شبكة بيئة ابوظبي، بقلم د. هادي عيسى، باحث في مجال علوم الأرض في جامعة الإمارات العربية المتحدة، 24 مايو 2024
إذا قمت بإلقاء نظرة متأنِّية على أي أطلس أو خريطة للعالم تُظهر تضاريس الأرض، سيُصبح من الواضح جليًا أنَّ الجبال تكاد توجد في كل مكان على وجه البسيطة. فهذه القمم الصخريَّة المتراصَّة بين السحب تلقي بظلالها في كل ناحية من نواحي الأرض، فهي تتربَّع على ثلاثة أرباع دول العالم، ويمكن العثور عليها في كل قارة وفي مختلف المناخات، بل وحتى في كل محيط. تسرد الجبال الحكايات عن الأرض ببراعة منبثقة من تاريخها الضارب في عمق الزمن، وتزخر بالمؤشِّرات والأخبار عن التاريخ والفلسفة والموروث الشعبي، وإذا كانت تبوح بأسرارها الجيولوجيَّة والحيويَّة والأنثروبولوجيا-الثقافيَّة لمن يجيد قراءة لغة الصخور، فلديها أيضًا من مساحات الغموض ما يكفي لإنعاش فانتازيا الخيال وتحريك أقلام الرواة وملأ أكبر السرديات الفلسفيَّة والصوفيَّة حجماً. لا تقتصر أهمية الجبال على كونها تكوينات صخريَّة مهيبة، فقد مثَّلت المرتفعات الشامخة عبر التاريخ، بالنسبة للبشر في مختلف العصور، رمزاً للعديد من الأفكار والاحتياجات المتنوعة. يقول المؤرِّخ البريطاني سيمون شاما “إنَّ المناظر الطبيعية هي نتاج العقل البشري”، فالمشهد الذي نراه يتكوَّن من طبقات الذاكرة الجمعية بقدر ما يتكوَّن من طبقات الصخور.
توزيع المناطق الجبلية (اللون البني) والمحميات الجبلية (اللون الأخضر) حول العالم. المصدر: Rodriguez & Bertzky.
كانت الجبال بالنسبة لقدماء الإغريق (اليونانيُّون التاريخيُّون) بمسابة مساكن لآلهة الأولمب الإثني عشر، وهم كبار الآلهة في الأساطير الإغريقية، حيث كان مسكنهم في جنة محصنَّة على جبل أوليمبوس (Mount Olympus)، وكان زيوس، ملك الآلهة، قد ولد وترعرع في الكهوف الجبلية، إضافةً الى آلهات “الميوز” اللاتي ألهمن الموسيقى والفن والأدب، فقد سكنًّ الجبال أيضاً. وكانت الجبال كذلك موطناً للحوريات والقناطير (كائنات أسطورية تجمع بين سمات البشر والخيول) وغيرها من الكائنات التي سكنت المخيِّلة البشرية في حينها.
كما أثارت وعورة الجبال وعزلتها إعجاب الإغريق القدماء واهتيابهم في آن معاً، وفي الملحمة الشعرية “الإلياذة”، التي تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد، والتي تعدُّ واحدة من أقدم الأعمال الأدبية الغربية الباقية، يصف الشاعر الإغريقي هوميروس حالة الطقس الجبلي، قائلاً: “في الربيع، تتدفَّق سيول مياه الثلوج الهائجة المنحدرة على جوانب الجبال، تقذف بمياهها العاتية نحو ملتقى عند المخرج من الوديان، وقد امتلأت تلك الوديان بالروافد. وعلى بُعدٍ بعيدٍ على التلال، يسمع راعٍ الجلبة، كما تتنازع رياح الجنوب والجنوب الشرقي في غابات الجبال، فتجعل الغابة بأكملها تهتز، وتتأرجح أغصانها المدبَّبة تجاه بعضها البعض في مهب الريح الصاخبة، وتتصدَّع الأغصان وتنكسر”.
