تنفرد شبكة بيئة أبوظبي بنشر كتاب “كمال جنبلاط الإنسان والصوم”
للزميل الكاتب الصحفي حسن بحمد، بشكل يومي خلال شهر رمضان الكريم 2024
شبكة بيئة ابوظبي، الإمارات العربية المتحدة، الأستاذ حسن بحمد، 11 مارس 2024
إن الإنسان هو أعظم ثمرات الوجود المنذور، وهو القارئ الأكثر شغفاً بقراءة ذاته، وتقليب صفحات وجوده، تعبيراً عن شوقه اللامتناهي إلى بقائه وخلوده، ولعل ألكسيس كاريل تكلم عن حتميّة النهاية لهذا الكائن الحيّ المسمّى بالإنسان والمتمثلة بالموت الذي لم يحل ذلك الشوق العارم إلى البقاء، حيث يقول:” إن الإنسان لن يستطيع بحالٍ أن يتغلب على الموت، لأن الموت هو الثمن الذي يجب أن يدفعه الإنسان لعقله وشخصيته” ويقول: “إن الإنسان لن يصيبه التعب في البحث عن الخلود”(1) (تفسير المنار 1/148)”.وهذا من بديهيات ثقافة الإسلام التي يقررها النص القرآني،” وكل نفس ذائقة الموت”، والتي لا تحول دون البحث في جوهر الحياة وأسرار السعادة فيها المتمثلة بالصحة والحيوية والتعالي على المرض ومعانقة الحياة بفاعلية ولهفة وشوق، ولعل هذا الهدف الكبير شكل الحافز الأهم لكثير من عمالقة الكتّاب أن يستقبلوا هذه المهمة الكبرى بمهمة عالية، ونظرٍ متواصل، واطلاع واسع لكي تشكل جهودهم روافد مهمة تصب في نهر المعرفة العظيم، وتشكل خزاناً معرفياً هائلاً للبشرية كلها، ومن هؤلاء العمالقة الذين جعلوا الإنسان موضوع بحثهم الرئيسي والأساسي، صاحب كتاب” الإنسان ذلك المجهول” ألكسيس كاريل، وصاحب كتاب السباق بين الإنسان والطعام، شارل جوي وصاحب كتاب المائة السنة القادمة، هاريسون، براون وآخرون، والفيلسوف كمال جنبلاط الذي أهدى الإنسانية أكثر من كتاب في هذا المجال منها “ثورة في عالم الإنسان” و”تمنياتي لإنسان الغد” و”أدب الحياة”، و”الإنسان والحضارة” ولقد أشار جنبلاط في كتابه الممّيز “أدب الحياة” تحت عنوان “الطعام وأثره في الصحة وفي الخلق”(2) إلى كتابي “أعجوبة الحياة” و”حياة وحكمة الجسد” للدكتور سلمانوف، ولا شك بأنه الفيلسوف كمال جنبلاط الذي انخرط مع هذه الثلة من عمالقة الفكر في هذا الموضوع قد أطّر موضوع بحثه بخلاصة مهمّة للغاية وهي أنّ الإنسان في واقعه فكر وجسد، ولا ينفصل الفكر عن حالة الجسد، وهي المشترك الفكري الذي يجمعه مع تلك الكوكبة من المفكرين الذي وحدتهم الرؤية إلى هدفٍ أنساني محدّد هو صحّة الإنسان التي هي مناط سعادته. وإن اختلفت المسالك والدروب لبلوغ ذلك الهدف اختلافاً لا يتجاوز الجزئيات والفرعيات لكنها تتفق في المنحى المنهجي العام.
وقد كان لجنبلاط نوع تفرد في الإضاءة عن منهج يضفي إلى الصحة البدنية، ويعني مخزون الإنسان الأخلاقي وهو الصوم، وهو أيضاً من مسلمات تراثنا ببعده الديني حيث يقول النبي عليه الصلاة والسلام “صوموا تصحوا” وهذا الأثر يدل ببعده اللغوي على مدى الارتباط الوثيق بين فعل الأمر وجوابه، وعلماء اللغة يجعلونه ارتباطاً شرطيّاً، وهو ارتباط الشرط بجوابه، بمعنى أن الجواب يتحقق حتماً عند تحقق الشرط يعني إن تصوموا تصحوا ويقدرون في مثل هذا التركيب اللغوي أداة شرط محذوفة وهي “إن”.
ولقد أظهر جنبلاط عنايةً بالغة بالأثر الوظيفي العلاجي للصوم بمعناه المطلق لكي يربط ربطاً محكماً بين السبب والمسبب بين الصوم وبين الصحة حيث يقول: “إن الصيام يمكّن الجسم من أنه ينظف ذاته من الترسبات السامّة”.
