تنفرد شبكة بيئة أبوظبي بنشر كتاب “كمال جنبلاط الإنسان والصوم”
للزميل الكاتب الصحفي حسن بحمد، بشكل يومي خلال شهر رمضان الكريم 2024
شبكة بيئة ابوظبي، الإمارات العربية المتحدة، الأستاذ حسن بحمد، 13 مارس 2024
عبر التّاريخ، نشط المفكّرون والفلاسفة في تحديد مفهوم للإنسان، وركّزت الأديان السماويّة في كتبها، على الإنسان كمخلوق مختلف عن باقي المخلوقات. ومهما اختلفت النّظرة إلى هذا المخلوق، وتحديد المفاهيم بشأنه، فإنّ اثنين لا يختلفان على أنّ الإنسان لديه قواسم مشتركة مع باقي المخلوقات، تتلخّص بالغريزة والتّكوين البيولوجي، ولكن لديه أيضاً، خاصيّة تبرز في تميّزه بامتلاك العقل، ما يجعله قادراً على التّفكير، والإدراك، والوعي، والتطوّر، واستخدام اللّغة والنّطق، وإيجاد الحلول لمشكلاته، واستخدام نُظم التّواصل كي يُعبّر عن ذاته ويتبادل الأفكار والتّنظيم مع سواه. فللحيوان حياة طبيعيّة واحدة،” وليس له حياة نفسيّة أو اجتماعيّة (إلاّ في نطاق حياته الطبيعيّة)، ذلك لأنّ الحيوان لم يوهب تلك الخاصّة التي تسمى “العقل”، والتي يمكن أن تجعله أحياناً يُهمل في سلوكه تلك القوانين الطبيعيّة المحيطة به. إنّ في الحيوان غريزةً مستقرّة ًهي التي تنظّم وقت طعامه وشرابه ورقاده واستيقاظه، وهي التي تملي عليه حالات صحّته ومرضه وراحته وتعبه وجدّه ولهوه. أمّا الإنسان فقد أتلف هذه الغريزة الفطريّة فتنقّل في الطعام والشّراب واللّهو والشّهوات بحسب “خياله الإنساني” لا بحسب حاجاته الطبيعيّة(1).
وإذا كان الإنسان قادراً على كلّ هذه المسائل، وقادراً مع أقرانه على بناء مجتمعات وأوطان، فلماذا إذاً يكون أحياناً عدّة، غرائزياً، حيوانيّ الطّبع، عدوانياً، متخلياً عن العقل والإدراك والإنسانيّة؟
هذا سؤال كان وسيبقى برسم البشريّة على مرّ العصور، وقد عرفنا اجتهادات كثيرة من قبل عديدين من الفلاسفة والمفكّرين والمبدعين تتعلّق بـ “انحراف” الإنسان عن مفهومه ومعناه الحقيقيّين، ولعلّ كمال جنبلاط هو أحد أولئك الأشخاص القلائل الذين كانت لهم نظرتهم وفلسفتهم واجتهاداتهم اللافتة في تحديد الأسباب التي تدفع الإنسان إلى التصرّف بغرائزيّة المخلوقات الأخرى،” يعيش الحيوان بغريزته، فتهديه حسب شعوره، أما الإنسان فيعيش بعقل وغريزة، فبعقله يتسامى إلى الإنسان المثال، وبغريزته ينحط إلى الحيوان”. لذا يجب أن لا تقع النفس فريسة للحواس وأغراضها، لأنها عوائق على درب تحقيق الذات، وبالتالي السير على غير هدي الشُرَع الطبيعية التي رسمها العقل في قلب الإنسان، أي في نفسه، وميلاد العقل الأرفع في النفس لا يتم وفق تعبير جنبلاط بدون تضحية الأنانية وقتل تنين كبش الأنية الفردية، حتى تعود الموجة ماء، والفكر عقلاً، والعقل هدباً متنزلاً متساوياً، وهو نور اليقظة في الإنسان وفي كل شيء، وباطن الأنوار كلّها ومصدرها هو ذاك النور البسيط الذي لا ينفذ ولا يهلك ولا يفنى، والله في المعنى الحقيقي هو حدّ تعبير القرآن الكريم ” نور السموات والأرض ” وهو أيضاً ” نور العالم ” على حدّ تعبير الإنجيل المقدس.. والسماوات في معناها الحقّي هي عقولنا، لأن العقول هي سماوات أفلاك التدبير في كل كائن، والأرض هي معالم وظواهر أفكارنا ومشاعرنا ومفاهيمنا وأغراض حواسنا، وأما العالم فهو الجامع لهذه السماوات ولهذه الأرضين في تأليفها الإبداعي النامي المتطّور، ووظيفة الإنسان ومهمته وغاية وجوده الزمني هو في جعل هذا النور يتداخل في هَديِه وفي حركته وفي سكونه(2).
