شبكة بيئة ابوظبي، د. موفق الشيخ علي*، استشاري إدارة موارد طبيعية، دمشق، سورية، 25 مايو 2024
*مؤسس مبادرة (Flora Syria On Line) www.fsol.net.sy
لم ترتبط شجرة من الأشجار باسم بلد كما ارتبط الأرز بلبنان الأخضر حيث لم تقتصر هذه الرابطة على وجود تلك الشجرة في وسط العلم اللبناني لتزيينه وترمز إليه بل كان علماء التصنيف النباتي السباقين إلى ذلك عندما أطلق الباحث (A. Rich) على هذا النوع من الأرز اسم الأرز اللبناني (Cedrus libani) في العام 1823.
وصف الأرز في العديد من كتب التراث والأساطير حتى ليعد القاسم المشترك بين مجموعة منها، إضافة للكتب الدينية (ورد ذكر الأرز في الإنجيل 75 مرة)، وتنبع أهمية الأرز من خلال الدور الذي لعبه في مختلف الحضارات حيث استخدم الفراعنة صمغ الأرز القادم من لبنان في مدافنهم كما اعتادوا حرق أغصانه في احتفالياتهم.
كما أن المواصفات الخاصة لخشب الأرز من حيث مقاومته لعوامل الزمن (الحرارة والرطوبة) ولنخر الحشرات كما لجماليته دور في تحفيز العديد من الشعوب والحضارات على استخدام ذلك الخشب إن لبناء السفن والقوارب (الفراعنة) أو لبناء القصور والمعابد (الآشوريون والبابليون).
وحضارات المدن القديمة على الساحل اللبناني مثل صيدون وبيبلوس وصور استعملت خشب الأرز في بناء منازلها وقوارب الصيد. وقد تغزل بالأرز شعراء وكتاب فأطلقوا عليه سيلاً من الألقاب منها الجميل وصاحب العظمة والمقدس (الشجرة التي زرعها الرب في لبنان: الأرز) والنبيل.
تم تسجيل وجود أشجار ضخمة من الأرز في جبال لبنان حيث توجد شجرة بقطر 335 سم كما تم تسجيل شجرة في إيطاليا بقطر 360 سم وارتفاع 28 م، وإلى الشمال من بيروت (120 كم) هناك موقع يعرف بأرز الرب، كما أن الموقع الأكثر شهرة لمشاهدة الأرز هو في منطقة بشري في لبنان حيث يتواجد قرابة 375 شجرة بعضها عُمّر أكثر من 1200 – 2000 عام نمت على سفوح مرتفعة (1950) م في ظلال أعلى قمة في الشرق الأوسط (قرنة السودا 3088 م).
الوصف النباتي:
شجرة يصل ارتفاعها لما بين 20 – 40 م بقطر قد يتجاوز 3 م، تاج الشجرة الفتية يكون هرمي الشكل يصبح أكثر استدارة عند النضج، الفوارع الصغيرة شبه عارية من الأوبار، والوريقات إبرية تتوضع على الفوارع الصغيرة، يصل طول الأوراق الإبرية إلى 3.5 سم. تزهر الشجرة فيما بين حزيران (يونيو) إلى أيلول (سبتمبر) وتتشكل المخاريط الثمرية خلال الفترة من شهر آب (أغسطس) إلى تشرين أول (أكتوبر) وتنضج البذور التي تبقى مغطاة بحراشف المخروط في الربيع التالي.
التوزع الجغرافي
تعود أصول النوع إلى أسيا الصغرى، وينحصر وجوده الآن في الجبال الساحلية في سورية وجبال لبنان ولكنه يبقى نادراً حيث تشير الدراسات إلى أن مجمل المساحة التي يغطيها الأرز لا تتجاوز 2000 – 3000 هكتار، النوع يتواجد في جبال طوروس وكيليكيا على ارتفاعات تتراوح ما بين 1300 – 2100 م، وهو نبات محب للكلس، مع العلم أن الأرز من الأنواع المتواضعة في متطلباتها البيئية والعاملين المحددين لنموه هما الماء وخصوية التربة. معدل درجات الحرارة في مناطق نمو النوع في لبنان تتراوح ما بين 4.5 درجات تحت الصفر إلى 5.4 مْ لأبرد شهر (كانون الثاني، يناير) و21.8 إلى 43.3 مْ لأحر شهر (آب، أغسطس).
وأسباب محدودية الانتشار الطبيعي للنوع هو تشكيله لعدد محدود من المخاريط التمرية (Cones) والتي عادة ما تكون قاسية كما أن البذور ذات معدلات إنبات (Germination) منخفضة والبادرات الفتية (Seedling) تنمو بشكل بطيء.
الأرز في سورية
ينمو الأرز في سورية في جبال اللاذقية على الصخور الكلسية القاسية التي يكسوها الغضار وهو حساس لنفاذية التربة فالتجدد الطبيعي يتم بشكل جيد على الترب الهشة النفوذة والتي تسمح بإمداد البادرات الفتية بالماء.
