شبكة بيئة ابوظبي، إعداد: د. موفق الشيخ علي، استشاري إدارة موارد طبيعية، فلورة سورية أونلاين، 06 آب /أغسطس 2024 (www.fsol.net.sy)
مقدمة
على الرغم من أن تعبير أو مصطلح التنوع الحيوي أو البيولوجي حديث الاستخدام إلا أن مدلولاتها الحقيقية تعود إلى أحقاب زمنية بعيدة يمكن أن نعيدها في عالمنا العربي إلى آلاف السنين مع ممارسات الرعي والتنقل للبحث عن المرعى الأفضل من حيث نوع النباتات السائدة في المرعى أو قيمتها الغذائية.
ويمكن أن نجد مدلولاته في معلقات الشعر العربية أو ما قالته العرب من حكمة وأمثال وما توجه الله عز وجل في سور وآيات القرآن الكريم حيث تم ذكر العديد جدا من الأنواع النباتية والحيوانية وفوائدها وتسخيرها لخدمة الإنسان.
وقد جاءت العلوم الحديثة ومنذ منتصف القرن السادس العشر من علوم الوراثة والتصنيف لتضع الأطر العلمية لمفاهيم نشوء وتطور الأنواع وتمايزها عن بعضها تبعاً لعوامل جغرافية وبيئية ووراثية.
ولتقريب المثل فقط ما علينا سوى المقارنة بين ما تحويه جزيرة سقطرى اليمنية من تنوع بيولوجي بالمقارنة مع ما يحويه البر اليمني لإستنتاج تأثير عوامل الإنعزال الجغرافي في نشوء وتطور الأنواع.
وعلى اعتبار أن الجزيرة العربية تمثل وحدة جغرافية جيولوجية يمكن إعتبارها نموذجا لعوامل الإنعزال الجغرافي البيئي الخلاق لعوامل التمايز النوعي ونشوء الأنواع.
مفهوم التوطن:
يقال عن زمرة نباتية أنها متوطنة عندما يقتصر توزعها الجغرافي على منطقة محددة، وغالبا ما تعتبر المنطقة الجغرافية بلدا أو وحدة جغرافية متناسقة مثل سلسلة جبلية أو جزيرة . وينتج التوطن عن الانعزال الجغرافي الحالي أو الذي حدث في العصور الجيولوجية الماضية، ويكثر في الجزر والجبال والصحارى.
غالباً ما يوجد التوطن في الجبال المحاطة بسهول ذات شروط بيئية مختلفة عنها (درجة الحرارة والهطول والتعرض لأشعة الشمس)، وهي بالتالي ذات نباتات طبيعية مختلفة عن نباتات تلك السهول، وتشبه في ذلك الجزر المحاطة بالماء. فالنباتات الألبية مثلا لا تتواجد إلا في قمم الجبال التي يزيد ارتفاعها على 2000 متر، وهذه النباتات لا تستطيع العيش في السهول، وبالتالي فهي معزولة عن أمثالها من نباتات المنطقة. وبشكل عام، فإن التوطن في الجبال يمكن أن يزداد مع ازدياد العمر الجيولوجي لهذه الجبال عن طريق الانعزال الجغرافي.
يعتبر التوطن هاما جدا من الناحية الوراثية من جهة، ومن حيث علاقته بتاريخ النبت الطبيعي من جهة أخرى، فهو يساعد على فهم التطور والتوزع الجغرافي النباتي وطريقة نشوء الأنواع. كما تساعد دراسة التوطن أيضا على فهم طريقة نشوء النبت الطبيعي في المنطقة ومراكز التنويع التي تحويها، فهو معيار لمميزات المنطقة من الناحية النباتية. فالمناطق الحاوية على زمر كبرى متوطنة تعتبر بحق مراكز نشوء للنبت الطبيعي أو لأجزاء منه.
