رحلة في عالم التحريف العلمي (13)

صانعو المحتوى في العصر الرقمي: بين التضليل والتأثير على الرأي العام

صنّاع المحتوى الرقمي بين مسؤولية التأثير وأزمة المعلومات المضللة

شبكة بيئة ابوظبي، د. طارق قابيل (*)، القاهرة، جمهورية مصر العربية، 14 يناير 2025

في العصر الرقمي الحديث، أصبح صانعو المحتوى من بين العناصر الأكثر تأثيرًا في الفضاء العام بفضل قدرتهم على الوصول إلى جماهير واسعة وبناء علاقات شخصية مع متابعيهم. وفي زخم العصر الرقمي، حيث تتشابك الأفكار وتتسارع الكلمات، يبرز صانعو المحتوى كنجوم لامعة على منصات التواصل الاجتماعي، يجذبون الأضواء ويوجهون الرأي العام بقوة غير مسبوقة. هم رواة هذا العصر الحديث، يتنقلون بين أروقة المعرفة والترفيه، ويشكلون عوالمهم الرقمية لتلامس مشاعر ملايين المتابعين. إلا أن هذه النجومية الرقمية تخفي بين طياتها تحديات كبرى، أهمها انتشار ظاهرة المعلومات المضللة التي تهدد مصداقية المحتوى وتربك مسارات الفهم العام، حيث يُنظر إلى بعض المؤثرين كمصادر معلومات موثوقة، إلا أن هذا التأثير المتنامي ترافقه تحديات كبيرة، أبرزها انتشار المعلومات المضللة وغياب التحقق من المعلومات.

ويلعب صانعو المحتوى دورًا مزدوجًا، فمن جهة، يمكنهم أن يكونوا أدوات للتوعية والتعليم، ومن جهة أخرى، قد يتحولون إلى منصات لنشر الأخبار الزائفة والمضللة سواء كان ذلك عن قصد أو نتيجة افتقارهم إلى المهارات اللازمة للتحقق من المعلومات، مما يجعلهم أحيانًا أدوات لنشر التضليل. وفي هذه الرحلة، يواجه صانعو المحتوى اختبارًا أخلاقيًا وعمليًا: كيف يمكنهم تحقيق التوازن بين التأثير والمسؤولية؟
نحاول في هذه المقالة إلقاء الضوء على هذا الموضوع الشائك، ومناقشة أهم أبعاده، وتأثيرها على نشر المعلومات المغلوطة والزائفة.

انتشار المعلومات المضللة بين صانعي المحتوى الرقمي
كشفت الدراسات الحديثة، مثل تلك التي أجرتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، عن فجوات خطيرة في ممارسات التحقق لدى صانعي المحتوى الرقمي. وفقًا لهذه الدراسات، أكثر من نصف صانعي المحتوى الرقمي يفتقرون إلى آليات فعالة للتحقق من المعلومات. مع اعتمادهم على معايير سطحية، مثل عدد الإعجابات والمشاركات لتقييم مصداقية الأخبار، ولذلك فهم يساهمون في تعزيز دورة التضليل وزيادة انتشاره.

نُفّذت إحدى الدراسات بالتعاون مع جامعة بولينغ غرين الحكومية في الولايات المتحدة، وكشفت أن ثلثي صانعي المحتوى الرقمي ينشرون معلومات غير موثقة لملايين المتابعين. وتأتي هذه النتائج في وقت حاسم، حيث أصبح المؤثرون على مواقع التواصل الاجتماعي مصادر رئيسية للأخبار والمعلومات الثقافية للجمهور العالمي.

أنماط تقييم المعلومات بين صانعي المحتوى الرقمي
أظهرت الدراسة أن 42 في المئة من صانعي المحتوى الرقمي يعتمدون على مقاييس مواقع التواصل الاجتماعي مثل “الإعجابات” و”المشاركات” كمؤشرات رئيسية للمصداقية، بينما يشارك 21 في المئة المحتوى بناءً على “الثقة في الأصدقاء” الذين قاموا بمشاركته مسبقًا. وأوضحت كذلك أن وسائل الإعلام التقليدية، على الرغم من خبرتها، تحتل مرتبة متدنية كمصدر للتحقق، إذ يستعين بها فقط 36.9 في المئة من صانعي المحتوى الرقمي.

