شبكة بيئة ابوظبي: بقلم د. أنيس رزوق، مستشار تخطيط استراتيجية الجودة والتميز، مقيم معتمد في التميز المؤسسي (EFQM)، خبير استراتيجيات القوة الناعمة، خبير ادارة مركز اسعاد المتعاملين، (7 STAR)، خبير حوكمة معتمد، خبير صناعة سيناريوهات المستقبل، 17 مارس 2019
من خلال الخبرات الأكاديمية والميدانية الطويلة في مجال الابتكار والإبداع والدراسات المستقبلية والاستراتيجية، تم العمل على اعداد موضوع الإبداع من خلال كتاب متخصص خلال الفرة الماضية، وسيتم العمل على طباعته قريباً، إلى أنني آثرت أن تتم نخص الاستفادة من محتوياته لقراء شبكة بيئة أبوظبي الأفاضل مسبقاً، لذا سيتم نشره بشكل مختصر من خلال هذا الموقع ضمن ثلاثة أقسام للإحاطة بموضوع الإبداع من جميع جوانبه، في مقالات متعددة خلال فترة زمنية ليست بالقصيرة، يتضمن:
القسم الأول: تطور مفهوم الإبداع التاريخي، خلال ثلاثة مراحل من فجر التاريخ وحتى عصرنا الحالي، ومن ثم الخوض في تعريف الإبداع المتنوع وأهميته، ودراسة العلاقة بين الإبداع وبعض المفاهيم المتشابه والمترابطة، مثل الابداع والإبتكار ، والابداع والموهبة، الإبداع والذكاء، وعلاقة الإبداع بالمعرفة، ثم سيتم التطرق إلى الحاجة إلى الإبداع وأنواعه وخصائصه ونظرياته ومستوياته، وأيضا عناصر ومبادىء الإبداع ومعوقات الإبداع ومراحله، والتعرف على خصائص المبدعين وسماتهم، وأيضا الإبداع على المستوى الفردي وخصاصه ودوافعه والنماذج الخاص به، والإبداع على المستوى الجماعي ونظرياته، ومن ثم الإبداع على المستوى التنظيمي، وأخيراً في هذه القسم مراحل العملية الابداعية.
القسم الثاني: سنتناول موضوع الإبداع الإداري من خلال تعريفه و التعرف على أساسياته وخصائصه ، وأهمية الإبداع الاداري ومبادئه ومستوياته، ومن ثم مراحل تسيير الإبداع الإداري وما هي متطلبات واستراتيجياته ومعوقاته، واستراتيجيات التعامل مع المعوقات، ومن ثم التعرف على نظريات الإبداع الاداري، وعلاقته بوظائف المنظمة ودور القيادة والبيئة في تحقيق الإبداع، ومن ثم التعرف على مكونات الإبداع الاداري، وما هي حاجة المنظمات للإبداع الإداري؟، وأيضا المتغيرات التنظيمية الباعثة لإبداع الإداري والخصائص الرئيسية للمنظمات الإبداعية، وقياس وأبعاد الإبداع الإداري.
أما في القسم الثالث: سوف نتناول التفكير الإبداعي من خلال مفهومه وتعريفه والبيئة الإبداعية ومراحل التفكير الإبداعي وأنواعه، وأيضا سمات الشخص المبدع، والفرق بين التفكير الإبداعي والتفكير التحليلي، وما هي معوقات التفكير الإبداعي ومبادئه، وما هي الأساليب لتنمية التفكير الإبداعي مثل (المحاكاة، قائمة المواصفات، قبعات التفكير الست، التفكير التصويري، قوائم التحقق والفصح، استراتيجية اسكامبر)، وغيرها من الطرق الأخرى التي سيتم طرحها في حينه.