(بتصرُّف عن كتاب “الإلياذة”، سليمان البستاني، طبعة صادرة عن مؤسسة “هنداوي” للنشر لسنة 2017)
“كالسيل من شمِّ الجبال اندفقا…تمطره أنواء زفسٍ غدقا، يفيض للسهل زعابًا يندفع…والأرز والملول عنفًا يقتلع”
(عن ملحمة “الإلياذة” – “النشيد الحادي عشر: المعركة الثالثة”، هوميروس. ترجمة سليمان البستاني)
غلاف كتاب “الإلياذة” – طبعة صادرة عن مؤسسة “هنداوي” للنشر لسنة 2017. ترجمها للعربية سليمان البستاني.
في عالم الأساطير والملاحم الإغريقية، يتربَّع جبل أوليمبوس، في ثيساليا، على عرش الجبال الأجلِّ. ومن المفارقات أن كلمة “أوليمبوس” سابقة على الحضارة اليونانية نفسها، ويُعتقد أنها كانت تُستخدم قديمًا للإشارة إلى أيِّ قمة أو جبل بشكل عام، وهو ما يُفسِّر وجود عدَّة جبال يونانية تحمل نفس الاسم، ارتبط العديد منها، تمامًا مثل الأوليمبوس في ثيساليا، بعبادة الطقس، حيث أنَّ “زيوس العظيم”، إله العواصف والطقس، كان يحكم الآلهة والبشر على حدٍ سواء من علوِّ تلك القمم الجبليَّة.
جبل أوليمبوس، اليونان. المصدر: Matador Network
هنالك تشابه تضاريسي جزئي بين إيطاليا واليونان، حيث تقع كلا الدولتين في شبه الجزيرة الإيطاليَّة، وتنتشر في كلٍّ منهما سلاسل جبليَّة بركانيَّة، وتمتدُّ سلسلة جبال الأبنين (Appeninus Mons) على طول شبه الجزيرة الإيطالية بأكملها، بينما تُشكِّل سلسلة جبال الألب الأوروبيَّة حدود إيطاليا الشماليَّة، حيث تَطَّورت كلٌ من جبال الألب وجبال الأبنين على طول إندساسات جيولوجيَّة متقابلة (Opposite Subductions). وعلى النقيض تمامًا من تقديس الإغريق للجبال، لم يكن الرومان يشاركونهم هذا الشعور، فبالنسبة لهم، كانت الجبال تُعتبر عقباتٍ في المقام الأول أمام التجارة والطموحات التوسٌّعية للإمبراطوريَّة الرومانيَّة، ورغم أنهم بحلول عصر يوليوس قيصر، كانوا قد اعتادوا اجتياز جبال الألب، إلا أنهم، على ما يبدو، كانوا يخشون هذه التجربة بصفة عامة، فقد قدَّموا القرابين من العملات المعدنية والألواح البرونزية الصغيرة، المنقوش عليها أسماء الإله والمسافر، استرضاءً للآلهة الكليّة التي تُسيطر على ممرات جبال الألب، و تخليداً لسلامة عبورهم. تُجسِّد أحداث العبور الشهير لجبال الألب الذي قام به حنَّبعل، القائد القرطاجي، في عام 281 قبل الميلاد، نظرة الرومان إلى الجبال بشكل جلي.
هنا يكتسي كل شيء بالصقيع الأبدي، أبيض بالثَّلج، وأسير قبضة الجليد الأزلي. تنحدر سفوح الجبال شديدة الانحدار بفعل قسوة البرد، بحيثُ أنَّها، رغم ارتفاعها الشاهق نحو السماء، لا يستطيع دفء أشعة الشمس أن يُلين قِشرها الجليدي المتصلِّب. لا ربيع يزور هذه المنطقة، ولا يلوح بها سِحر الصيف. الشتاء المشوَّه يسكن وحيداً على هذه القمم المرعبة، ويحرسها كمأواه الأبدي، من كل جانب. هنا أيضاً، في موطن جبال الألب هذه، ثبَّتت الرياح والعواصف سيطرتها الغاضبة. يصاب الرجال بالدُّوار وسط الصخور الشاهقة، وتختفي الجبال في غياهب السحب.
