من أجل وقف تدهور أحوال الكوكب
يمكن للتربية على المسؤولية البيئية أن تشجع سلوكيات مختلفة ذات تأثير مباشر ومهم في مسألة العناية بالبيئة
التهديدات المناخية والبيئية تجيء في مرتبة لا تقل خطورة عن التهديدات النووية، بل ربما تفوقها خطراً.
ثقافة الوعي البيئي تمدنا بعقول ناضجة قادرة على بلورة عادات ومفاهيم بيئيية صديقة للبيئة عن وعي وقناعة
على عتبات قمة الأمم المتحدة للمناخ، كوب 28، والتي ستقام في العاصمة الإماراتية أبوظبي، تبدو البشرية على موعد مع أهم حدث بات موصولاً بحياة البشرية فوق الكوكب الأزرق، لاسيما في ظل الأوضاع البيئة التي أضحت تمثل الهاجس الأكبر والأخطر لكل سكان المسكونة.
قبل بضعة أعوام، بل ربما خلال العامين المنصرمين، حيث عقد مؤتمرا البيئة العالميان، الأول في مدينة غلاسجو 2021، والآخر في مدينة شرم الشيخ 2022، كان الحديث يدور حول ظاهرة الاحتباس الحراري، ومحاولة وقف تدهور أحوال المناخ.
غير أن التصريحات الأخيرة للأمين العام للأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتيريش، والتي أشار فيها إلى أن الكرة الأرضية تجاوزت مرحلة الاحتباس الحراري، ودخلت مرحلة الغليان، باتت تضع الإنسانية أمام استحقاقات بيئية مخيفة، تؤرق حياة الجميع، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، وسواء كان الأمر متعلقاً بدول العالم المتقدم أو النامية، وما حدث في الأسابيع القليلة الماضية، يمكن أن يكون نذيراً لدمار الأرض وفناء الحياة من فوقها.
في هذا السياق يعن لنا التساؤل: هل من حاجة إلى نوع جديد من أنواع ثقافة الوعي البيئي كمدخل من بين مداخل متعددة لمواجهة التدهور الحادث بحراً وبراً وجواً؟
يبدأ التغيير الحقيقي من ثقافة الوعي بالبعد الإشكالي للأزمة، والتي هي جوهرية لا عرضية، ولعل هذا ما يدعونا لاستحضار ما قاله «نيكولاس هاغيلبيرج»، منسق تغير المناخ في برنامج الأمم المتحدة للبيئة وفيه أن: «حالة الطوارئ المناخية تتطلب اتخاذ إجراءات من جانبنا جميعاً. نحتاج إلى الوصول بانبعاثات غازات الاحتباس الحراري إلى مستوى الصفر بحلول عام 2050، ولكل شخص منا دور يلعبه. كأفراد يتعين علينا أن نغير عاداتنا الاستهلاكية أول الأمر».
ما الذي يعنيه هذا التصريح؟ باختصار غير مخل، يفيد بأن هناك حاجة ماسة لخلق ثقافة وعي بيئي في النفوس والعقول، من عند أطفال المدارس، إلى عمال المصانع، ومن أصحاب القلم والرأي، مروراً بالمفكرين والإعلاميين، وصولاً إلى الزعماء السياسيين، ومن غير أدنى استثناء، ذلك أن الخطر يطال الجميع، من غير محاصصة عرقية أو عقدية، ومن دون تفريق بين جنس أو لون.
نتذكر جميعاً كيف أن حقبة الحرب الباردة والتي استمرت نحو أربعة عقود، قد شهدت وعياً ثقافياً بارزاً تجاه ما عرف وقتها بـ «التهديدات النووية»، وما يمكن أن تتسبب فيه من قضاء مبرم على البشر والحجر.
اليوم تبدو التهديدات المناخية والبيئية في مرتبة لا تقل خطورة عن التهديدات النووية، بل ربما تفوقها خطراً ورعباً، ذلك أن الانفجار النووي يمكن أن يصيب بقعة بعينها، أو موضعاً بذاته، فيما المخاطر الكونية المحلقة اليوم، كفيلة بإرجاع البشرية إلى زمن الطوفان الذي لم يوفر شعباً أو قبيلة حول المعمورة دفعة واحدة.