ربما يكون الجو السياسي الذي عاشه جنبلاط هو ما دفعه لإيجاد افكار واراء مميزة تجاه الإنسان، ومفهومه العميق للإنسان والإنسانيّة والقيم الخلقية والمعنوية والروحية التي تؤلف جوهر المجتمع، ولطالما كانت فلسفته الأخلاقيّة والرّوحية مثار بحث ونقاش، وأثبتت الأيّام والأحداث التي مرّت وتمرّ بها المجتمعات الإنسانيّة، مدى أهميّة نظرته إلى العوامل التي تهذّب الإنسان و”تؤنسنه”، والتي تذيب غرائزه الحيوانيّة، وعدوانيّته، وأنانيّته. وإذا كانت الظّروف التي تحيط بالإنسان تفعل فعلها في تطويره وتعميق حسّه الإنسانيّ، أو عدم تطويره، فإنّ حاجاته من غذاء وثقافة وتعلّم وراحة وحريّة ومستلزمات عيش لائق وكريم، تساعده بالتّأكيد على الارتقاء بفكره ووعيه وإدراكه، إلى مراتب لا تليق إلاّ بمخلوق مثله، ولا تناسب إلاّ المفهوم الصّحيح لحقيقة وجوده.
” … كان المعلم كمال جنبلاط يختلف عن أقرانه السياسيين في كل شيء، فزهده وتقشفه وممارسته اليوغا وتقيده بحمية الخضروات وامتناعه عن تناول اللحوم، أمور تخرج به عن المألوف وفيها كثير من التحدي لمجتمع أمسك الجشع الاستهلاكي بتلابيبه، وسادته روح أبيقورية لا ترتوي. كان المجتمع الراقي يتأفف ويتأوه حتى من بساطة لباسه”(4)، وكلنا يعلم أن المعلم كمال جنبلاط اقترب من الله الواحد عن طريق قهر النفس، والمجاهدة والتصوف النفسي والروحي،” متمسكاً بالضمير والوجدان، هدفه العودة إلى مفهوم النور، أو مرحلة التوحد في البحث عن الحقيقة، وصوفية تتطابق مع العقل فيعيشها بالعودة إلى الذات والتطهّر من خداع الحواس “(5).
لقد حدّثنا كمال جنبلاط عن الغذاء وأنواع الطّعام، وطريقة تناول الأطعمة، وحاجات الجسم، وغيرها من الأمور التي دلّنا من خلالها على تلك العلاقة الجدليّة بين الغذاء الصّحيح والصحّي، وبين سلوك الإنسان الذي يتناوله.. وأيضاً، حدّثنا عن الصّوم كوسيلة لتزكية النّفوس وتربية الشخصيّة وإعدادها إعداداً كاملاً بكلّ جوانبها المختلفة، الماديّة والمعنويّة والعقليّة والروحيّة والنفسيّة والعاطفيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.. معتبراً أن الغذاء هو من الحاجات الأساسيّة للإنسان، وهو إذ يؤمّن استمراريّة الحياة والنّشاط لديه، فإنّه أيضاً، يكون مصدراً رئيساً لوهنه، من خلال إصابته بالأمراض، وقد يكون مصدراً رئيساً لعدوانيّته.
من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم، وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم؛ إذ يبالغ أشد المبالغة، ويدقق كل التدقيق في منع الغذاء، وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه، فهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرها إلا النكبات والكوارث؛ هما طريقتان كما ترى: مبصرة وعمياء، وخاصة وعامة، ويتوجَّه الصيام على أنه شريعة اجتماعية إنسانية عامة، يتقي بها الاجتماع شرور نفسه، ولن يتهذب العالم إلا إذا كان له مع القوانين النافذة هذا القانون العام الذي اسمه الصوم، ومعناه قانون البطن.
المصادر والمراجع:
(1): عمر فرّوخ، الإسلام والتّاريخ، لبنان، دار الكتاب العربي ص 97 .
(2 ): كمال جنبلاط ، حقيقة الوجود والوعي، ط 1،2012، الدر التقدمية،ص22،23.
(3 ): كمال جنبلاط ، أضواء على حقيقة القومية السورية، ص،45 .
(4): إيغورتيموفييف، كمال جنبلاط الرجل والأسطورة، دار النهار، الطبعة الثامنة ،2009، ص149.
(5): ريما البراضعي، المنحى الأخلاقي في فكر كمال جنبلاط، لبنان، منشورات المكتبة الأهليّة، ص،99.