)Mountains and Man, Lary W. Price, 1981 (ترجمة بتصرُّف عن كتاب
سلسلة جبال الألب. المصدر: Paragliding Interlaken/National Geographic
سلسلة جبال الأبنين. المصدر: CiaoFlorence
وكما هو معروف أنَّ المجتمعات الأوروبية، في عصور الظلمات (أوائل العصور الوسطى/القرن الخامس – القرن العاشر م.)، وعلى غرار أسلافهم الرومان، لم يُوَّلوا اهتماماً كبيراً بالجوانب بالعلوم والفنون والفلسفة وغيرها من الجوانب البعيدة عن العبادات اللاهوتية، حيث أنَّ النَّص الديني كان يُشَّكل مركز الحضارة والمعارف في تلك الحقبة من الزمن. ورغم أنَّ الحضارة الإسلامية في الشرق لم تكن حينها مختلفة عن نظيرتها الأوروبية من ناحية مركزيَّة النص الديني، إلا أنَّ المعارف ازدهرت فيها من خلال محاورتها مع النص الديني المركزي، لتزدهر جوانب معرفية مختلفة مثل علم الكلام وعلوم الطبيعة والسرديَّات الصوفيَّة الكبرى. ودأب علماء الحضارة الإسلامية في تلك المرحلة، وخاصةً إبان عصر الحضارة العباسية في بغداد والحضارة الأموية في الأندلس، وهي المرحلة المعروفة ب”العصر الذهبي للإسلام”، على جمع وترجمة تراث الأمم السابقة، كقدماء الهنود والفرس والإغريق، فعلى سبيل المثال، تم تشييد “بيت الحكمة”، وهي دار علمية وثقافية احتوت على خزانة كتب ضَمَّت أكثر من ثلاثمئة ألف كتاب ومركز ترجمة وتأليف وتدريس، في عهد هارون الرشيد، وازدهرت في عهد المأمون الذي قام بتشييد المرصد الفلكي، الذي يُعدُّ بدوره من أهم الأقسام العلمية التي ضَمَّتها الدار.
تركت لنا هذه الحقبة من الحضارة الإسلامية ما يزيد عن أربعين مرجعًا مُعتبراً في علم الجيولوجيا، ومنهم “الجماهر في معرفة الجواهر” لأبي ريحان البيروني و”منافع الأحجار” لعطارد بن محمد الحاسب. وتَكمُن أهمية هذه المرحلة، بالنسبة لتطوُّر معرفة الإنسان بالجبل، في أنَّها شهدت البذور الأولى لنظرية “الوتيرة الواحدة”، والمعروفة أيضاً ب”النظرية التناسقية” (Uniformitarianism)، وهي النظرية التي بنى عليها وبلورها في القرن الثامن عشر مؤسس علم الجيولوجيا الحديث جيمس هاتون. وكان قد قام بإرساء الدعائم الأولى لهذه النظرية أحد العقول الفذة في الحضارة الإسلامية، وهو العالم الموسوعي أبو الريحان البيروني الخوارزمي، الذي كان منكباً على علوم الفلك والأرض والرياضيات. وتفترض نظرية الوتيرة الواحدة (وهي مبدأ أساسي في علم الجيولوجيا الحديث) أنَّ القوانين والقوى والحركة الديناميكية لمظاهر الطبيعة التي تسود اليوم، ومن شأنها تغيير شكل كوكب الأرض، هي نفسها التي سادت في الماضي، ممَّا يعني أن شكل الأرض يَتغيَّر بشكل منتظم وثابت الوتيرة على المدى الطويل نسبياً. وتتضمن هذه العمليات ظواهر كحركة الصفائح التكتونية (Plate Tectonics) والتجوية (Weathering) والترسيب (Erosion)، فنجد البيروني في كتابه “تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن”، يشير الى بعض أجزاء هذه العمليات.
