شبكة بيئة ابوظبي، بقلم، بروفيسور بدر الدين عبد الرحيم إبراهيم، كبير مستشاري برنامج الخليج العربي للتنمية، أجفند، 02 يونيو 2023
في التسعينات كان التركيز متزايدا على التمويل الأصغر حيث كانت سياسة التطوير تقود إلى الانتشار الهائل للمشاريع الصغيرة غير الرسمية ، تشارك جميعها تقريبًا في مجالات التجارة أو الخدمات الصغيرة والإنتاج الأصغر من السلع. هذه التجربة أفرزت بعض العيوب في التطبيق وربما لا زال الكثيرون يرجعون لهذه العيوب في التفسير الخاطيء لمسار التمويل الأصغر اليوم دون النظر للتطور الكبير الذي حدث منذ التسعينات. فضلا عن أن هذه الكتابات المناهضة للتمويل الأصغر كانت قبل أكثر من 20 عاما ولم أرى أي جديد من هذه الكتابات خلال السنوات الماضية. هنا سنتناول هذه الأراء والرد عليها.
في البدء نقول لا يعيب الفكر الجيد إلا الفهم الخاطيء والممارسة غير الجيدة. كثير من الباحثين تناولوا التمويل الأصغر للفترة 1997-1912 حيث كان لايزال في بدايته ولم ينظروا للتطور الهائل حاليا في القطاع ومؤسساته وربطه بالشمول المالي والتنمية المستدامة وتغيرات المناخ وتنمية أصحاب الحيازات الزراعية الصغيرة ، وليس فقط بمعضلة الفقر، وفي تصحيح كثير من مفاهيمة و عملياته على الأرض . في الحقيقة، يمكن لبعض مشروعات التمويل الأصغر أن تكون سيئة نتيجة للممارسات الخاطئة للمؤسسات والبنوك في الماضي مثل المديونية المفرطة من قبل المؤسسات سعيا وراء تحقيق أكبر قدر من الأرباح على حساب حاجة العملاء للأقراض، كما أن إستخدام مبالغ التمويل الأصغر لدفع ثمن الضروريات الأساسية تؤدي لإغراقهم في المزيد من الديون. في كتابة بعنوان: لماذا لا يعمل التمويل الأصغر؟ الصعود المدمر للنيوليبرالية المحلية للأكاديمي ميلفورد بيتمان، المنشور في العام 2010 وحسب ما جاء فيه أن الكاتب وبعد الإطلاع على المخرجات المنشورة والناشئة عن العديد من برامج التمويل الأصغر والنظر في سياسات التمويل الأصغر وبرامجه ومع ذلك بدأ له – كما ذكر- أن لا شيء يضيفه التمويل الأصغر ويرى أن التمويل الأصغر تم تسويقه ببراعية وحيوية سياسية و لكنه كان في الواقع فارغًا . كانت حجة ميلفورد بيتمان المركزية أنذاك هو أن التمويل الأصغر يتعارض إلى حد كبير مع الاقتصاد المستدام والتنمية الاجتماعية ، وكذلك توجهات الحد من الفقر بشكل مستدام. ويري أن التمويل الأصغر لا يعمل ولكن له بعض الفوائد الثانوية بتوفر قليل من النقود الإضافية في أيدي الفقراء في أي مجتمع – وخاصة إذا كان يتم جلب هذه النقود من خارج المجتمع المحلي المعني . وشبة الفوائد الضئيلة التي يجنيها المجتمع من التمويل الأصغر في المدى القصير بالتركيز عمدا على الأشجار القليلة بعد أن مساعدة الغابة بأكملها على الاحتراق.
