شبكة بيئة ابوظبي، بقلم، محمد أمين سامي، خبير الاستراتيجية وقيادة التغيير 12 ابريل 2023
الاستشراف اليوم مسألة أساسية ومصيرية للبشرية حيث يشكل رهان المستقبل الجديد الذي نريد الولوج إليه، فهل سنلجه باستراتيجية الرائد المتحدي؟ أم باستراتيجية التابع المسحوب؟ أم باستراتيجية الاعتماد المتبادل؟
إن ما يعرفه العالم اليوم من انتشار التفاهة والترهات وتغييب القضايا الحقيقية الواجب نقاشها على أرض الواقع واستشراف الوضع المستقبلي وتسليط الضوء على التفاهات والترهات وتقليص دور المثقفين وتحجيم أدوارهم في المجتمع والسخرية منهم والتهليل والتكبير لأشباه المثقفين وأنصاف المعلمين وتسخير وسائل الإعلام بمختلف أشكالها وأنواعها و مواقع التواصل الاجتماعي لبروزهم ماهو إلا سياسة إلهاء الشعوب كما وصفها نعوم تشمسوكي بالاستراتيجيات العشر للسيطرة على الشعوب وهذا موجود في كل دول العالم بدون استثناء المتقدمة والنامية.
إن الاستشراف الاستراتيجي يرصد العلامات الضعيفة والمتقدمة والتي يمكن أن تشكل مستقبلا بذور التغيير مستقبلا وفق مقاربة نظمية أو نسقية مع تحليل تفاعلات هذه العناصر ومقاربة حركية النسق المجتمعي بمختلف أبعاده السياسية والاجتماعية والثقافية والأسرية والاقتصادية وغيرها… ويبحث فيها وفي آليات تطورها وكيف تطورت وماهي المخاطر المستقبلية و الفرص المستقبلية ومن هم اللاعبون الجدد في اللعبة، وماهي المجالات المستقبلية الممكن الاستثمار كما أن الاستشراف يساعد على فهم وتحديد نوع المستقبل الذي نريد الولوج إليه، وما إلى ذلك.
فهذا الأخير يعتبر بمثابة بوصلة القيادة بالنسبة لربان الطائرة او الباخرة وبالتالي فإذا فقد هذا الأخير بوصلة القيادة فقد التوجه بشكل صحيح ويمكن لا محالة أن يدخل في متاهات تفقده السيطرة والتحكم في الطائرة وبالتالي التسبب في كوارث تكون آثارها مدمرة سواء بالنسبة للطائرة أو الركاب، وهذا ما يقع إذا فقدنا الاستشراف فقد فقدنا بوصلة القيادة.
فهناك من يعتقد أن الاستشراف الاستراتيجي هو التخطيط الاستراتيجي وهذا خطأ فادح فالتخطيط الاستراتيجي هو تنزيل عملي للخطة محددة في البرامج والمشاريع والزمن والتكلفة وتقسيم الأدوار و… لما يتم استشرافه ورصده من علامات سواء الضعيفة أو المتقدمة ولنفهم الفرق بين الاستشراف والتخطيط سأوضحه بمثل حي :
إن وظيفة الخطة الاستراتيجية في أي منظمة كيفما كان شكلهاوحجمهاوطبيعةأنشطتهاوعمرها… ، كوظيفة غطاء عيون الحصان؛ يتم وضع هذا الغطاء على عيني الحصان لكي يركز نظره على الهدف فقط ولا يتشتت بصره. لكن أغطية عيون الحصان لا توضع لخيول السباق، وإنما توضع فقط للخيول التي تجر العربات؛ لأن خيول السباق تحتاج إلى الرؤية الواسعة ومراقبة حركية الخيول وطريقة سباقهم أما خيول العربات فتحتاج إلى التركيز والانتباه وهذا هو الفرق بين التخطيط الاستراتيجي والاستشراف الاستراتيجي.
إن الاستشراف الاستراتيجي يمكن تبسيطه واختزاله في أربع قواعد:
1- يجب رصد العلامات الضعيفة والمتقدمة.
2- التمييز في العلامات الضعيفة والمتقدمة بذور التغيير.
3- مراقبة تطور بذور التغيير إلى محركات للتغيير.
4- حصر محركات التغيير الأكثر أهمية والأكثر نجاعة وفعالية.
إن المستقبل يساهم في تغييره ثلاثة أشياء: المشاعر، والأفكار، والمصالح. لذلك فنحن نحتاج إلى تربية عاطفية مستقبلية لنتعلم كيف نقلق بصدد المستقبل، وإلى تربية فكرية مستقبلية لنتعلم كيف نتوقع المستقبل، وإلى تربية عملية مستقبلية لنتعلم كيف نصنع المستقبل. في كلمة واحدة نحتاج إلى الاستشراف، لأن الاستشراف هو أن تقلق حول المستقبل وتتوقعه وتصنعه. ولا يمكن لهاته الأشياء الثلاث أن تعمل بشكل جيد إلا إذا قمنا بإعادة النظر في أنظمتنا التعليمية من خلال البرامج و المواد و المنهاج وأساليب التدريس و…. لأنها هي المدخل الوحيد على خلق جيل واعي وقادر على استشراف المستقبل.