“ولا نعلم من أحوالها ( الأرض ) إلا ما نشاهد من الآثار التي تحتاج في حصولها على مدد طويلة، كالجبال الشامخة المُتركِّبة من الرضراض، المؤتلفة بالطين والرمل المتحجرين، فإنَّ من تأمل الأمر من وجهة علم أن الرضراض والحصى هي حجارة تنكسر من الجبال بالانصداع أو الانهدام، ثم يَكثُر عليها جري الماء وهبوب الرياح ويدوم احتكاكها فتبلى (تَتفتَّت)، وأن الفتات التي تتميز عنها هي الرمال ثم التراب، وأن ذلك الرضراض لما اجتمع في مسايل الأودية حتى انسكبت بها وتخللها الرمال والتراب، فانعجت بها واندفنت فيها وعلتها السيول فصارت في القرار والعمق، بعد أن كانت على وجه الأرض، وتَحجَّرت بالبرد لِأنَّ تحجُّر أكثر الجبال في الأعماق بالبرد.” (عن كتاب “تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن”، أبو الريحان البيروني، طبعة صادرة عن معهد المخطوطات العربية لسنة 2001)
غلاف كتاب “تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن”، أبو الريحان البيروني، طبعة صادرة عن معهد المخطوطات العربية لسنة 2001
بالعودة الى القارَّة الأوروبيَّة، ندر أن نجد إشارات إيجابية الى الجبال تركتها تلك الحقبة التي اتسَّمت بالهيمنة الكنسية الصارمة على كافَّة نواحي الحياة، واستمر ذلك حتى قدوم عصر النهضة في إيطاليا، حاملاُ معه العقول التي صاغت مبادئ العلم الحديث، ومن روَّاد هذه الحقبة الأوروبية الذهبية إسحق نيوتن وليوناردو دافنشي وجيمس هاتون، الذي قام بالبناء على كتابات أبو الريحان البيروني والخروج ب”نظرية الوتيرة الواحدة”، كما ذكرنا سابقاً. كان ليوناردو دافنشي قد اعتاد على التجوُّل في الوديان المُمتدَّة بين سلسلة جبال الألب، حيث كان يلاحظ بعناية التماثل المثير بين الطبقات الصخرية على جانبي النهر، من أعلى قمم الجبال إلى أسفل الوادي، ليخلص الى استنتاج مفاده أن النهر قد افترق بين الجانبين منذ زمنٍ بعيد. عندما قامت الباحثة الأمريكية ومُؤرِّخة الفن في عصر النهضة آن بيتزوروسو بمطابقة العناصر الجيولوجية في لوحة “الموناليزا” الشهيرة لدافينشي، توصلَّت الى أنَّ “الجسر الظاهر في الخلفية، والذي يعود إلى القرن الرابع عشر، يشير إلى أن اللوحة رُسمت في مدينة ليكو الإيطالية، على ضفاف بحيرة كومو في منطقة لومباردي.” وأضافت بيتزوروسو في حديثها مع هيئة الإذاعة البريطانية (BBC News) في تاريخ 15 مايو، 2024، أنَّ ” سلسلة الجبال الظاهرة في خلفية اللوحة هي جبال الألب، والتي من المعروف أن ليوناردو قد زارها.” وأنَّ “أن الجسر الظاهر في الخلفية هو جسر أزوني فيسكونتي، الذي بُني في القرن الرابع عشر.”