القسم الاول: الابداع
مقدمة:
الشيء الوحيد الثابت في هذا العصر هو التغيير، ومع زيادة حدته أصبحت الشركات المحلية والعالمية ترفع أفق التفكير الابداعي لتجد لها مكاناً في الصدارة باستمرار وتملك القدرة على مواجهة التغيير بالمنافسة وتحقيق أفضل النتائج من حيث الخدمات والمنتجات، أو طرق جديدة لانتاج جديد أو تطويرها، وفي مواجهة العديد من المشكلات التي تتطلب اتخاذ قرار من أجل حلها، وقد حاول الانسان منذ قديم الزمان بحل المشكلات ومازال، إلى أن بعض الحلول تأخذ الطريقة العفوية غير الممنهجة ، فمرة يصيب وأخرى يخيب، وهذا ما يضع المنظمات أمام تكاليف باهظة والتعرض للخطر أمام تلك المخاطرة، مما دفع الانسان للاعتماد على نهج أخر وهو الاستفادة من التجارب السابقة في حل بعض المشكلات، وأيضا مازال يحمل هذا المنهج الكثير من المخاطرة وعدم الاستقرار في حل المشكلات، كون تجارب الآخرين السابقة غالباً ما تكون متبانية تحددها ظروف الأفراد أو المنظمات والمشكلات التي يواجهونها، وقد لا تطابق بيئة العمل في المنظمات الأخرى.
هذين الاسلوبين اللذان تم اتباعهما وما يعتريمهما من قصور للوصول إلى النتائج المرجوة في حل المشكلات، دفع الباحثين للتفكير لايجاد أسلوب علمي ممنهج في حل المشكلات يستند إلى خطوات متسلسلة ومتداخلة وعرض البدائل في اتخاذ القرارات لمعالجة المشكلات وتحقق النتائج المطلوبة، وما يسهل على المعنيين تعلمه وتطبيقه في مجالات مختلفة، إلا أنه ومع نقض المختصين بإتباع أسلوب واحد في حل المشكلات المتعددة والمتنوعة والمختلفة حجماً في مجال الافراد والمنظمات، دفعهم لتوظيف مهارات التفكير الإبداعي لدى الأفراد والجماعات بشكل أوسع لاتخاذ القرارات في الكثير من المشكلات التي تواجههم، على الرغم من أن هذا الأسلوب يعتبر أقدم من الأسلوب العلمي والمنهجي في حل المشكلات، وذلك إعمالاً لأهمية الابداع ودوره في التطوير والتحسين على مستوى الفرد و الجماعة والمنظمات بطريقة ممنهجة تستطيع المنظمة الاعتماد عليها في تحقيق أهدافه.
وقد أصبح الابداع مهنة ضرورية تنشدها كبرى الشركات في موظفيها لتفسح مجال لها في السوق لأطول عمر ممكن، من خلال تبنيها للابداع بأسلوب متميز وبارز لتحقيق أكبر فائدة مادية منه.
أولاً: تطور مفهوم الإبداع التاريخي:(1)
“الحاجة أم الاختراع” هذا ما كان ومازال الابداع موجوداً منذ فجر التاريخ، والمعرفة التي كانت حكراً على مجموعة من الناس، والمراحل التالية تعكس التطور على مدى العصور في مفهوم الابداع:
أ. المرحلة الأولى: من العصر الأغريقي إلى بداية القرن العشرين:
تمتد هذه المرحلة منذ أقدم العصور التي نقلت إلينا أثارها المكتوبة والمنقولة بداءً من العصر الأغريقي ثم العصر الروماني، مروراً بالعصر الجاهلي، وإنهاءاً بعصر النهضة الأوروبية والعقود الأولة من القرن العشرين، والتي اقترنت بالأعمال الخارقة المقترنة بالغموض وتستعصي على التفسير والتركيز على دور الوراثة والفطرة على الإبداع، إضافة على ارتباط الإبداع ببعض الميادين مثل الرسم والأدب والهندسة وغيرها، ومن أبرز السمات التي تميز المعرفة الانسانية وارتباطها بمفهوم الإبداع في هذه المرحلة هي:
• الخلط بين مفاهيم الابداع والعبقرية والذكاء والموهبة والنبوغ المبكر.