حياة الأجيال القادمة
تبدو النقطة الجوهرية في الحديث عن ثقافة الوعي البيئي، منطلقة من ضرورة تجاوز أنانية الأفراد، والبراغماتية اللحظية قصيرة النظر، فضلاً عن النرجسية غير المستنيرة التي تتمحور حول الحياة الحالية فقط، من غير أقل اهتمام بحياة الأجيال القادمة، وكأن الأرض ملك لجيل بعينه، يحق له أن يستبد بها، ومن غير رؤية إنسانوية تؤمن بمسؤولية المحافظة عليها، والعمل على توفير عالم صحي خال من المشاكل البيئية، يمكن أن يورث للأجيال القادمة، كإرث نافع وصالح، غير معيب ولا موقوت أو ينتظر الانفجار من جراء أخطاء الآباء.
في مقدمة أدوات «ثقافة الوعي البيئي»، تحتل عملية التربية مكانة متقدمة، ذلك أنها مع التعليم الجيد والمنفتح بروح نهضوية، لا نهبوية، تنتج لنا «مواطنين إيكولوجيين»، بحسب تعبير البابا فرنسيس، في رسالته البابوية الصادرة عام 2015.
ثقافة الوعي البيئي تزخمنا بعقول ناضجة قادرة على بلورة عادات ومفاهيم بيئية صديقة للبيئة عن وعي وقناعة، لا عن إلزام ورهبة قانونيين، فوجود قوانين وتشريعات أمر غير كاف، على المدى البعيد، للحد من التصرفات السيئة، حتى في حال وجود رقابة فعالة. فلكي يكون لهذه التشريعات القانونية تأثيرات مهمة ومستدامة، من الضروري أن يقبلها غالبية أعضاء المجتمع، وأن يتفاعلوا معها وفقاً لقناعات شخصية، وانطلاقاً من تنمية ثقافية فكرية وذهنية قائمة على التضحية وليس الإيثار غير الإيجابي أو الخلاق، وضمن التزام إيكولوجي فاعل ومؤثر بل ونافذ. يمكن للوعي الثقافي أن يساعد كثيراً جداً في تجنب الكرة الأرضية مآلات مخيفة، سيما إذا اكتسب الأفراد عادات واعية، لا تكلف الكثير.
خذ إليك على سبيل المثال ما يمكن أن يحدثه التوقف عن استخدام أنظمة التدفئة في الدول ذات الطقس البارد، لليلة واحدة، والاستعاضة عن تلك الأنظمة بالمزيد من الأغطية. هنا لنا أن نتأمل قدر الوفر المتحقق في استخدام الطاقة، من جراء تنمية ثقافة واعية بمساندة البيئة، عبر تقليل استخدام تقليدي للطاقة، ومن دون حدوث أي ضرر بشري.
نمط حياة
من الرائع أن تتوصل التربية إلى تحفيز هذه الأعمال حتى تحولها إلى نمط حياة. يمكن للتربية على المسؤولية البيئية أن تشجع سلوكيات مختلفة، ذات تأثير مباشر ومهم في مسألة العناية بالبيئة، مثل تجنّب استعمال المواد البلاستيكية أو الورقية، وتخفيض استهلاك المياه، وفرز النفايات، وطهي فقط الكمية اللازمة من الطعام، والتعامل باهتمام مع بقية الكائنات الحيّة، واستخدام وسائل النّقل العام أو المشاركة بين أشخاص عدة في استخدام سيارة واحدة، وزراعة الأشجار، وإطفاء الأنوار غير اللازمة. إن هذا كله جزء من إبداع سخي ونبيل، يُظهر أفضل ما في الكائن البشري. إن إعادة استعمال شيء ما، انطلاقاً من دوافع عميقة، بدل التخلّص منه بتسرع، يمكنه أن يكون عمل محبة يعبّر عن احترامنا لأمنا الأرض.
