شظايا النجوم الضائعة تحت الجليد الذائب

 

شبكة بيئة ابوظبي، بقلم د. هادي عيسى، باحث في مجال علوم الأرض في جامعة الإمارات العربية المتحدة، 09 مايو 2024
ينشر بالتوازي مع موقع زوايا في لبنان

تلقي تداعيات التغيّر المناخي بظلالها الداكنة على كوكب الأرض، مهددةً كل ما تجده في دربها، من الغلاف الجوي إلى الصفائح الجليدية ومن الكائنات الدقيقة إلى الحيوانات الضخمة، والآن ندرك أن الصخور الفضائية لم تسلم هي الأخرى من الإضطرابات المرتبطة بارتفاع درجات الحرارة. لطالما أمطرنا الفضاء الخارجي بكنوزه السماوية، تلك الشظايا التي تحمل في طياتها أسرار الكون، والتي تعبر الغلاف الجوي لتُلامس سطح الأرض على هيئة صخور سوداء محروقة باهتة. ظلّت هذه الشظايا، المعروفة ب”النيازك”، تُستخدم من قبل علماء الفضاء لفهم أسرار الأماكن البعيدة التي أتت منها. ولطالما كانت القارة القطبية الجنوبية، أنتاركتيكا، بمثابة كنز ثمين، حيث قدّمت للبحث العلمي أكثر من 60٪ من النيازك التي تم جمعها حتى الآن. لكن هذا الكنز أصبح الآن مهدداً بالإختفاء.

في ورقة بحثية تعود إلى شهر إبريل الماضي، وقامت بنشرها مجلة “Nature Climate Change”، يقدِّر فريق العلماء الذي قام بالتصدي للبحث أننا نفقد بالفعل نيازك أنتاركتيكا بشكل أسرع ممّا نجمعها، ومع استمرار ارتفاع درجة حرارة الكوكب، من المقدّر أن تزداد وتيرة الفقدان، حيث تغوص الصخور في أعماق الصفائح الجليدية، وتصبح بعيدة المنال، وكأنها تُدفن تحت أكوام من الجليد، لتُصبح بذلك سراً من أسرار الماضي.

نيزك في القارة القطبية الجنوبية، أنتاركتيكا. المصدر: جامعة مانشستر

على الرغم من نجاح العلماء في جمع ما يقارب 80 ألف نيزك حتى الآن، إلا أنّ تحديد أيّ منها قد يُخبئ أسرارًا جديدة يُعدّ مهمّة صعبة. ووفقًا لكاري كوريجان، باحثة الجيولوجيا وأمينة مجموعة النيازك في القطب الجنوبي في المتحف الوطني للتاريخ الطبيعي في عاصمة الولايات المتحدة الأمريكية، واشنطن، فإنّ “عددًا قليلًا فقط من النيازك التي يتمّ العثور عليها كلّ موسم تُعدّ اكتشافًا جديدًا. وقد قام زملاء كوريجان بمراجعة الدراسة الجديدة، لكنّهم لم يشاركوا بشكل مباشر في البحث. تؤكّد كوريجان على أهمية كل نيزك، مُشبّهًةً إيّاه بقطعة من اللغز التي تُساعدنا على فهم كيفية تشكّل النظام الشمسي بأكمله، فكلّ نيزك يحمل في طيّاته قصة تكوّنه، والتي بدورها تحدّثنا عن المكان الذي أتى منه النيزك، وعن الظروف التي سادت في الكون خلال نشأته.
مخلفات النظام الشمسي هذه، تسقط في أي مكان وعلى امتداد بقاع الأرض. لكنّ المصير المحتوم لمعظم النيازك هو الضياع، إمّا في أعماق المحيطات، أو باختلاطها بالصخور الأرضية بحيث يصعب تمييزها. على النقيض من ذلك، تشكّل أنتاركتيكا استثناءً فريد، حيث بفضل طبيعتها القاسية، تبرز الصخور الفضائية المظلمة بشكل لافت للنظر على تضاريسها القاتمة. بالإضافة إلى ذلك، يعمل تدفق الجليد البطيء عبر القارة على تركيز الصخور الفضائية في مناطق محددة، والتي تحولت إلى متاحف مفتوحة لأولئك العلماء الباحثين عن أسرار الكون.
تقول فيرونيكا تولينار، وهي طالبة دكتوراه في علم الجليديات في الجامعة الحرة في بروكسل (ULB) والمشاركة في تأليف البحث الجديد: “يمكن أن تسقط النيازك في أي مكان على الغطاء الجليدي”. “تستقر هذه النيازك داخل الجليد وتتحرك معه، ولكن عندما يواجه تدفق الجليد حاجزًا ما، يتغيّر مساره ويتجه نحو السطح”. هذه الظاهرة مفيدة للعلماء لأنها تعمل على تركيز الصخور الفضائية في مواقع محددة.
في بعض مناطق القارة، تعمل الرياح القوية على كشط الجليد من الأعلى، مما يكشف عن النيازك وغيرها من المواد الموجودة في الجليد، حيث يمكن أن تبقى الصخور لآلاف السنين. ويطلق العلماء على هذه البقع اسم “الجليد الأزرق” بسبب لونها. تساهم هاتان العمليتان الطبيعيتان في تسهيل عملية البحث عن النيازك؛ ومع ذلك، يقدّر العلماء أن هناك مئات الآلاف من النيازك ما زالت مدفونة تحت الجليد في القارة القطبية الجنوبية، بانتظار من يكتشفها ويُسهم في الكشف عن المزيد من أسرار الكون.

