم التمويل وتوسع الجهات المستهدفة ونوع المنتجات ودخول التمويل الأصغر في منتجات وشرائح جديدة مثل منتجات لمقابلة آثار التغير المناخي وتغطية شريحة المهاجرين ذات الخصوصية وغيرها. كما زاد حجم التمويل بفضل فتح الباب أمام التمويل بالجملة عابر الحدود وتوفير وتنويع الضمانات له، وتوسيع دخول المؤسسات المتوافقة مع الشريعة لزيادة العرض للراغبين فيه، علما بأن دول جنوب شرق آسيا قد قطعت أشواطاً كبيرة في تفعيل قطاع المؤسسات غير المعتمدة على الفائدة وجعلته مورداً هاماً من موارد تمويل المشاريع الصغرى والصغيرة للطبقات الفقيرة ومحدودي الدخل.
وفي جانب التوسع الأفقي تشير التقديرات العالمية إلى وصول سوق التمويل الأصغر إلى 179مليار دولار أمريكي بنهاية 2020، مقارنة ب4.4 مليار دولار أمريكي في 2008 ، ومن المتوقع نموه إلى 304 مليار في 2026 وإلى 497 مليار دولار في عام 2030، بمعدل نمو مركب 11%. وتأتي هذه التقديرات بسبب زيادة أعداد غير المشمولين ماليا المقدرين بنحو 1.7 مليار نسمة وفرص التوسع في التمويل بالجملة والتوسع المتزايد في حلول الدفع الإلكتروني والتمويل الرقمي الذي يقلل التكاليف ويسهل الوصول للفئات المستهدفه، والتحول نحو الحوكمة الجيدة في المؤسسات ونشر الثقافة المالية وتصحيح المفاهيم المغلوطة التي كانت تؤثر سلبا على معدلات السداد، والتحول من الإقراض الفردي للإقراض الجماعي . ولكن لا زال هناك طلب كبير ينتظر التمويل و فجوة تمويلية كبيرة. أسواق التمويل الأصغر هي الأكثر تطورًا أفقيا في البلدان النامية مقارنة بالبلدان المتقدمة ولا عجب في هذا الأمر لأن التمويل الأصغر صناعة بلدان نامية وليست متقدمة. وحسب البيانات المتوفرة تمثل مناطق إفريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوب وشرق آسيا والمحيط الهادئ حوالي 80 ٪ من السوق العالمية . ويعتبر هذا القطاع أقل تطوراً في أمريكا اللاتينية لخضوع الأسواق المالية لتنظيم صارم لم يساعد على الإنتشار والتوسع مع توفر البدائل الأخرى، بينما ضعف التمويل الأصغر بالمنطقة العربية مرده ضعف السياسات والتشريعات واللوائح التنظيمية وتخلف الرقمنة والحوكمة اندياح المفاهيم المغلوطة وضعف أداء المؤسسات مقارنة بدول آسيا ودول العالم الأخرى.
ثانيا: التوسع الرأسي: يقصد بالتوسع الرأسي التحول المؤسسي للمؤسسات والتجسير للعملاء . الأول يقصد به تطوير المؤسسات المقدمة للخدمة رأسيا وتنميتها ، بينما التجسير للعملاء يشمل الفئات المستفيدة وتحويلها لمستويات أعلى في حجم التمويل وفي ترسيخ مفهوم وممارسة ريادة الأعمال والانتقال بهم من مربع المنشآت الصغرى للصغيره وما بعدها . ظل التوسع الرأسي في القطاع على المستوى العالمي ضعيفاً مقارنة بالتوسع الأفقي، إن لم يكن بقدر محدود. وفي مجال ترقية المؤسسات الداعمة له بالطبع هناك تجارب في آسيا وأفريقيا وبفضل السياسات الجيدة انتقلت بعض المؤسسات الى وضع أفضل في تحولها المؤسسي بعدة طرق. الطرق الرئيسية لتحقيق التحول المؤسسي تشمل الشراكة مع المنظمات الأخرى التي تعمل في نفس النشاط أو من خلال إعادة هيكلة عمليات التمويل الأصغر عبر الاندماج والاستحواذ والامتياز والربط، أو تصغير حجم المؤسسات المالية الرئيسية الكبيرة كالبنوك ذات الأداء الضعيف لبنوك للتمويل الأصغر، أو تحول برامج الإئتمان للمنظمات غير حكومية إلى مؤسسات مالية للتمويل الأًصغر. بعد خروج المنظمة وتمليك الأصول لجهات أخرى أو للعملاء، أو التحول الطبيعي من مؤسسة تمويل أصغر لبنك للتمويل الأصغر، في حالة وجود السياسات التي تعمل على ذلك. هنالك أيضا تطور في طبيعة الخدمات داخل المؤسسات نفسها عبر تحول مؤسسات التمويل الأصغر من مؤسسات لا تقبل الودائع لمؤسسات تقبل الودائع الإجبارية والطوعية من العملاء و في بعض الأحيان من الجمهور.