تضاريس ضفاف بحيرة كومو وسلسلة جبال الألب في خلفية لوحة “الموناليزا” طبقاً لفرضية آن بيتزوروسو. المصدر: Ann Pizzorusso/The Guardian
إذا ما قمنا بوضع الخريطة الفكرية العالمية على طاولة النقاش، فهناك اختلاف جذري بين الحضارات فيما تسوغه من أفكار حول الجبال، ويَتضمَّن ذلك أيضًا الذاكرة الجماعية للمجتمعات وما تختزنه من أفكار مُورَّثة، وهذا الاختلاف لا يتجلَّى فقط بين حضارة وأخرى، ولكن أيضًا بين مرحلة فكرية وأخرى في الحضارة الواحدة. ومع ذلك، فإنَّ الأُطُر العامَّة ثابتة إلى حد ما في الحضارة الواحدة، وهنا يصبح من الأسهل تحديد مواضع الاختلاف بين النظرة الغربية والشرقية الى الجبال. بدأ تقدير الجبال في الشرق في وقت أسبق على الغرب، ومردُّ ذلك إلى أنَّ الشرق هو مهد الحضارات الإنسانية على الأرض. فعلى سبيل المثال، وفقًا لأسطورة نشأة الشعب الكوري، فهم ينحدرون من اتحاد إله السماء مع امرأة دببة على بركان بايكتو المُقدَّس، وهو أعلى جبل في شبه الجزيرة الكورية.
وقد مُنحت الجبال في الصين أيضاً قداسةً خاصَّة، وذلك قبل ميلاد المسيح بألفي عامٍ على أقَّل تقدير. لقد كان تأثير الجبال على الفكر الصيني التاريخي مهولاً، فبحسب بعض النظريات، كانت السلاسل الجبلية العظيمة في تلك البلاد تُعتبر جسداً لكائنٍ كوني، تنين عظيم. صخورها عظامه، ومياهها دماؤه، ونباتاتها شعره، وغيومها وضبابها أنفاسه، وعلى خلاف نظرة الغرب، لا يُنظر إلى التنانين في العديد من الثقافات الآسيوية على أنها كيانات شريرة، فالتنانين مخلوقات مُحسِنة تَتحكَّم بالعناصر وتحرس ينابيع الحكمة.
حتَّى القرن القرن الثالث الميلادي، اعتبر الصينيون الجبال أماكن محفوفة بالمخاطر، تنبعث منها قوى خارقة للطبيعة، ولا يمكن دخولها بأمان إلَّا من قِبَل أولئك الذين لديهم تدريب روحي مناسب. لكنَّ هذا تَغيَّر حوالي القرن الرابع الميلادي، حيث أدَّى انتقال العاصمة الصينية إلى جبال الجنوب الأكثر جاذبية، بالإضافة إلى السخط المتزايد على البيروقراطية الإمبراطورية، إلى قيام الناس برحلات إلى الجبال لأغراض الترفيه بشكل متزايد، وأخذت الفنون كالرسم والشعر بالازدهار؛ كانوا يبحثون عن الإلهام في المناظر الجبلية الجميلة، ولم يحدث تَحوُّل مماثل في الغرب إلا بعد أكثر من ألف عام.
الحجاج يصعدون جبل تاي شان المُقدَّس. المصدر: Sacred Sites
وفي مقابل ذلك المسار التَطَّوُري الشرقي، كان الفكر الغربي على موعد مع منعطف في نظرته إلى الجبال وما يربطها بالطبيعة والإنسان، وكان ذلك إبان ظهور الحركة الرومانسية الفلسفيَّة-الفنيَّة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أي بالتزامن مع عصر التنوير الأوروبي. وكما أصبح واضحاً، فإنَّ جاذبية الغرب نحو المناظر الطبيعية أمر حديث نسبياً، فعلى سبيل المثال، قبل مئتين وخمسين عامًا، لم يكن الأوروبيّون والأمريكيون يبحثون عن تجارب الحياة البريَّة، وهو أمر رائج جدًا في عصرنا الحالي. في الواقع، حتى أواخر القرن الثامن عشر، كان الاستخدام الأكثر شيوعًا لكلمة “برية” في اللغة الإنجليزية يشير إلى المناظر الطبيعية التي تحمل عمومًا صفات تختلف تمامًا عن تلك المستخدمة اليوم، حيث أنَّ كلمة “برية” كانت تشير إلى معانٍ مثل المهيب أو المهجور أو المتوحش أو الأرض القاحلة الموحشة، فلم يكن المعنى إيجابيًا على الإطلاق، والشعور الذي كان يُحتمل أن يشعر به المرء في المناظر الطبيعية، مثل الجبال، كان الحيرة أو الرعب. وفي غضون قرون عدَّة، تحوَّلت الجبال في الفكر الغربي من مواقع مُتوحِّشة إلى مواقع بهاء بري. وواحدة من أهم المنظومات الفكرية التي ساهمت في هذا التغير الجذري هي الحركة الرومانسية.