وحرص أن يحكم الربط بين بُعْدي الإنسان فكراً وجسداً، ونقل في هذا الصدد حكمة قديمة هي “كما تفكرون تصبحون” وكان له عناية بالغة بربط الإنسان ببعديه الفكري والجسدي بالزمن واللحظة “إنّ فعل الإبداع هو دائم فينا لا يتوقف، كأنه الإنسان هوـ فكراً وجسداً ـ ابن ساعته ووليد حاضره”(3).
وكلمة الصوم تعني الإمساك والكف عن الأشياء دون إشارة إلى شيء بعينه بالبعد اللغوي وهو المقصود بالصوم العلاجي. ولذلك يسهل استيعاب مثل “الصيام على عشب القمح” ولا يتصور إلّا بإطار ديني أو طبّي أو عادي، وهو لذلك تناط به مصالح ذات وجوه متعددة. منها إثراء وإغناء شخصيّة الإنسان ببعده الإرادي أي تعزيز قدرة المشيئة عنده، وهي من أخصّ خصائصه وأدق عنوانيه، بينما ينعدم هذا الجانب في الحيوان انعداماً مطلقاً.
وقد عني الكثيرون من المفسرين بالتركيز على الجانب الطبي الوظيفي للصوم كما فعل الشيخ محمد رشيد رضا حيث يقول في تفسير المنار (4). ومن فوائده الصحيّة أنّه يفني الموارد الراسبة في البدن، ولا سيما أبدان المترفين أولي النهم وقليلي العمل، ويجفف الرطوبات الضارة، ويطهر الأمعاء من فساد الندب والسموم التي تحدثها البطنة، ويذيب الشحم أو يحول دون كثرته في الجوف وهي شديدة الخطر على القلب”.
كما عنى الكثيرون بالتركيز على الصوم ببعده الروحيّ والأدبي والأخلاقيّ، الذي يعود إلى ذلك الربط المعجز بين العمل المطلوب شرعاً، والوظيفة المناطة به دينياً وأخلاقياً في الآية الشريفة ” يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون” وهو ما أكدت عليه السنة النبوية المشرفة من قوله عليه الصلاة والسلام: “من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” وقوله صلى الله عليه وسلم “الصوم جنّة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصحب وإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم”.
وإن الربط بين الصوم والعفة الإنسانية جزء من منهجية الفيلسوف كمال جنبلاط لأنه سلّط الضوء على وظيفة الصوم في تنمية طاقات الإنسان الأخلاقية، لأنه يروض الإنسان ويعمق في ذاته موهبة الصبر، والقدرة على التحمّل، وتوجيه مسار الذات، ويسهم إلى حدّ بعيد في قهر الشهوة، وتعزيز قدرة العقل على خيارات المثلى.
لذلك وبكل سعادة نثني على الصحافي الممّيز الأستاذ حسن بحمد على مواكبة هذه الرحلة الممتدة الآفاق في التاريخ وفي البلدان والأديان والقبائل والشعوب، والبحث في الإنسان والصوم عند الفيلسوف كمال جنبلاط، وتسليط أضواء البحث على كثير من أبعاده وميزاته وكلياته وجزئياته وهو أيضاً يوجه قصده نحو خدمة الإنسان لكي يحقق نصراً مؤزراً على بعده الشهواني.
كما لا بدّ لنا من التنويه إلى ما تحلّى به المؤلف من منهجيّة كتابة الأبحاث لجهة توثيق المعلومة حسب المعايير العلميّة، كما تجدر الإشارة إلى حسن صنيعه في الإضاءة على خلفيات كثير من المسائل، لكي يمكن القارئ والمتلقي أن يضع المعلومة في سياقها التاريخي المعرفي. واستطاع أن يحقق نوعاً من الانفتاح على الحكم والأقوال والمأثورات دون تعليق، لكي لا يفرض على القراء فهمه الخاص وقد كان للبعد الديني مساحة واسعة في كثير من معالجاته، ولذلك نسجل للباحث حُسن إدارته لموضوع البحث ونتمنى له مزيداً من العطاء الفكري خدمة لإنسان هذا العصر المأزوم، والمغلوب على تراثه الإنساني والمعرفي.
(تقديم المفتي الشيخ الدكتور أحمد اللدن لكتاب “كمال جنبلاط الإنسان والصوم” للمؤلف حسن بحمد)
(1) : الإنسان ذلك المجهول ” الكسيس كارل، مكتبة المعارف، بيروت، 1993، ص209.
(2) : (“أدب الحياة” كمال جنبلاط، دار صادر، بيروت 1974، ص 92)
(3) : (أدب الحياة ص 101).
(4) : (تفسير المنار 1/148).