• أن هناك قوة خارقة تحرك الابداع والعبقرية خارج سيطرة الانسان.
• أن للوراثة والفطرة دور كبير في انتقال الابداع والعبقرية عبر الأجيال.
• عدم اطلاق وصف مبدع أو عبقري إلا لمن يأتون بأعمال خارقة وخارج المألوف، وهم قلة نادرة.
• تفاوت الحضارات فيما يخص ميادين العمل الإنساني التي حظيت الإنجازات الإبداعية فيها بالتقدير والعرفان والاعتراف واقتصارها على ميادين الحكم والفلسفة والأدب وفنون القتال وألوان الهندسة المعمارية والرسم والنحت بدﺭﺟﺔ ﺃﻗﻞ ﰲ ﻣﻴﺪﺍﻥ ﺍﻟﻌﻠﻮﻡ.
ب. المرحلة الثانية: من نهايات القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين.
بدأت هذه المرحلة مع نهايات القرن التاسع عشر، وقد اتسمت هذه المرحلة بظور نظريتات سيكولوجية حاولت تفسير الظاهرة الإبداعية، وبدأ النضج في العلوم الإنسانية بناء على أثر العوامل الاجتماعية والبيئية والسلوك الإنساني، في حدوث التمايز بين مفاهيم الإبداع والموهبة والتفوق، وانحسار الربط بين الإبداع والغيبيات والخوارق، وإنحسار الجدل حول أثر الوراثة في الإبداع واتساع دائرة الاهتمام في مجالات العلوم الحياتية والطبيعية. كما اتسع الجدل والنقاش والخلاف بين أنصار البيئة والوراثة ودورهما في تشكيل السلوك والسمات والقدرات العقلية مع بداية القرن التاسع عشر، ومن أبرز خصائص هذه المرحلة:
• ﻇﻬﻮﺭ ﻋﺪﺓ ﻧﻈﺮﻳﺎﺕ سيكولوجية حاولت تفسير الظاهرة الإبداعية مثل نظرية الجشطالت والتحليل النفسي والقياسي.(2)
• المساواة بين مفاهيم الابداع والعبقرية والذكاء.
• حدوث تقدم في التمييز بين مفاهيم الابداع والموهبة والتفوق، وانحسار عملية الربط بين الابداع والغيبيات والخوارق.
• انحسار الجدل حول أثر الوراثة والبيئة في الابداع، والإعتراف بأهميتة العوامل الوراثية واليبئية.
• زيادة الاهتمام بالإبداع في مجالات العلوم الحياتية والطبيعية.
• تطوير بعض أدوات الابداع وبرامج تعليمه في مجالات الاعمال الصناعية التجارية.
ج. المرحلة الثالثة: من منتصف الفرن العشرين حتى الآن:
بداية هذه المرحلة في منتصف القرن العشرين وتمتد إلى عصرنا الحاضر، وفيها أصبح النظر إلى مفهوم الإبداع على أنه توليفة تندمج فيها العمليات العقلية والمعرفية ونمطية التفكير والشخصية والدافعية والبيئية، وقد انتشرت في هذه المرحلة البحوث والدراسات التي تناولت الإبداع، ولعل من أسباب الحرب العالمية الثامية كانت قد استدعت بذل جهود عظيمة في الاختراع والتجديد والتحسين في مبادئ الحياة المختلفة، كما أن ظهور عصر الفضاء وتصاعد السباق فيه أكد على أهمية هذه الطلب، بالإضافة إلى تقدم الصناعة وتزايد الحاجة إلى مبدعين ومبتكرين، لذا ظهر في أوائل عام (1950) اهتماماً متزايداً بدراسة الإبداع، وذلك عندما ألقى (جيلفورد) خطابه الرئاسي في جمعية علم النفس الأمريكية، وطالب فيه بالاهتمام بموضوع الإبداع، وترتب على ذلك تكثيف البحوث العلمية والدراسات التي تناولت الإبداع وبناء مقاييس للتعرف على الأفراد المبدعين.(3)
ومع الانفجار المعرفي الهائل نتيجة التطور المذهل لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، تقدمت البحوث والدراسات التجريبية التي أخضع لها مفهوم الإبداع، كما تقدمت العلوم النفسية العصبية واتسعت المعرفة حول تركيب الدماغ والوظائف العقلية والذكاء الاصطناعي والقياس النفسي، وقد تميزت هذه المرحلة بمايلي: (4)
• التمايز بين مفهومي الذكاء الإبداع، أي أن الذكاء غير الإبداع، وأيضاً التمايز بينهما وبين مفهوم الموهبة.