لا تتساوى المناطق الجغرافية النباتية في مدلولها الوراثي للنبت الطبيعي، فبعض المناطق ذات بصمات واضحة في نشوء بعض الزمر النباتية، حيث أن بعض المناطق ما تزال تتفاعل وتعطي زمرا نباتية جديدة، وهناك مناطق أخرى تبدو وكأن نبتها الطبيعي من منشأ دخيل عليها. مثال ذلك، منطقة المتوسط التي تبدي في منطقة الشرق الأوسط اختلافا كبيرا عن المنطقة الايرانية التورانية في هـذا المجال. فالمنطقة الايرانية التورانية تضم 70-80% من الأنواع المتوطنة، وكانت و ما زالت مركز نشوء وتطور لزمر نباتية واسعة قديماً وحديثاً، أما حوض المتوسط، فبالرغم من أنه يضم 50% من الأنواع المتوطنة، فهو منطقة محدودة فعالية النشوء، وخاصة على مستوى ما فوق النوع، بحيث يمكن اعتبار منطقة المتوسط أقل ملامح أو أن مدلولها الوراثي للنبت الطبيعي أقل فردية، أي أن نسبة كبيرة من زمرها تبدو وكأنها مشتقة من أصل دخيل، كذلك فإن زمرها المتوطنة لا تبدي أي ترابط سلالي.
إن دراسة التوطن التجمعي أو السلالي تبرز مراكز النبت الطبيعي كما أنها توضح الاتجاهات التطورية له، أي أن طبيعة التوطن أهم بكثير من كمية التوطن، كما أن التوطن المبعثر، أي وجود نوع واحد فقط متوطن في عدة أجناس أو فصائل دون وجود أي رابط بين هذه الأنواع أو وجود روابط ضعيفة، يدل على نشوء نباتي محدود أو هزيل. أما التوطن التجمعي، أي وجود عدة أنواع متقاربة في أجناس أو فصائل، فإنه دليل على نشوء النبت الطبيعي وتحديد رقعة جغرافية لنشوء الأنواع.
منشأ التوطن:
يتضح من دراسة ظاهرة التوطن أنها مرتبطة بالانعزال الجغرافي، إلا أن هذا الارتباط ما هو إلا ارتباط ظاهري، إذ من الضروري أن نوضح كيف يؤدي الانعزال إلى تشكل الأنواع المتوطنة حيث يتم ذلك بطريقتين:
1- التبدل المفاجئ في شروط الوسط، مما يؤدي إلى تجزؤ منطقة التوزع الجغرافي ووضع الجماعة النباتية في مجموعات ذات شروط متباينة الأمر الذي يؤدي إلى تطور متباين، وبالتالي إلى حاجات تكيف متباينة.
2- أسباب وراثية خاصة بوراثة الجماعات الصغيرة، حيث يكون عدد الأفراد محدودا أو حيث يكون الموقع معزولا وراثيا عن المواقع الأخرى للنوع، في المناطق الصحراوية مثلا، مما يجعل التصالب مستحيلا، وهذا الوضع يؤدي إلى زيادة في سرعة التطور.
وفي الحقيقة، هاتان الآليتان تؤديان إلى نفس النتيجة، أي التطور المتباين للجماعات الصغيرة أو محدودة عدد الأفراد.
يعتقد الباحثون أن سبب التوطن هو الانعزال القديم في منطقة ما، وأن نسبة التوطن تزداد مع هذا القدم، كما يعتقد أيضا أن قدم التوطن لا يزيد في نسبته بين النبت الطبيعي فحسب بل في بعده التصنيفي، فالمناطق قليلة التوطن لا تحوي فصائل خاصة بها، ولا حتى في بعض الأحيان أجناساً خاصة بها. ويعتبر النوع المتوطن أكثر تطورا وانعزالا كلما كان يختلف شكلا عن بقية أنواع الجنس، وتعتبر حالات الجنس ذي النوع الواحد من أكثر الأنواع قدما على الإطلاق.