بروفيسور مالكولم هاربر وتوماس ديختر في كتابهم المنشور في العام 2007 والذي يحتوى على عشرين مقالا، بعنوان “ما هو الخطأ في التمويل الأصغر؟” مثلهم مثل كثير من الكتاب ربطوا القروض الصغيرة بتسويقها كآلية وبمعدلات الفائدة المرتفعة ، وضغط الأقران على أحكام سداد القروض التي وصفوها بالقسرية و تأثير الأجندة النيوليبرالية التي تحقق الأرباح من الفقراء من خلال التمويل الأصغر. كما تشير العديد من المقالات في الكتاب إلى أن مؤسسات التمويل الأصغر تحمل أجندة نيوليبرالية للفقراء. يزعمون أنه يستغل أيضًا الأشخاص المحرومين من خلال القروض الصغيرة ، لأن مؤسسات التمويل الأصغر تقرض بفائدة عالية. ومع ذلك ، فإنهم يؤمنون بأن مؤسسات التمويل الأصغر هي وكيل التنمية على المستوى المحلي وتعزز اقتصاديات المعيشة المحلية كما يتضح من العديد من دراسات القروض الصغيرة. طرح الكتاب أسئلة وقضايا حول القروض الصغيرة وتوصلوا لأن التمويل الأصغر يقدم سلع رديئة ولكنه أفضل من عمل لاشيْ . على الرغم من أنني نشرت بعض الأوراق المشتركة مع بروفيسور مالكولم هاربر ولكنني أختلف معه في بعض المجالات المجالات المتعلقه بممارسات التمويل الأصغر بما في ذلك بعض الآراء التي وردت في كتابه هذا. وعلى الرغم من هذا الإختلاف أحمد له أنه كان ولا يزال داعما للغاية لعملي الأكاديمي والفكري في التمويل الأصغر غير المعتمد علي الفائدة وتعميمه كتجربة عالمية لإيمانه أن هذا النوع من التمويل ليس فقط عادلا بل أن صيغة الشراكة فيه تقدم كثيرا من الحلول لصغار المنتجين، إلا انها تحتاج ضبط دقيق في الممارسة العملية، كما أري أنا أيضا. في الحقيقة فإن ربط التمويل الأصغر بالإستغلال في الهوامش لا يتفق وممارسات اليوم التي إتسمت بالتنافس الذي جعل هوامش التمويل في أدناها. فضلا عن ضغط الأقران كان له أثر كبير في توسيع قاعدة المستفيدين وفي تخطي عقبة الضمانات التي كانت سائدة في الماضي.
وفي مقال آخر بعنوان: “هل يمكن للقروض الصغيرة أن تجعل منحدرًا زلقًا بالفعل أكثر انزلاقًا؟ لتوماس ديختر ينتقد الائتمان الصغير بشكل سلبي. على سبيل المثال ، يقول ، “لقد فشل الائتمان الصغير في رؤية الانحدار الزلق نحو النزعة الاستهلاكية وفقدان بعض القيم التي قد تؤدي إلى ذلك تحدث كنتيجة لاستخدام الائتمان الرسمي. وأن القروض الصغيرة تخلق الديون بين الفقراء مما يؤدي إلى خسارة الاحترام للمقترض في الأحياء ، وضعف إستقلاليتة في المجتمع وفقدان هويته. كثير من الكتاب يرون أن الوصول الجماعي إلى الائتمان الرسمي يكون من أجل الاستهلاك. ربما كان هذا الأمر في السابق ولكن الواقع الآن لا يتفق مع هذه النتيجة، إذ أن الغالبة العظمي والتي تصل إلى 99 ٪ من المقترضين الأصغر يستخدمون قروضهم لبدء أو توسيع المشروع، والذين يحصلون على القروض للإستهلاك يكون فقط في حالات الطوارئ من الصناديق والمنظمات وليس من الأسواق الرسمية . وفي بعض الأحيان تقوم مؤسسات التمويل الأصغر بتقديم خدمات الطوارئ في شكل قروض للعملاء لشراء الطعام ولتلبية الاحتياجات الضرورية الأخرى. واللجوء للمؤسسات في السنوات الأخيرة وبحجم كبير يرجع إلى أن التمويل الذاتي (من المدخرات) أو الاقتراض من شبكة اجتماعية او الأهل لبدء الأعمال التجارية كان في الماضي. ولكن الصعوبات الاقتصادية الأخيرة في سبل عيش الناس أدت إلى عدم قدرة العديد من الأسر الفقيرة على تقديم قروض لعائلاتهم وأصدقائهم للترتيب لبدء عمل تجاري. فضلا عن أن ربط التمويل الأصغر بالقروض الإستهلاكية يتعارض مع العديد من دراسات الائتمان الأصغر التي أجراها البنك الدولي والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ودراسات وطنية ومنظمات بحثية أخرى فيما يتعلق بطبيعة القروض الصغيرة.
