شبكة بيئة ابوظبي، بقلم، بروفيسور بدر الدين عبد الرحيم إبراهيم، كبير مستشاري برنامج الخليج العربي للتنمية، أجفند، 18 ابريل 2024
جرت العاده أن أحضر مؤتمرات وفعاليات علمية منذ التسعينات متحدثا وفي عدة دول حول مشكلات التمويل و نماذج التمويل للمشروعات الصغيرة والمتوسطة. كما ظللت أقرا وأكتب وأنشر في هذا المجال لسنوات عديدة. و أقرأ دراسات في دول وأقاليم مختلفة عن مشكلات المشروعات الصغيرة والمتوسطة. ولكنني دائما أجد اجابة واحدة مشتركة في كل هذه الكتابات وهي أن أهم مشكلة تواجه منتجي هذا القطاع هي التمويل.
وقبل أعوام حضرت مؤتمرا بيوغندا كمتحدث فيه حول نفس الموضوع وكانت الفعالية ية في شكل مناقشة أسئلة توجه للمتحدثين. تحدث قبلي ثلاثة واجابوا على السؤال المتعلق بمشكلات أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة بأفريقيا ولخصوها في صعوبة الدخول لمؤسسات التمويل بسبب غياب الضمانات المطلوبة وارتفاع تكلفة التمويل (أسعار الفائدة) مما يؤثر على ربحيته، وضعف أو قلة خبرة تعامل هذه الفئة مع المؤسسات المالية أو غياب التقارير المدققة عدم كفاية المعرفة المالية مما يعيق من اتخاذ قرارات مالية مستنيرة، و تقلب (عدم انتظام) التدفق النقدي ، مما يجعل من الصعب إدارة النفقات وسداد القروض وغيرها من الأسباب. في الحقيقة كل الدراسات تتحدث حول هذا الموضوع بنفس النتيجة. ويبدو أنها تأخذ نتائجها من واقع العمل الميداني الذي يوجه أسئلة للمبحوثين من أهمها ما هو متعلق بمشاكلهم في شكل أسئلة مفتوحة أو مقفولة (اختيار واحد أو أكثر من المشكلات في الاستبيان). رؤيتي منذ أكثر من ربع قرن في أن الاجابة عند صغار المنتجين لأي استبيان يتعلق بمشكلاتهم دائما تكون فيها الأسباب خارجية. وأقصد لا يتحدثون عن مشكلاتهم الداخلية مثل ضعف الخبرات التسويقية، ضعف المهارة الانتاجية، أو رداءة الانتاج أو رداءة تغليف المنتج أو غيرها من المعضلات الداخلية التي يكون سببها المنتٍج نفسه. وأغلب المنتجين يلخصون مشكلاتهم في التمويل فقط. وكأنها بالتمويل تحل جميع المشكلات الأخري.
نرجع لمؤتمر يوغندا وفي ردي على السؤال المتعلق بمشكلات القطاع بدأت القول أنني أختلف مع الاجابات التي سبقت. فتعجب الكثيرون من ذلك وربما اعتبر بعضهم أنني غير متابع مشكلات هذا القطاع الهام في كل الاقتصادات الأفريقية والنامية لأن هنالك اتفاق عام بين كل الحضور وحتى الدراسات أن أهم مشكلات هذا القطاع تكمن في التمويل. بدات حديثي بأن مشكلات التمويل (ان وجدت) فهي لم تسبق المشروع نفسه. المشروعات الصغيرة والمتوسطة في العالم بدأت أولا كمشروعات قائمة ومن ثم جاء تمويلها في مرحلة لاحقة. كما أوضحت لهم بأنني وفي حضوري للمؤتمر من المطار لاحظت أن هناك صفا من المتاجر التي تبيع الأثاثات المنزلية بها كمية من الإنتاج معروضة وغير مباعة. ليس لدي شك أنني أذا سألت أي منتج عن أهم مشكلاته سيقول لك التمويل. لكن يبدو أن هذا الأمر غير صحيح . لأنه وفي حالة وجود هذه الكمية غير المباعة من السلع لوقت طويل لابد أن تكون المشكلة في التسويق وليس التمويل. واذا تم تسويق كل أو جزء كبير من هذه البضاعة سيوفر هذا الأمر سيوله كافية لشراء المواد الخام، وسيكون المنتج في غني عن التمويل في هذا الحالة.
ترجع بي الذاكرة للبنك الاسلامي السوداني عندما عملت مستشارا للمدير العام في منتصف التسعينات في فروع الأسر المنتجة ومنها الفرع النموذجي بمعهد القرش الصناعي بأمدرمان. جاءنا منتج جيد يعمل في سوق أمدرمان في مجال الأحذية الرجالة (الجزم) على النسق الايطالي باستخدام جلد البقر المدبوغ والقاعدة المستوردة من سوريا. ودخلنا معه في مشاركة دفع البنك النسبة الأكبر وقام هو بالإنتاج. وعرضت عليه أن يقوم فرع الأسر المنتجة بالبنك بنهاية العملية بشراء كل الإنتاج دفعة واحدة بالسعر الذي حددته دراسة الجدوى فقبل. واستلمنا منه البضاعة وقمت بحملها بسيارتي الى رئاسة البنك وطلبت من موظفي الاستقبال أن يعرضوها في نهاية الدوام على الموظفين مع تسجيل أسمائهم الخصم من مرتباتهم نهاية الشهر على قسطين. وبيع كل الانتاج الذي أقدره بنحو 100 جوز أو أكثر عند خروج الموظفين من العمل. حتي أن بعضهم الموظفين قابلوني اليوم التالي يسألون عن دفعة أخرى. فذهبت للمنتج أطلب منه تكرار التجربة بتمويل مضاعف. فرفض بحجة أن ما تحصل عليه من أرباح من هذه العملية ببيع كل الإنتاج دفعة واحدة كان كفيلا بشراء كل المواد الخام اللازمة لإنتاج الضعف، وهو بالتالي لا يحتاج لأي تمويل من البنك. وهنأته على النجاح. هذه القصة تعني أيضا ان المشكلة لدي هذا المنتج كانت التسويق بالكميات الكبيرة وليس التمويل. صحيح أنه يحتاج للتمويل في المرة الأولي فقط.
هاتان القصتان توضحان جليا أن المشكلة ربما تظهر في التمويل ولكن اذا دققنا النظر في التسويق فإننا سنقوم بحل مشكلة التمويل عبر توفير فرص التسويق بوسائل التواصل الاجتماعي في حالة ضعف ميزانية التسويق وكذلك استخدام الملفات الشخصية على مواقع الويب الشهيرة مجانًا، فضلا عن المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي كمفتاح آخر للتسويق للشركات الصغيرة والمتوسطة. على كل وعلى وجه العموم رؤيتنا أن الخدمات غير التمويلية لصغار المنتجين ربما تكون أكثر أهمية من التمويل نفسه.