الدلالة الجغرافية النباتية للتوطن:
تدل دراسة أكثر من ألف نوع متوطن في منطقة شرق المتوسط ، أن أغنى المناطق الجغرافية النباتية بالتوطن هي المنطقة الايرانية التورانية، حيث وجد 50% من هذه الأنواع تابعة لهذه المنطقة، 15% متوسطية ايرانية ، 20% متوسطية، 4% اوروبية سيبيرية، 4% صحراوية عربية، و6% سودانية. يضاف إلى ذلك، أن الأنواع المتوطنة الايرانية التورانية اكثر مرونة من الأنواع المتوطنة الأخرى، حيث أنها تتواجد في بيئات متنوعة، وأحيانا في بيئات الأعشاب الضارة وعلى حواف الطرق.
أما الأنواع المتوطنة المتوسطية فأقل مرونة، حيث يقتصر تواجدها على النطاقات شبه الألبية والجبلية من الجبال الساحلية، أما المناطق قليلة الارتفاع فتكون فقيرة بالأنواع المتوطنة بالرغم من غنى النبت الطبيعي فيها بالأنواع، إذ يلاحظ أن الأنواع النباتية المتوسطية الشاملة تتمركز في المناطق المنخفضة أو قليلة الارتفاع. ولا يتوضح الفرق بين شرق وغرب المتوسط إلا في النبت الطبيعي الجبلي، ويعود التمايز والفرق ليتضاءل في النطاقات الألبية الشاهقة.
النباتات الطبيعية وتوطنها في الجزيرة العربية:
يوجد في الجزيرة العربية حسب ميللر 3418 نوعا نباتيا وعائيا، تنتسب إلى 144 فصيلة و 1105 اجناس أكثر من نصف هذه الأجناس مداري. يتركز معظم النباتات بالقرب من السواحل الجنوبية والغربية. أما بقية أجزاء الجزيرة العربية فلا يزيد عدد الأنواع النباتية فيها عن 400 نوع نباتي. تتميز فلورا الجزيرة العربية بالمميزات التالية:
1- يمكن اعتبار غالبية الأنواع النباتية في الجزيرة العربية افريقية العلاقة والمنشأ.
2- هناك نسبة من الأنواع النباتية المتوطنة ولكن جميع هذه المتوطنات مدارية.
3- تصل كثير من الأنواع النباتية الصحراوية إلى حدود توزعها الجغرافي الشمالية في شبه الجزيرة العربية.
عندما نقارن اقطار الجزيرة العربية مع بعضها البعض من حيث عدد الأنواع المتوطنة أو من حيث مكافيء التوطن نجد أن اليمن من أغنى هذه الأقطار وخاصة عندما نأخذ جزيرة سوقطره بعين الاعتبار. ففي اليمن حوالي 7% من الأنواع النباتية متوطنة، أما سوقطرة فيوجد فيها حوالي 30% من الأنواع النباتية المتوطنة.
يوجد في الجزيرة العربية 19 جنسا نباتيا متوطنا، سبعة منها في الجزيرة العربية بالذات واحدى عشر جنسا في جزيرة سوقطرة وواحد في كليهما. من أهم مراكز التوطن النباتي في اليمن منطقة اب والجبال القريبة منها وخاصة على ارتفاع 2800 متر فوق البحر وجبل العرايس 150 كم شرق عدن حيث يوجد جبل بركاني يضم أكثر من 15 نوعا متوطنا ومنطقة جل في محافظة حضرموت والمهرة 40 نوعا متوطنا.
يرجع التوزع النباتي الجغرافي الحالي إلى دور البليستوسين الجيولوجي عندما تعرضت المنطقة إلى تبدلات مناخية في الهطول ودرجة الحرارة، حيث شكلت الجبال اليمنية الساحلية شبه ملجأ أو محمية للنباتات من تأثير تبدل المناخ الكارثي بسبب بيئتها المستقرة نسبيا ذات الرطوبة العالية في وسط جاف شبه صحراوي، في هذه الشروط شبه الرطبة أمكن لكثير من العناصر النباتية الافريقية القديمة والهندية الماليزية القديمة الحفاظ على بقائها من الانقراض. هذه الجبال المعزولة احدها عن الآخر بفواصل من الأراضي الصحراوية شكلت مراكز تطور مثالية.