تمَّت صياغة مفهوم “الرومانسية” الفلسفي للمرة الأولى من قِبَل إدموند بيرك في منتصف القرن الثامن عشر، ويشير المفهوم إلى التشويق وخطر مواجهة الطبيعة غير المُدَّجنة. قد يواجه المرء الشياطين ويخاطر بفقدان روحه في خوض مغامرة التجوال في هذه المناظر الطبيعية، ولكن قد يصبع أقرب تأمُّلياٌ إلى الله أيضًا، وقد يتذكَّر فناءه، وبذلك ساهمت هذه الحركة في التعبير عن الجبال كمناظر طبيعية من خلال الأدب والشعر وسائر أشكال الفنون. كان معتنقي هذا الفكر، بمعتقدهم، يرون الله على قمة الجبل، وفي الهاوية، وفي الشلال، وفي سحب الرعد والضباب.
عمل هذا الحماس الرومانسي على تحفيز انتشار فنون ورياضات الجبال ودخولها في نسيج الشعر والأدب، وعلى سبيل المثال، في عام 1802 م، سافر شاب بريطاني يدعى جوزيف مالورد وليام تيرنر إلى سويسرا، ولم يكن آنذاك معروفاً، ليتحوَّل فيما بعد إلى أحد أشهر مناصري الحركة الرومانسية والفن التشكيلي، وذلك بعد أن قام برسم جبال الألب في لوحات باتت تُعدُّ رمزاً للحركة الرومانسية، وهي تُعرض اليوم في متحف الفن، في معرض “تيرنر- البحر وجبال الألب”، في لوسرن، سويسرا.
سلسلة جبال الألب من غرونوبل إلى شامبيري في فرنسا. من أعمال الفنان التشكيلي جوزيف مالورد وليام تيرنر. المصدر: Art Gallery
لم يسبق في تاريخ البشريَّة أن تكون الجبال محلَّ تقدير وحُبِّ استطلاع مثلما هي عليه اليوم؛ أدَّى تدفق الناس الناتج إلى الجبال إلى ضغوط غير مسبوقة على البيئة والمجتمعات الجبلية، حيث تحتضن الجبال اليوم مجموعة من الأنشطة التي تتضمن الاستجمام والترفيه والرياضة، بِدءًا من المشي لمسافات طويلة والتَزلُّج على الجليد إلى ركوب الدرَّاجات الجبلية وتَسلُّق الصخور، ويمتدُّ الالتزام بهذا المجال من المبتدئين إلى المُتمرِّسين. وبالنسبة للبعض، لا تعدُّ هذه الأنشطة رياضاتٍ فحسب، وإنما شغف أو تعبير عن فكر أو نظرة نحو الطبيعة والحياة.
المصادر:
1. Distribution of mountain areas and mountain protected areas worldwide. | Download Scientific Diagram (researchgate.net)
2. الإلياذة | هوميروس | مؤسسة هنداوي (hindawi.org)
3. From Athens to the Home of the Gods: a Guide to Hiking Mount Olympus (matadornetwork.com)
4. Mountains & Man – Google Books
5. Why choose the Alps for your next summer adventure (nationalgeographic.com)
6. Ciaoflorence Tours & Travel
7. BA OPAC (bibalex.org)
8. Mystery of where Mona Lisa was painted has been solved, geologist claims | Mona Lisa | The Guardian
9. الجبال المقدسة في الصين (sacredsites.com)
10. Chain of Alps from Grenoble to Chamberi, 1812, Liber Studiorum by Joseph Mallord William Turner :: | Art Gallery of NSW