التحديات في الحقوق الرقمية

أشارت الدراسات إلى تحدٍ آخر في المشهد الرقمي، حيث يعمل ما يقرب من ستين في المئة من صانعي المحتوى دون فهم واضح للأطر التنظيمية الأساسية والمعايير الدولية، مما يجعلهم عرضة للمخاطر القانونية والتحرش عبر الإنترنت. وفي حين أبلغ ثلثهم عن تعرضهم لخطاب كراهية، فإن 20.4 في المئة فقط يعرفون كيفية الإبلاغ عن هذه الحوادث بشكل صحيح للمنصات.

وقالت المديرة العامة لليونسكو، أودري أزولاي، إن صانعي المحتوى الرقمي اكتسبوا مكانة مهمة في النظام المعلوماتي، حيث يتفاعلون مع ملايين الأشخاص عبر أخبار ثقافية أو اجتماعية أو سياسية. ومع ذلك، يواجه الكثيرون صعوبات في مواجهة المعلومات المضللة وخطاب الكراهية عبر الإنترنت، مما يدفعهم للمطالبة بمزيد من التدريب.

دور المؤثرين في الحروب والأزمات
خلال الحرب الإسرائيلية الجارية على قطاع غزة، لعب المؤثرون وصانعو المحتوى الرقمي دورًا محوريًا في تشكيل الرأي العام. أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي ساحة رئيسية لتوجيه السرديات حول أحداث الحرب. اعتمد العديد من المؤثرين الفلسطينيين على توثيق عمليات الاستهداف، مما ساعد في إيصال صوت المدنيين المتأثرين مباشرة بالحصار والقصف، وكان لهذا التوثيق تأثير كبير في فضح الانتهاكات الإسرائيلية.

على الجانب الآخر، استغل مؤثرون إسرائيليون ودوليون منصاتهم لدعم الروايات السياسية المختلفة، سواء المؤيدة لإسرائيل أو تلك التي تسعى لتبرير التصعيد العسكري. عملوا على الترويج للمزاعم الإسرائيلية والتضليل بأساليب متنوعة، بما في ذلك استخدام الكوميديا الساخرة.

التضليل عبر الكوميديا الساخرة
من بين أبرز أساليب التضليل التي اعتمدها المؤثرون الإسرائيليون خلال الحرب على غزة، استخدام الكوميديا الساخرة كوسيلة لجذب الجمهور وتمرير رسائل سياسية مغلوطة حول مجريات الحرب. نشر مؤثر إسرائيلي مقطع فيديو بعنوان “هذه هي البداية” سخر فيه من معاناة الفلسطينيين في غزة، محولًا مأساتهم إلى مادة كوميدية. كذلك، نشرت ناشطة إسرائيلية مقطع فيديو تسخر فيه من معاناة الفلسطينيين جراء القصف الإسرائيلي، في إشارة ساخرة إلى أن الفلسطينيين “يتظاهرون” بالمعاناة.

ويستند تأثير المؤثرين في تشكيل الرأي العام إلى مجموعة من العوامل النفسية والاجتماعية التي تعزز قدرتهم على الوصول إلى الجمهور وإقناعه. وتأتي الثقة الشخصية في مقدمة هذه العوامل، إذ ينظر المتابعون إلى المؤثرين كأصدقاء، مما يجعلهم أكثر عرضة لتصديق ما يقدمونه دون التحقق. إلى جانب ذلك، تلعب السهولة والبساطة دورًا حاسمًا في جذب المتابعين، مقارنة بالتقارير الإعلامية المطولة التي قد تبدو معقدة للبعض.

التضليل بين الإعلام التقليدي وصناع المحتوى الرقمي
تُعرف وسائل الإعلام التقليدية باتباعها إجراءات تهدف إلى التحقق من صحة المعلومات قبل النشر. مع ذلك، لا تخلو هذه الوسائل من الوقوع في التضليل أحيانًا، خاصة عندما تُسرع في نشر الأخبار دون التحقق الكافي نتيجة المنافسة أو الضغط الزمني. في المقابل، يواجه صانعو المحتوى الرقمي تحديات أكبر في التعامل مع المعلومات، إذ يعتمد العديد منهم على السرعة والانتشار بدلًا من الدقة، مما يجعل هذا النوع من المحتوى أكثر عرضة للتضليل.

ويواجه العالم تحديًا كبيرًا يتمثل في غياب التنظيم الواضح للقوانين التي تحكم المحتوى الرقمي. في العديد من الدول، لا تزال التشريعات المتعلقة بهذا المجال غير مكتملة أو تفتقر إلى التفاصيل التي تنظم نشر المعلومات أو تحاسب صانعي المحتوى عند نشرهم معلومات مضللة. يُستغل هذا الفراغ القانوني في الترويج لأجندات سياسية ونشر خطاب الكراهية واستغلال المنصات الرقمية لتحقيق مكاسب شخصية على حساب المصداقية والمسؤولية.