يبدو الحديث عن ثقافة الوعي البيئي حديثاً مثيراً، لاسيما إذا نظرنا للآليات التي تبدو بسيطة، لكنها مداخل حقيقية لعكس توجهات البيئة الغاضبة..هل من أمثلة بشكل أكثر تفصيلاً؟
بحسب بيانات برنامج الأمم المتحدة للبيئة، فإنه يتم كل عام تدمير نحو 12 مليون هكتار من الغابات. وتعد إزالة الغابات، إلى جانب الزراعة والتغيرات الأخرى في استخدام الأراضي مسؤولة عما يقرب من 25 في المائة من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية.
هنا يمكن لفكر «الثقافة الخضراء»، أن يلعب دوراً في عكس هذا الاتجاه من خلال زراعة الأشجار، إما بشكل فردي أو كجزء من مجموعة مؤسساتية، وصولاً إلى المشروعات الدولية الإقليمية والعالمية، القادرة على تخفيف الاحتقان البيئي المعاصر. على سبيل المثال، تسمح مبادرة «ازرعوا من أجل كوكب الأرض»، للناس برعاية غرس الأشجار في جميع أنحاء العالم. وثقافة الوعي البيئي هي التي تعلمنا على سبيل المثال وليس الحصر، كيفية ارتداء ملابس ذكية صديقة للبيئة، وربما يدهش القارئ إنْ أدرك أن صناعة الأزياء تمثل ما بين 8 إلى 10 في المائة من انبعاثات الكربون العالمية، أي أكثر من جميع الرحلات الجوية الدولية والشحن البحري مجتمعين، سيما أن ثقافة الأزياء الحديثة، قد تصنع موجات من التخلص من الملابس القديمة، والتي عادة ما تؤول إلى مكبات النفايات، خاصة في الدول الثرية.
ثقافة الوعي البيئي تدفع العالم لتغيير هذا النمط من السلوك، من خلال شراء عدد أقل من الملابس الجديدة وارتدائها لفترة أطول. هنا ربما يكون المطلوب البحث عن المنتجات المستدامة، والاستعانة بخدمات التأجير للمناسبات الخاصة، بدلاً من شراء ملابس جديدة سيتم ارتداؤها مرة واحدة فقط. ومن آليات ثقافة الوعي البيئي، العلاقة بين البشرية وما تستهلكه من طعام، وهذه معضلة كبرى تؤثر حكماً على مستويات غازات الدفيئة في عالمنا المأزوم. وبمزيد من التوضيح، وبحسب تقرير مؤشر نفايات الأغذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة لعام 2021، فإنه يتم فقدان أو هدر ثلث الطعام المنتج فوق سطح الكرة الأرضية، ما يعني أن البشر يهدرون مليار طن من الطعام سنوياً، وهو ما يمثل 10.8% من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري العالمية.
إن تجنب الهدر في الطعام، والاستفادة حتى من المخلفات في صناعة السماد لتخصيب الحدائق المنزلية، الأمر الذي يعد أحد أفضل الخيارات لإدارة النفايات العضوية مع تقليل الآثار البيئية أيضاً، هو نتاج مباشر لنجاعة فكرة ثقافة الوعي البيئي.
يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سرد وعرض ملامح ثقافة الوعي البيئي المنشود من أجل وقف تدهور أحوال الكوكب الذي كان رائعاً.
غير أنه وفي كل الأحوال، يجب عدم الاعتقاد بأن هذه الجهود لن تغير العالم. فأعمال كهذه تنشُر في المجتمعات البشرية خيراً عاماً باستطاعته دائماً أن يعطي ثماراً تفوق ما يمكن مشاهدته، ذلك لأنها تولد في باطن هذه الأرض خيراً يميل إلى الانتشار، أحياناً بطريقة غير منظورة. علاوة على ذلك، فممارسة هذه السلوكيات تعيد لنا الشعور بكرامتنا، وتقودنا نحو عمق كياني أكبر، وتسمح لنا أن نختبر أن واقع مرورنا في هذا الكوكب أمر يستحق العناء من أجله والدفاع عنه في الحال والاستقبال.
المصدر، شبكة ابوظبي للاعلام، إميل أمين، 5 أكتوبر 2023 01:20