لعقود من الزمان كان الفقراء غير قادرين على الحصول على قروض لأعمالهم ، والآن تقدم مؤسسات التمويل الأصغر القروض لهم أصحاب المشاريع الصغيرة. يستخدم المقترضون الصغار هذه القروض في أعمالهم ويكسبون الدخل ولا توجد الآن أية أجندة خفية في مؤسسات التمويل الأصغر ، ولكن يربط العديد من الكتاب القروض الصغيرة بمشاكل مجتمعية أخرى مرتبطه بالرأسمالية التي يمكن أن تؤثر على الفقراء من خلال مؤسسات التمويل الأصغر. في الواقع ، يرى الفقراء التمويل الأصغر على أنه فرصة لهم للحصول على رأس المال التجاري لأن مؤسسات التمويل الأصغر كذلك مشترك في المخاطرة مع المقترضين الصغار و تتحمل مؤسسات التمويل الأصغر مخاطر خسائر قروض الديون المعدومة وتعيد تأهيل المتعثرين المقترضين من خلال منحهم قروضًا إضافية لإعادة تأهيل أعمالهم. ويجادل كثير من الكتاب بأن برامج القروض الصغيرة تخلق مدينين صغيرين في هذه المجتمعات (داخل المجتمع الليبرالي). و تعكس حجة بعض الكتاب أن الفقراء يخضعون للهيمنة و يفقدون هويتهم من خلال تشغيل برامج القروض الصغير لذلك يصفون الديون بانها سيئة للفقراء. على العكس أفرزت تجربة التمويل الأصغر في السنوات الأخيرة وبعد أن إنداحت التجربة وتصححت مفاهيمها وتشعبت طرقها وآلياتها في خدمة التنمية المستدامة وحاجيات المجتمعات الفقيرة وفي الصمود ضد الكوارث فضلا عن مساهمة القروض الصغيرة في الاقتصاد الحي في المجتمعات المحلية حيث صارت تخدم الفقراء وتساعد على الاعتماد على الذات وبناء الثقة بالنفس وتحرك الأسواق المحلية، كما تخلق العيش المستقل في المجتمع و تمكين الفقراء المهمشين، خاصة النساء. والدليل أن هناك طلب مستمر بين الفقراء للحصول على قروض صغيرة لبدء أو إثراء رأس المال التجاري من مؤسسات التمويل الأصغر التي قامت بتلبية الطلب المتزايد على القروض . بالطبع هنالك حالات معزولة في الهند ونتيجة لضعف الممارسات ورداءتها أدي لفقدان الهوية للعملاء المثقلون بالديون إلتي أدت لحالات إنتحار محدودة.
كما أشار بعض الكتاب أن مؤسسات التمويل الأصغر لا تعمل أبدًا مع الأفقر ، عقليًا و المعوقون جسديا ، والمسنون ،والمعوزون واللاجئون. وعلى العكس فإن العديد من الدراسات أفادت بأن القوة الأكبر للتمويل الأصغر تكمن في زيادة الدخل للفقراء بمختلف طبقاتهم. كما جعلتهم فاعلين إقتصاديا في السوق بدلاً من مستلمي الصدقات. في الحقيقة هذا الرأي مرده للفهم الخاطيء بأن مؤسسات التمويل الأصغر تم تصميمها لمنح الفقراء إمكانية الحصول على قروض ميسرة بدون ضمانات. ناسين أن هنالك ثقافة جديدة بين الفقراء قبلت المسؤوليات والمعاملة بالمثل في الهوامش مع العمل على توسيع مظلة المستهدفين من الفقراء النشطين القادرين على تحقيق هذه الإلتزامات المصرفية. بينما يثير البعض قضايا بعيدا عن الإئتمان لتبرير قصور التمويل الأصغر لمعالجة القضايا الاجتماعية مثل المشاكل الصحية وخدمات الوقاية لصغار المقترضين، حيث يحتاج الفقراء إلى صحة اجتماعية واقتصادية أخرى ودعم التعليم ويلومون المؤسسات بعدم طرح برامج صحية وتعليمية للمقترضين . تقدم مؤسسات التمويل الأصغر القروض بإجراءات بسيطة للفقراء لبدء أعمالهم وإدارتها. وفي الغالب يشتري الفقراء الخدمات المالية من مؤسسات التمويل الأصغر لتلبية احتياجاتهم وتحسين حياتهم. ومع ذلك أدخلت مؤسسات التمويل الأصغر مؤخرا إقراض للتعليم والتغطية الصحية. كما أدخلت الإدخار الأصغر والتأمين لمقابلة الإحتياجات الضرورية مثل التعليم والصحة من مواردهم بعد زرع ثقافة الإدخار والتأمين الصحي وسط العملاء ذوي الدخول المحدودة. كما أن تكوين وتفعيل مجموعات المساعدة الذاتية (SHGs) من النساء ساعدت في التثقيف الصحي ، وتعليم الكبار ، وخلق الوعي ، وتنمية الثروة الحيوانية ، التربية البيئية ، وغيرها. هذه المجموعات ساعدت عضويتها في العمل الإجتماعي والتمكين الاقتصادي للمرأة والوصول لمؤسسات التمويل الأصغر.