التعامل مع المعلومات المضللة: إجراءات واستراتيجيات
تعزيز مهارات التحقق من المعلومات
لتقليل انتشار المعلومات المضللة، يجب أن يكون هناك تركيز كبير على تحسين مهارات التحقق من المعلومات بين صانعي المحتوى الرقمي. يمكن أن يتضمن ذلك:
1. التدريب المستمر: تقديم دورات تدريبية متقدمة لصانعي المحتوى حول تقنيات التحقق من المعلومات وأهمية التحقق من المصادر الموثوقة.
2. استخدام أدوات التحقق: تشجيع صانعي المحتوى على استخدام أدوات التحقق التكنولوجية التي تساعد في تحليل الأخبار والمحتوى والتأكد من مصداقيتها.
3. التعاون مع وسائل الإعلام التقليدية: تعزيز التعاون بين صانعي المحتوى الرقمي ووسائل الإعلام التقليدية لتبادل المعرفة والخبرات في مجال التحقق من المعلومات.

تنظيم المحتوى الرقمي والتشريعات
يجب على الحكومات والمؤسسات وضع تشريعات واضحة تنظم المحتوى الرقمي وتضمن محاسبة صانعي المحتوى عند نشرهم لمعلومات مضللة. يمكن أن تشمل هذه التشريعات:
1. إلزامية التحقق: فرض قوانين تلزم صانعي المحتوى بالتحقق من المعلومات قبل نشرها، مع فرض عقوبات على المخالفين.
2. تحديد المسؤولية: تحديد المسؤوليات القانونية لصانعي المحتوى الرقمي عند نشرهم لمحتوى مضلل أو ضار.
3. التشريعات الدولية: تطوير تشريعات دولية تحقق التوازن بين حماية حرية التعبير وضمان المسؤولية الرقمية.

دور المنصات الرقمية الكبرى
تلعب المنصات الرقمية الكبرى دورًا رئيسيًا في تنظيم المحتوى وضمان مصداقيته. يمكن أن تشمل إجراءاتها:
1. تطوير سياسات صارمة: وضع سياسات واضحة وشفافة لمنع نشر المعلومات المضللة وخطاب الكراهية.
2. مراقبة المحتوى: استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي لمراقبة المحتوى وتحليل الأخبار الزائفة بشكل سريع وفعال.
3. التعاون مع الحكومات: تعزيز التعاون مع الحكومات والمؤسسات الدولية لتنفيذ سياسات تنظيمية فعالة ومكافحة التضليل الرقمي.

زيادة وعي الجمهور
توعية الجمهور حول أهمية التحقق من المعلومات ودورهم في مكافحة المعلومات المضللة يمكن أن تكون استراتيجية فعالة. تشمل الإجراءات:
1. حملات توعية: إطلاق حملات توعية توضح للجمهور كيفية التحقق من الأخبار والمحتوى الرقمي.
2. تعليم النقد الإعلامي: إدراج برامج تعليمية حول النقد الإعلامي في المناهج الدراسية لتعزيز الوعي بين الطلاب حول كيفية التحقق من المعلومات.
3. تشجيع التفكير النقدي: تعزيز ثقافة التفكير النقدي بين الجمهور لتشجيعهم على التشكيك في المعلومات والتحقق منها قبل تصديقها أو مشاركتها.

أهمية التعاون الدولي
لا يمكن مواجهة مشكلة المعلومات المضللة بفعالية دون تعاون دولي. يمكن أن تشمل جهود التعاون:
1. اتفاقيات دولية: تطوير اتفاقيات دولية لتنظيم المحتوى الرقمي وضمان مصداقيته.
2. تبادل المعرفة: تعزيز تبادل المعرفة والخبرات بين الدول والمؤسسات الأكاديمية والتكنولوجية لمكافحة المعلومات المضللة.
3. تمويل الأبحاث: دعم وتمويل الأبحاث العلمية التي تركز على تطوير أدوات وتقنيات جديدة لمكافحة المعلومات المضللة وتحسين التحقق من المعلومات.

دور الجمهور في مكافحة التضليل
يمتلك الجمهور دورًا محوريًا في مكافحة التضليل. يمكن للأفراد المساهمة في ذلك من خلال:
1. التحقق من المعلومات: التأكد من صحة الأخبار والمحتوى قبل مشاركتها.
2. الإبلاغ عن المحتوى المضلل: الإبلاغ عن المحتوى المضلل للمنصات الرقمية لمساعدتها في إزالة هذا النوع من المحتوى.
3. التفاعل النقدي: التفاعل مع المحتوى الرقمي بشكل نقدي وتجنب نشر المعلومات غير المؤكدة.