فتغييرات الهيكيلية الكبيرة التي تحصل اليوم وغذا في مختلف المجالات، عنوانها الأبرز الأزمة في مختلف المجالات ولكن أبرزها حقيقة هو الأزمة القيمية حيث تحول معها العالم من حالة التوازن والاستقرار إلى حالة اللاتوازن واللاستقرار حالة الفوضى بدءا من فيروس كورونا ثم الحرب الاكرو-الروسية ثم ارتفاع الأسعار ثم التضخم ثم الصراع الأمريكي-الصيني و….كل هذه الأمور وغيرها جعلت اليوم سؤال القيم مسألة ضرورية في عملية الاستشراف الاستراتيجي، فالقيم هي مربط الفرس هي المقود الذي سيوجه العالم غذا وعليه سيتم وضع البرامج والمناهج والمخططات التنموية والاقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها،…
لقد أضحى العالم اليوم يعرف صراعين قويين صراع ظاهر وصراع خفي، ولعل صراع القيم هو المحرك الأساسي لباقي الصراعات الأخرى الظاهرة، إن منظومة القيم اليوم تعبر عن قيم المجتمعات ومبادئها وحضارتها، فالراسمالية العالمية المتوحشة اليوم من خلال مؤسساتها الدولية المختلفة، ومراكز تفكيرها وجمعياتها الدولية النشيطة في مختلف المجالات تحاول تمرير مجموعة من القيم الشاذة والهادمة للحضارات من أجل خلق جيل من الضباع الغير القادر على التمييز والتفكير بعقلانية وتجرد وغير قادر على التفكير النقدي للأشياء والبرامج والمشاريع وبالتالي التبعية الصماء لما يقدم له في مختلف المجالات.
إن القيم تستمد قوتها من التفكير الجمعي للمجتمع وارتباطه بها ويتم تمريرها وغرسها من خلال مؤسسات التنشئة الاجتماعية : الأسرة، المدرسة، دور الشباب، الإعلام الهادف والتوعوي، الصحبة النافعة، الجمعيات الخيرية الجادة، الشركات المواطنة، المؤسسات الحكومية القدوة كلها مؤسسات تساهم في غرس القيم النبيلة في نفوس الناشئة وتجعلهم يعتزون بقيمهم وثقافتهم، فالرأسمالية العالمية المتوحشة تخشى اليوم أن تبقى فئة من الأشخاص خارج الصندوق واكتشاف الواقع بمختلف تجلياته وأشكاله فهي تسابق الزمن وتجعل العالم أكثر تعقيدا وتساهم في خلق الأزمات كل هذا من أجل فرض السيطرة والتحكم في عقول البشر ونشر قيم الفساد والقيم الشاذة و غرس نظام التفاهة بمختلف تجلياته كي تبقى محافظة على تقدمها وسيطرتها فسياسة الماكرين واحدة لا تتغير عبر الزمن، قد تتغير تمظهرات المكر وظهور أشكال جديدة بمسميات مختلفة ولكن السياسة هي نفسها.
إن تحدي القيم من التحديات الهيكلية الكبرى التي سيعرفها العالم والتي تعتبر اليوم أن غياب القيم سيولد أزمة الهوية وبالتالي فنحن أمام إما أن نكون أو لا نكون، فالرأسمالية المتوحشة تسعى بكل الطرق التعليمية أو الاستثمارية، أو الابتكارية(خلق منتجات جديدة أو خدمات جديدة) هدفها الظاهر خلق القيمة المضافة وباطنها زعزعت منظومة القيم وخلخلتها من أجل خلق فوضى خلاقة تصب في صالحها وصالح مؤسساتها، ولعل مونديال قطر 2022، أبان عن الوجه الحقيقي للصراع الخفي الذي يحاول الغرب نشره في المنطقة العربية بشكل خاص والدول النامية والفقيرة فالصراع في قطر في المونديال صراع اقتصاد وفكر وقيم فالدول الفقيرة أو السائرة في طريق النمو ليس من أن تتجاوز دور الثمن أو الربع فمابالك أن تصل إلى دور النصف وتحلم بالفوز، هذا من سابع المستحيلات كما أن التشبت بقيم الوطن يزعج النظام العالمي الجديد لانه يسعى إلى خلق منظومة قيم جديدة ارتباطها الأول والأخير للإنسانية بدل قيم الوطن والأسرة والمجتمع الأصلي، وبالتالي فالرأسمالية المتوحشة ذكية جدا فهي تستثمر في الآجال الطويلة جدا وتنشر سمومها في مواقع التواصل الاجتماعي، والبرامج المانحة للمنظمات الدولية والاعلام والفن و المسرح ومراكز التفكير التي تعتبر القوة الناعمة الجديدة من أجل إحداث فوضى خلاقة وضياع الهوية.