التجربة الإثيوبية في التحول لبنوك هي الأشهر . في 2020 تم إعادة ترخيص 3 مؤسسات للتمويل الأصغر وتخريجها من مؤسسات لبنوك (مؤسسة أورميا للائتمان والادخار ، ومؤسسة أمهرة للائتمان والادخار ، ومؤسسة التمويل الأصغر الصومالية التي تحولت لبنك تجاري بدون فوائد) . وشملت الترقية المؤسسية السماح لها بالاقتراض من مؤسسات مالية أجنبية. وشملت أسس التحويل استيفائها لمتطلبات البنك الوطني الإثيوبي (البنك المركزي) أهمها ألا تمتلك أي حكومة إقليمية أكثر من 70 في المائة من أسهم المؤسسة وتحمل المؤسسة تصنيف كفاية رأس المال وجودة الأصول وكفاءة الإدارة والأرباح والسيولة لا يقل عن ثلاثة من أصل خمسة. هذه المؤسسات تمثل نسبة كبيرة من القطاع وتحولها لبنوك انخفض عدد مؤسسات التمويل الأصغر إلى 37 مؤسسة وانخفضت بالتالي الودائع الإدخارية (التي تمثل نحو 70% من إقراض المؤسسات الأثيوبية) بنسبة 44% وتقلص إجمالي الإئتمان بنسبة 40% وإجمالي الأصول بنسبة 52%. هذه الانخفاضات بسبب المساهمات الكبيرة لهذه المؤسسات المتحولة في قطاع مؤسسات التمويل الأصغر .
ضعف أداء التمويل الأصغر في المنطقة العربية سببه ضعف التوسع الأفقي والرأسي. ففي التوسع الأفقي على الرغم من أن هناك انفتاح في سياسات التمويل الأصغر المتوافق مع الشريعة بشكل واضح بعد أن حظي باهتمام من قبل السلطات الرقابية في المنطقة العربية في السنوات الأخيره، إلا أنه يحتاج لمزيد من تشجيع التوسع في قيام المؤسسات. كما نرى أهمية لتحويل المجموعات القاعدية لمؤسسات مسجله وتقديم الدعم الفني اللازم لها. وتحول كل المؤسسات القائمة لمؤسسات تقبل الودائع وإدخال التأمين والتأمين التكافلي وتشريعاته في التمويل الأصغر وكذلك السماح بقيام المؤسسات المظلية التي تقدم الخدمات للمؤسسات وتوفير الضمانات للتمويل بالجملة. وفي التوسع الرأسي من المهم وضع التشريعات والسياسات المناسبة التي تسمح بانتقال المؤسسات إلى مراحل أعلى بعد استيفاء الشروط وتشجيعها على الإندماج والإستحواذ وزيادة رؤوس أموالها وتحسين الحوكمة وتقديم الحوافز في فترة الانتقال وما بعد الانتقال.
وفي جانب التحول المؤسسي من الواضح أن هنالك حالات قليلة جدا كانت في أغلبها تحويل بعض برامج الائتمان الأصغر للمنظمات غير الحكومية الدولية إلى مؤسسات مسجلة من قبل الجهات الرقابية ، بينما بقيت الأخرى كما هي عليه. وهنالك مقترحات في دراسة لمؤسسة التمويل الدولية في 2018 حول الفرص والتحديات وموائمة المصالح لتحويل مؤسسات التمويل الأصغر في المنطقة العربية اقترحت بأن يتم السماح للموظفين بالمشاركة في الحصول على بعض من حقوق ملكية للكيان المحول عبر تعويضات الموظفين ومنحهم بموجبها حصصًا في شركة رأس المال التي توظفهم، لإبعاد مخاوفهم ومعالجة عدم التيقن بشأن عملية التحول الخاصة بمستقبلهم في ظل الوضع الجديد . أن فرصة النمو وتقديم خدمات أفضل لمن يعانون من نقص الخدمات قد شجع العديد من مؤسسات التمويل الأصغر في العالم العربي أن يعيد النظر في التحول، دون أن تكون هنالك إجراءات عملية واضحة. ومن الأهم القول بأفضلية تحويل البنوك ذات الأداء الضعيف في المنطقة العربية لبنوك للتمويل الأصغر، وكذلك نرى أنه من الأجدى النظر في تحويل فروع بعض بنوك التنمية غير الفاعلة وكذلك البنوك الزراعية الحكومية المترهلة والمعتمدة على تمويلات المصارف المركزية لمؤسسات للتمويل الأصغر . النمو المؤسسي يوفر فرصا كبيرة ومتنوعة من قنوات التمويل وكذلك فرص النمو ولذلك ينبغي لمؤسسات التمويل الأصغر في المنطقة العربية إعادة النظر في هذا التحول. قناعتي أن التمويل الأصغر في المنطقة العربية لن يصل لآفاق أرحب، إلا بالنظر في التحول الرأسي المؤسسي (بجانب الأفقي) عبر سياسات واضحة ومشجعة ومتنوعة.