تطور صناعة التمويل الأصغر إستجاب لما يتناسب مع احتياجات العملاء وأصبح أغلب العملاء اليوم يستطيعون الوصول إلى أنواع من خدمات الادخار التي يرغبون فيها وأن مؤسسات التمويل الأصغر دمجت المدخرات في برامج القروض الخاصة بهم مما أدي لتطور سلوكيات الادخار بين المقترضين الفقراء. يبدو أن الإدخار الأصغر له قيمة كبيرة في الشمول المالي لم تذكره في هذه الآراء . وكثير من الآراء تقول أن الفقراء لا يدخرون وأثبتت تجارب بنوك آجفند للشمول المالي في السودان وموريتانيا عكس ذلك تماما، حيث أن مجرد فتح فرص الإدخار الإجباري كجزء من شروط القروض تلاه الإدخار الإختياري زادت الإدخارات الإختيارية ثلاثة أضعاف الإجبارية. الفقراء قادرون على الإدخار لسببين الأول أنهم يتحصلون على مواردهم المالية يوميا ولابد من آلية لحفظ هذه الموارد بعيدا عن أستخدامها فيما لا يفيد. السبب الثاني هو ان إدخار الفقراء ليس بغرض الإستهلاك ولا يتأثر بمعدلات التضخم العالية لأن هذا الإدخار، الذي ايضا يولد عائد اضافي، يستخدم في نهاية العام لدفع للرسوم المدرسية والجامعية الثابته والتي لا تتأثر بالتضخم. كما أن المؤسسات نجحت في تطوير سلوكيات الإدخار بين عملائها بينما فشلت البنوك في ذلك. على كل أثبتت التجارب أن الائتمان خدمة يحتاجها الفقراء وذوي الدخول المحدودة والذي يمكن أن يخلق مشاريع صغيرة ناجحة ومستدامة ويوسع مع العمل الحر ولكن مؤسسات التمويل الأصغر لا تخدم الأشخاص الذين هم في خط الفقر لأن ليس لديهم أصولا وبالتالي ينبغي أن تتبناهم جهات إجتماعية أخرى. الآن يمكن القول أن الائتمان الصغير ليس افتراضًا بل هو أداة مجربة عمليًا للتنمية الاقتصادية المجتمعية ، عبر قيام وتنمية المشاريع الصغيرة ، وأداة للقضاء على الفقر للفقراء النشطين اقتصاديا الذين يمكنهم الإلتزام بشروط التمويل في المؤسسات التي تحشد مواردها من جهات أخرى بتكلفة وعليها إلتزامات.
التمويل الأصغر اليوم أصبح صناعة جيدة ومتطورة وتقدم منتجات جيدة ومرغوبة. وحسب تقديرات السوق بلغ حجم سوق التمول الأصغر 178 مليار دولار أمريكي في 2020، ومرشح للوصول إلى 496 مليار دولار في 2030 بمعدل نمو سنوي 10.8%. كما أن معدلات سداد القروض للبنوك التجارية أقل بكثير من معدلات مؤسسات التمويل الأصغر والتي تصل إلى 99% في كثير من الأحيان . رؤيتنا من الإطلاع على هذه الكتابات وتحليلاتها أن أغلب الذين يثيرون قضايا خلافية وشكوكية في عدم مقدرة التمويل الأصغر على النجاح هم كتاب أعمدة وأكاديميين وإستشاريين وليسوا ممارسين في مجال القروض الصغيرة بشكل مباشر. وعلى الرغم من أن العديد منهم يثيرون العديد من القضايا البديهية والتي عالجتها التجربة في مقالاتهم لا يقدم أي منهم حلولاً للتغلب على مشاكل مثل كيفية تقليل تكاليف معاملات القروض ، كيفية تعبئة الموارد في التمويل الأصغر لخدمة صغار المقترضين أو جعلهم جزء من تحمل المخاطر للمؤسسات المانحة ذات التكلفة أو تطوير المنتجات لتناسب المستفيدين وكيفية جمع المدخرات من العملاء والجمهور من أجل توسيع قاعدة الإقراض وغيرها من القضايا التي تحتاج لفكر وممارسة. ولا زلنا نؤمن أن التمويل الأصغر صناعة متطورة ويرجي منها الكثير إذا أحسنت ممارساتها وفهمها. كما تحتاج برامج التمويل الأصغر إلى دعم مالي من القطاع الخاص لزيادة حجم صرف القروض لتطوير المشاريع الصغيرة . يجب أن تركز برامج الائتمان الصغير على الاقتصاد البشري وتعمل بالشراكة معه بدلا عن اقتصاديات جني الأرباح. بالإضافة إلى دعم حاضنة الأعمال / والتوجيه وتنمية مهارات العملاء وتوفير الخدمات ضرورية للمقترضين الصغار. علاوة على ذلك ، يمكن لخطط إعادة التأهيل في فترة الأزمة أن تساعد المقترضين المتعثرين على انتعاش أعمالهم عندما تكون أعمالهم في مراحلها الأولى أو في اوقات الازمات.