القارة القطبية الجنوبية، أنتاركتيكا، موقع رئيسي لصيد النيازك. تظهر الأحجار الأرضية بوفرة في منطقة الجليد الأزرق خلال المهمة الميدانية لمعهد القطب الجنوبي التشيلي عام 2022. المصدر: جامعة سانتياغو

يُعد البحث عن النيازك في القارة القطبية الجنوبية مهمة شاقّة ومليئة بالتحديات، فظروف الطقس القاسية ووعورة التضاريس تُشكِّل عقبات كبيرة أمام عمل الباحثين. يتم رصد معظم النيازك التي يتم جمعها من القارة البيضاء بالعين المجردة، وذلك من قبل باحثين يركبون عربات الثلوج بحثاً عن صخور فضائية مرئية تبرز من الغطاء الجليدي.على سبيل المثال، كان جيفري إيفات، الأستاذ المحاضر في الرياضيات الصناعية في جامعة مانشيستر، جزءاً من أول رحلة استكشافية للمملكة المتحدة إلى القطب الجنوبي، والتي انتشلت 120 نيزكًا من عام 2017 إلى عام 2020، وهي رحلة تمت مثل العديد من الحملات الميدانية الأخرى بعد خمس سنوات على الأقل من التخطيط. “بعد كل تلك السنوات، تجد نفسك أخيرًا هناك، وهناك نيزك أمامك”. “إنه أمر لا يصدق تماماً” يقول إيفات.

وفيما يتعلق بكيفية استخراج النيازك الغارقة فلا يزال سؤالاً مفتوحاً حتى اللحظة. خلال حملتهم الميدانية، قامت مجموعة إيفات باختبار جهاز الكشف عن المعادن المصمم للبحث عن النيازك الحديدية الموجودة تحت سطح الأرض. على الرغم من أن الكاشف، الذي تم سحبه بواسطة عربة ثلجية تم ربطه بها، كان قادراً على تحديد الأفخاخ التي قامت المجموعة بحبسها يدوياً في الجليد، مما يؤكد صحة التقنية، إلا أن النطاق الشبيه بالموجة، المعرّض لأشعّة الشمس، قد عطّل عمل الجهاز في غضون أيام وجيزة. يقول إيفات “لم نتمكن من البحث في منطقة كبيرة بما يكفي للعثور على العدد المنخفض جدًا من النيازك الحديدية التي كنا نبحث عنها.”

تُغمر النيازك تحت طبقة سميكة من الجليد، مما يجعل من الصعب تحديد مواقعها بدقة، وتتطلب عملية استخراج النيازك الغارقة تقنيات متقدمة ومكلفة، مما يحد من قدرة الباحثين على القيام بعمليات واسعة النطاق.

إن قصّة النيازك في القارة القطبية الجنوبية تُذكّرنا بارتباطنا العميق بالكون وبمسؤوليتنا تجاه حماية كنوزه. يعدُّ فقدان النيازك خسارة فادحة للبشرية، فكلّ نيزك يُمثل فرصة لفهم تاريخ الكون وتكوين الكواكب بشكل أفضل. إن حماية هذا الكنز العلمي مسؤولية تقع على عاتقنا جميعًا، فمن خلال الجهود الجماعية والتعاون الدولي، يمكننا ضمان الحفاظ على هذا التراث العلمي للأجيال القادمة.

المصادر:
1. Antarctic meteorites threatened by climate warming | Nature Climate Change
2. Meteorites in Antarctica Are Getting Harder to Find because of Climate Change | Scientific American
3. A ‘shocking’ amount of meteorites are disappearing because of global warming (astronomy.com)

عن هيئة التحرير

شاهد أيضاً

القمم الشاهقة…بين الأسطورة والفلسفة والعلم

شبكة بيئة ابوظبي، بقلم د. هادي عيسى، باحث في مجال علوم الأرض في جامعة الإمارات …