لا يتواجد الأرز في سورية بشكل غابة صافية، ولكنه يختلط مع البلوط والسنديان والبطم والغار وأنواع أخرى من الأشجار الأقل ارتفاعاً منه ومعظمها من ساقطات الأوراق، أما الأرز فيتواجد بشكل بقع متناثرة لا تتجاوز مساحتها 1000 هكتار يتقاسمها تجمعان رئيسيان: الأول يقع على السفح الشرقي للجزء الشمالي من سلسلة الجبال الساحلية المطل على سهل الغاب وعلى ارتفاع 1000 إلى 1560 م، والثاني في منطقة جوبة برغال بين 1000 و 1175 م. إن الجزء الأكبر من هذه البقع يعاني تدهوراً بالغاً علماً بأن أفراد كبيرة لمّا تزل على الشكل الجميل لها.
الأرز في لبنان
كما ذكرنا في المقدمة لم ينل أي نوع نباتي شهرة بارتباطه ببلد المنشأ كما نال الأرز اللبناني وهو تعدى ذلك إلى ارتباطه بالذاكرة الوطنية للبنان، وإذا كان 5.7% من لبنان مغطى بالغابات وهذا يعادل 60000 هكتار فإنه من المستغرب أن أقل من 2000 هكتار فقط هي غابات أو بقايا غابات الأرز.
تعرضت غابات الأرز تاريخياً لأشكال مختلفة من الاستثمارات وكانت تشكل أحد موارد الدخل الهامة للممالك التي مرت على لبنان ولعل أقربها إلى الذاكرة والتي لمّا يزل أثرها ماثلاً للعين الاستثمار الجائر الذي تعرضت له غابات الأرز خلال الحرب العالمية الأولى على أيدي العثمانيين عندما حوّلوا خشب الأرز المقدس إلى دعامات لقضبان السكك الحديدية.
كل تلك الاستثمارات حوّلت وجود الأرز في لبنان إلى بقع منفصلة يقدر عددها حاليا بحوالي 12 موقعا تتوزع ما بين: جبل القاموعة، وادي جهنم في منطقة عكار، إهدن، بشري، تنورين-الحدث، جبيل، جبل الباروك (الشوف) عين زحلتا ومعاصر الشوف. بعض هذه المواقع تتمتع بحماية جيدة نسبياً وهناك دراسة مفصلة لبعض تلك المواقع مع مخططات غابوية بمقياس 1\50000.
الأرز عند جلجامش
عند قراءة ملحمة جلجامش يلفت النظر الذكر الواسع والمتكرر للأرز وغاباته في هذه الملحمة ومع أن أحداث الملحمة تدور في موقع أوروك وهي المدينة التي تقع في مكان ما من بلاد سومر في فترة تاريخية تمتد ما بين عامي 2700 – 2500 قبل الميلاد بعد أن وصلت أطراف هذه الحضارة لتلامس خليج إسكندرونة وكيليكيا ومرسين على شواطئ أسيا الصغرى في الشمال والشمال الشرقي حيث توقفت هناك, كما اجتازت حماة في الجنوب أما من الشرق والجنوب الشرقي فقد لامست أذربيجان وخوزستان, فإن نصوص الملحمة تصف وبشكل دقيق رحلة بطل الملحمة جلجامش إلى غابات الأرز حيث ينطلق جلجامش إلى مدينته طالباً خمسين متطوعاً لمرافقته في حملته على غابة الأرز مسكن الوحش الرهيب “حواوا” ويشترط بمرافقيه أن يكونوا بلا بيوت يملكونها أو زوجات وأولاد ….. فيكون له ما أراد، ثم يمضي إلى الحدادين ليصنعوا له ولمرافقيه أجود أنواع الأسلحة وعندما تكتمل عدته يشرع في مغامرته، يقطع جلجامش مع جماعته ستة جبال هائلة وعند عبور الجبل السابع يجلس الركب ليستريح، يتابع الركب سيره حتى الوصول إلى غابة الأرز هناك يشرع الرجال بقطع الأشجار حول عرين “حواوا” وتورد الملحمة بعض الوصف لغابة الأرز:
• تتسع الغابة عشرة ألاف ساعة مضاعفة
• فمن يستطيع المضي في أعماقها
• وقفا ساكنين ينظران نحو الغابة
• شاهدا ذرى شجرة الأرز
• شاهدا جبال الأرز مرتع الآلهة ومنصة عرش أرنيني
• حيث تسلقت شجيرات الأرز فوق المرتفعات
• وارفة هنية الظلال
• أدغالها مغطاة ومخفية
• تناول جلجامش بيده فأساً
• وأخذ يقطع شجر الأرز
• سمع حواوا الصوت
• فثار غضبه: من الذي أتى
• يعكر صفو أشجاري التي نمت في جبالي
• من الذي قطع شجر الأرز
ومنذ ذلك الزمن وما زلنا نصرخ من الذي قطع ويقطع شجر الأرز؟!.