• ظهور نظريات جديدة في الإبداع كنظرية القياس النفسي للإبداع والنظريات المعرفية للإبداع.
• تطوير عدد كبير من الأدوات والمقاييس الاختبارية لقياس الإبداع.
• تطوير عدد كبير من البرامج التربوية والتدريب لتعليم الإبداع.
• الاعتقاد بأن الإبداع قدر موجود لدى جميع الافراد، كالذكاء وأنه يتوزع وفق منحى التوزيع السوي للقدرات العقلية.
• تقدم البحوث والدراسات التجريبية التي تناولت مفهوم الإبداع وشمولية النظرية العامة له كمفهوم يشمل الفرد والبيئة والعمليات العقلية والأعمال أو النتاجات الإبداعية.
• اتساع دائرة مجالات العمل الإنساني التي تعترف المجتمعات بالمنجزات الإبداعية فيها.
إن أعظم اكتشافات القرن العشرين، تلك التي قام بها كل من “اينشتاين” الذي توصل إلى نظرية النسبية التي ساعدت على فهم الأبعاد الأساسية للكون والزمن والفضاء، واكتشاف أديسون قانون “أثر أديسون” الذي أدى إلى تطوير صناعة الالكترونيات والتي بدأت باختراع أجهزة أدت إلى ابتكار الصمامات والدوائر المتكاملة والكمبيوتر، تحويل التيار الكهربائي (الديود)، وقد ساهم الكمبيوتر في زيادة معدل معالجة المعلومات وتحليلها، والدافع الأول للوصول إلى عصر المعلومات.(5)
نستنتج من مراحل تاريخ الإبداع بأنه كان منحصراً في الاعمال الخارقة، وأنه مثل الموهبة والعبقرية والذكاء، ومن لم يملك ذكاء لا يملك إبداع، وقد تطور في المرحلة القادمة للتميز بينه وبين أشقائه وأن درجة الذكاء لا تمنح الشخص بالضرورة الابداع، وتوالت الدراسات حول حاضنته، هل هو وليد البيئة أو الوراثة؟ حتى تم تحديد المعطيات الحقيقية لأهمية الإبداع في عصرنا الحاضر ودوره في التطوير والتحسين وتحقيق الميزة التنافسية للمنظمات للسعي للبقاء بإحترافية العمليات والخدمات المقدمة.
المراجع:
1. برافين جوبتا، ترجمة أحمد المغربي، الإبداع الإداري في القرن الحادي والعشرين، دار الفجر للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، الطبعة الأولى، 2008.
2. بن عنتر، عبد الرحمن، واقع الإبداع في المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بالجزائر: دراسة ميدانية، مجلة جامعة دمشق للعلوم الإقتصادية والقانونية، المجلد 24 العدد الأول، 2008.
3. الصافي، عبدالله، التفكير الإبداعي بين النظرية والتطبيق، جدة، مطابع دار البلاد، 1997، ص18.
4. خضير كاظم، هايل يعقوب فاخوري، إدارة الإنتاج والعمليات، دار صفاء عمان الأردن، الطبعة الأولى، 2009.
5. ﺭﻓﻌﺖ ﻋﺒﺪ الحليم اﻟﻔﺎﻋﻮﺭﻱ، ﺇﺩﺍﺭﺓ الإبداع التنظيمي، منشورات المنظمة العربية للتنمية الادارية، مصر الجديدة، القاهر، الطبعة الأولى، 2008.