في العصر الرقمي المتسارع، أصبح صانعو المحتوى ركيزة أساسية في تشكيل الرأي العام، وهو دور يحمل في طياته إمكانات هائلة وفرصًا واعدة، لكنه يضعهم أيضًا أمام مسؤولية جسيمة تتجاوز الإبداع والترفيه. بين سحر التأثير وخطر التضليل، يكمن التحدي الحقيقي: كيف يمكن لصانعي المحتوى أن يوازنوا بين الانتشار السريع والمسؤولية الأخلاقية؟

لمواجهة خطر المعلومات المضللة، لا بد من تبني نهج شامل يشمل التدريب المستمر لصانعي المحتوى على آليات التحقق، وتطوير تشريعات واضحة تنظم النشر الرقمي، إلى جانب تعزيز التعاون الدولي بين المنصات الرقمية، الحكومات، والمجتمع المدني. ومع تحمل كل طرف مسؤوليته—من صانعي المحتوى إلى المتابعين—يمكننا بناء فضاء رقمي يعزز المصداقية والنزاهة.

في النهاية، تبقى قوة الإعلام الرقمي أداة يمكن استخدامها للتنوير أو التضليل. الخيار بيد الجميع، ومن خلال تعزيز ثقافة المسؤولية الرقمية، التكاتف، وتطوير المهارات، نستطيع أن نحول الفضاء الرقمي إلى منصة تزدهر فيها الحقيقة والمعرفة، ونرسم مستقبلًا أفضل للأجيال القادمة.

المصادر:
1. أدوات ومهارات للتفاعل مع الجمهور عبر وسائل التواصل الاجتماعي
2. استخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات – كيفية جعل البيانات أكثر منطقية
3. إستراتيجية محتوى فعالة: سر نجاح التسويق الرقمي
4. أفضل الممارسات الرائدة في تطوير الخدمات الرقمية الحكومية
5. أهم استراتيجيات تحسين محتواك لتجاوز منافسيك وزيادة التفاعل مع الجمهور
6. بين العلم والخرافة: كيف تهدد” عفونة الدماغ” مستقبلنا الفكري؟
7. تأثيرات الذكاء الاصطناعي على الأمن المعلوماتي للدول
8. الذكاء الاصطناعي في الكشف عن الأخبار الزائفة: تقنيات التحقق من المعلومات في العصر الرقمي
9. صراع الذكاء الاصطناعي ضد نفسه!
10. صناعة المحتوى… بين الضوابط والتخصص والتحديات
11. في زمن التحول الرقمي، هل تعلم كيفية حراسة هويتك ضد الهجمات السيبرانية؟
12. قواعد البيانات في عصر الذكاء الاصطناعي: ثورة في إدارة البيانات
13. مسؤولية صناع المحتوى في العصر الرقمي
14. مكافحة المعلومات المضللة حول تغير المناخ في عصر الذكاء الاصطناعي
15. الوجه التكنولوجي الحديث للدجل العلمي والخداع العلمي والعلوم الزائفة
***
د. طارق قابيل
– أكاديمي، خبير التقنية الحيوية، كاتب ومحرر ومترجم علمي، ومستشار في الصحافة العلمية والتواصل العلمي
– عضو هيئة التدريس بقسم التقنية الحيوية – كلية العلوم – جامعة القاهرة
– الباحث الرئيسي لمشروع خارطة طريق “مستقبل التواصل العلمي في مصر ودوره في الاعلام العلمي”، أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، مصر.
– مقرر لجنة الآداب والفنون والعلوم الاجتماعية والثقافة العلمية والدراسات الاستراتيجية ومؤشرات العلوم والتكنولوجي، وزميل أكاديمية البحث العلمي والتكنولوجيا، وزارة التعليم العالي – مصر.
– عضو المجموعة الاستشارية العربية للعلوم والتكنولوجيا، التابعة للمكتب الإقليمي للأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث للدول العربية.

https://orcid.org/0000-0002-2213-8911
http://scholar.cu.edu.eg/tkapiel
tkapiel@sci.cu.edu.eg

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

رحلة في عالم التحريف العلمي (9)

التزييف العميق: التحديات والمخاطر في عصر الذكاء الاصطناعي دور البحوث والتواصل العلمي في التصدي لتقنيات …